أُسدل الستار اخيراً على حياة واحد من أعنف مجرمي القرن وأشدهم غرابة مع مقتل الاميركي جيرفي داهمر 34 عاماً في سجنه في ولاية ويسكونسن. فالقتيل "وحش إنساني" روّع مدينة ميلووكي على مدى ثلاثة عشر عاماً ونيف قبل ان تطاله يد العدالة في 1991 ويُزج به في السجن لقضاء 7 احكام بالسجن مدى الحياة عقاباً له على جرائمه التي راح ضحيتها 17 مراهقاً. ولئن دفع داهمر بموته الثمن الباهظ لما اقترفته يداه، فقاتله كان أشد رأفة منه بكثير. ففيما عمد السفاح "الوحش" الى تقطيع ضحاياه والتهام لحمهم، انهال عليه مهاجمه بضربات متلاحقة بواسطة اداة صلبة سددها الى رأسه وتركه يتخبط بدمه على ارض الحمام حيث اكتُشف بعد دقائق وهو يلفظ انفاسه الاخيرة. وداهمر، الذي نال عن جدارة لقب "أفظع سفاحي اميركا" بدأ جرائمه المروعة في سن مبكرة. اذ شرع في عامه الثامن عشر مسلسل الرعب، الذي خوله دخول تاريخ الاجرام في العالم. ارتكب أولى جرائمه العام 1978، وكانت الضحية مسافراً في مقتبل العمر التقاه داهمر مصادفة وتناول معه بعضاً من الشراب قبل ان يقتله ويقطع جثته الى 50 قطعة أخفاها في غابة قريته. وجاءت هذه الفعلة ذروة تحول جذري مر به الشاب في ربيعه الخامس عشر بعد انفصال والديه اللذين عاش في كنفهما حياة متوترة وعانى على الدوام من مشاكلهما وخلافاتهما التي لا تنتهي. ومنذ تفككت عائلته، أخذ المراهق يبدي علامات القلق والضياع. فهو أدمن الخمر في سن مبكرة، ودأب على الذهاب الى صفه مترنحاً لشدة السكر. وانعزل داهمر عن زملاء دارسته مفضلاً البقاء وحيداً سواء في البيت او خارجه، حيث قضى شطراً من وقته في الغابة المجاورة. وهناك شاهد ابناء المنطقة آنئذ مناظر احتاروا في تفسيرها، اذ طالما لاحظوا وجود أشلاء حيوانات موزعة على نحو منظم فوق بقعة ما في عمق الغابة. وكثيراً ما تساءلوا عن ذلك الشغوف بقتل الكلاب ووضع رؤوسها المقطوعة فوق عصي طويلة الى جانب جلدها المسلوخ الذي ثبت بمسامير الى شجرة وجثثها التي نُثرت قطعها المتساوية حول المذبح البدائي. وخلال تلك الفترة، لاحظ مدرس الكيمياء ان الشاب الصغير داهمر يبدي اهتماماً استثنائياً في تأثير مادة الأسيد على اللحم، أياً كان نوعه، وكيفية ذوبان هذا الأخير بفعل السائل الكيماوي. لم يكن المدرس قادراً على التنبؤ ان تلميذه سيلجأ الى الأسيد فيما بعد للتخلص من اطراف ضحاياه المراهقين والصغار. وعجز جيران داهمر عن ادراك ان الصبي ذا المظهر الهادئ لجأ الى الحيوانات قصد التدرب على كيفية التمثيل بالبشر الذين سيقتل منهم 17 صبياً وشاباً. التطوع في الجيش وقبل ان يتمرس في قتل اولئك الذين انخدعوا بمظهره المضلل مكث داهمر سنوات عدة من دون ان تتلطخ يداه بالدم لمرة ثانية. فبعدما ارتكب اولى جرائمه تطوع في الجيش، وأرسل الى ألمانيا للالتحاق باحدى الوحدات العسكرية. الا ان الخمر التي أدمنها منذ سنوات الدراسة وضعت حداً لمستقبله العسكري، اذ تم الاستغناء عن خدماته بعدما شوهد في حالة سكر شديد اثناء العمل مرات عدة. وهكذا انقضت فرصة سنحت بانهماك الشاب بالحياة العسكرية الصارمة التي كانت ستشغله عن الرغبات الشريرة التي بقيت كامنة في نفسه تنتظر اللحظة المناسبة لتطفو على السطح. الجريمة الثانية وفعلاً، بعد سنوات عشر من الجريمة الأولى، استجاب داهمر لرغبته الخبيثة مرة ثانية واقتاد مراهقاً في الرابعة عشرة من عمره الى منزل جدته حيث قتله وأخفى جثته المشوهة. وفي السنة ذاتها أعاد الكرة مرة اخرى. وبعدما عثر على عمل في مصنع للشوكولاته ارتكب جريمته الرابعة العام 1989 قبل ان ينتقل للعيش في شقة مستقلة شهدت جرائمه الباقية كلها. وهذه تمت بوتيرة سريعة: 11 جريمة خلال مدة لا تزيد على سنتين، فكأن الشاب الغريب الاطوار اطمأن الى "نجاحاته" فتمادى في اشباع نزواته البشعة التي لم تقتصر على القتل بل تعدته الى الاعتداء الجنسي على المغدور والتمثيل بجثته اضافة الى التهام بعض اجزائها. الا ان حرصه الشديد على الايقاع بشباب ومراهقين من المشردين والشاذين جنسياً الذين لا ينتبه احد لغيابهم المفاجئ، لم ينفعه في الافلات مرة اخرى من يد العدالة. اذ فشلت محاولته لقتل ضحيته الثامنة عشرة حين فر "المرشح للموت" تراسي ادواردز من شقة داهمر ذات الرقم 213 بعدما رأى سكيناً كبيرة، كتلك التي يستعملها الجزارون، مخبأة في حجرة النوم انعبثت منها رائحة كريهة تثير التقزز. وحالما وجد نفسه خارج المنزل توجه الى اقرب مركز للشرطة حيث ابلغ المناوبين هناك بما شاهده. هكذا لم يعد الخبث والانعزال عن الناس كافيين لضمان سرية سلوك داهمر الشرير وجرائمه البشعة ووجد نفسه فجأة امام رجال الشرطة الذين جاؤوا يقرعون بابه بقصد تفتيش الشقة. لم يتوقع الزوار ان تكون الرائحة كريهة الى درجة اجبرتهم على استعمال الكمامات المزودة باسطوانات اوكسيجين، اذ استحال عليهم تحمل رائحة الهواء الملوث الذي ملأ المكان. واستغرب رجال الشرطة عدم تنبه القاطنين في المنازل المجاورة للشقة المشؤومة 213 الى الرائحة التي تثير التقيؤ والى ضجيج المنشار الكهربائي الذي طالما استعمله المجرم في تشريح ضحاياه. الا ان الجيران أفادوا ان الشاب الهادئ داهمر اقنعهم ان سبب الرائحة يعود الى ثلاجته التي اصابها بعض الخلل ما يؤدي، من حين الى آخر، الى فساد الطعام واللحم الذي يخزنه فيها. من يلوم الجيران لأن الكذب انطلى عليهم، ولم يعرفوا ان اللحم الذي ذكره "الوحش" داهمر كان لحم ضحاياه الذي احتفظ بكميات منه في الثلاجة الى جانب عدد من اعضائهم وأجهزتهم الداخلية التي اراد تناولها فيما بعد! صور للذكرى وعدا ذلك، وجدت الشرطة هياكل عظمية وقطعاً من جثث جديدة نسبياً موزعة في ارجاء الشقة. وعلى جدران المنزل علق داهمر عدداً كبيراً من الصور، التي التقطها مع ضحاياه - بعد موتهم - في اوضاع مشينة، بواسطة كاميرا من طراز بولارويد. ولما سئل عن سبب احتفاظه ببقايا المراهقين المساكين الذين لاقوا حتفهم على يديه، قال داهمر انه خبأ بعضها "على سبيل الذكرى" فيما ابقى على بعضها الآخر كي يلتهمها "في وقت لاحق ... فأنا كما تلاحظون، لا احتفظ بمؤونة غذائية" من النوع الذي يتناوله الآخرون. هذا الاعتراف الغريب دفع بعض علماء النفس والمحققين، ممن تابعوا القضية فور انكشاف تفاصيلها، الى الظن بأن بحثه عن "طعامه المفضل" كان الدافع الاساسي الى ارتكاب هذه الجرائم كلها. لكن سرعان ما تبين هؤلاء خطأهم حين نفى في المحكمة ان يكون ذلك هو السبب وراء جرائمه الفظيعة. وأكد في مقابلة صحافية ان "القتل لم يكن الغاية الرئيسية التي رميت اليها ... رغبت ان اسيطر سيطرة مطلقة على الشخص الذي ينفذ كل ما آمر به. كنت أريد ان اجرب اللحم البشري، اذ شعرت بشيء من الفضول بخصوص طعمه. وأكل لحم الضحية جعلني احس انها اصبحت جزءاً مني، وهو احساس استمتعت به". لم يشكك احد بصدق هذا الاعتراف، اذ لاحظ الجميع انه كان جريئاً خلال المحاكمة لم يخش الحديث عن جرائمه ونزواته بصراحة تامة. وربما كان هذا دليلاً آخر الى انه يفتقر الى الاتزان النفسي والصحة العقلية ما دفع المحكمة الى اعتباره "غير مسؤول" تماماً عن كل ما اقترفه بسبب مرضه. ومع ذلك صدر في حقه حكم بالسجن لفترة تزيد على 900 سنة، ولو كانت ولاية ويسكونسن تطبق احكام الاعدام لوجد داهمر طريقه الى الكرسي الكهربائي او حبل المشنقة. ومع انه عبّر عن أسفه في نهاية المحاكمة لما فعله، وأبدى ندمه الشديد على ازهاق تلك الارواح البريئة، اعترف في مقابلة صحافية اجريت معه بعد اشهر قليلة بأنه سيرتكب جرائم قتل جديدة، على الارجح، اذا اتيحت له الفرصة. وعبر عن رغبته بالموت، الذي كاد يلاقيه في شهر تموز يوليو المنصرم، اذ حاول أحد السجناء ذبحه بواسطة موسى الحلاقة. الا انه نجا بأعجوبة، واستمر في حياته منعزلاً عن الآخرين حتى تمكن سجين، اسود البشرة كما يعتقد المحققون، من النيل منه انتقاماً لضحاياه الذين كان معظمهم من الزنوج. وموت داهمر، الذي اهتدى الى الدين وواظب على الصلاة منذ اشهر قليلة، اشاع الحزن في نفوس كثيرات. ولعل هذا هو وجه الغرابة الآخر في حكاية "الوحش الانساني" التي يُصعب تصديق بعض تفاصيلها سواء لغرابتها او بسبب فظاعتها البالغة. ومع ذلك يبدو ان داهمر لم يكن فريداً بين أبناء الجنس البشري، والا كيف تقع الكثيرات في حبه؟ وكيف تنهال عليه عروض الزواج من صبايا واصلن الكتابة له خلال فترة سجنه كلها، اذ يقول موظفو السجن انه دأب على تلقي سيل من الرسائل أتى معظمها من "طالبات القرب"! احدى هؤلاء ديبي واتسون 27 عاماً، واظبت على اتصالها به من لندن حيث تعيش. وهي أمعنت في تدليله حتى بدأ يرد على رسائلها مخاطباً اياها "يا ملاكي". وبلغ بها الحب مبلغاً كبيراً فلم تتردد بارسال 4 آلاف جنيه استرليني لحبيبها كي ينفقها على نفسه. ولما حاولت زيارته في السجن نصحها القائمون عليه بعدم السفر الى ويسكونسن لأنهم لن يسمحوا لها برؤيته. وعلى رغم عتبها الشديد عليه، الذي عبرت عنه بشيء من القسوة قبل ايام قليلة، لأنه كتب ردوداً لرئاسل تلقاها من صبايا اميركيات، نزل عليها خبر مقتله نزول الصاعقة وعجزت صديقاتها عن مواساتها لهذا المصاب الأليم، فانصرفن عنها وهن يفكرن بأن "لله في خلقه شؤون".