خصت دار الهلال المصرية رواية حنان الشيخ الجديدة "بريد بيروت" بتسمية "عدد العيد المئوي" وهي رواية عن حرب لبنان تضيفها الروائية اللبنانية الى اعمال لها، دخل بعضها العالمية عبر الترجمات الى لغات عدة. "الوسط" التقت حنان الشيخ لتقدم بنفسها صورتها كإنسانة وكاتبة. عن بيروت وستينات بيروت حين كان الحلم فرساً يقود الى الفن: حوافز الكتابة الاولى ولحظات التغير، ومؤثرات العلاقة بالاب والام والصديقات وبالزوج والابناء… وبالامكنة المتعددة شرقاً وغرباً. بعد كتابها الاول الذي تقول اليوم انه "لم يكن حقيقياً" هدمت الجدران التي كانت تقف بينها وبين تعبيرها ووجدت لغتها. رواية "حكاية زهرة" لفتت بجرأتها وترجمت الى الانكليزية والفرنسية والالمانية والهولندية. و"مسك الغزال" كان من الكتب الاكثر مبيعاً في اوستراليا وصدر حديثاً عن "دوبل داي" في اميركا التي نشرت كتباً لنجيب محفوظ. وهو ترجم ايضاً الى الالمانية وسيترجم الى الفرنسية والايطالية. ترفع حنان الشيخ حاجبيها عندما تتحدث عن "حكاية زهرة": "تجدينه جريئاً؟ عند صدور الكتاب، وكان الثاني لي، لم يقل احد في العالم العربي أنه جريء، قالوا انها رواية صادقة ومهمة وفيها تقنية واضحة وشخصياتها حقيقية. عندما ترجم اخذ النقاد الغربيون يتحدثون عن الجرأة فيه، وعجبوا كيف ان امرأة عربية تحكي عن الحب وتجرؤ". صورة الغرب عنها كانت تضايقها: "يحصرونني خصوصاً في الدول الاوروبية في كوني امرأة عربية تكتب بجرأة، ويتوقفون عند الجانب الاجتماعي في الرواية كأنها وثيقة، ويتركون اسلوبي الى النهاية كأنهم يتناولونه من باب رفع العتب. في البدء كنت اتضايق ثم قلت: "معهم حق". في "حكاية زهرة" مثلاً كتبت عن الحرب اللبنانية وشخصياتها المدنية والعسكرية، وفي "مسك الغزال" تناولت وضع المرأة العربية. الغربيون كانوا يشاهدون على التلفزيون مشاهد من المعارك ومقاتلين ونساء تمر في الشوارع من دون ان يعرفوا بمَ يحسّ هؤلاء حقاً. الروايات تجعلهم اقرب الى الاحداث، وهي اهم من الف نشرة اخبارية. لانها تصور العاطفة وما وراء الصراخ. لونه، شكله، وموقف المرء منه. جرأتي طبيعة ولا أتقصدها، واذا عدت الى تاريخي الصحافي ترين ان رؤساء التحرير يشهدون انني كنت خارجة عن المألوف في اختيار المواضيع ومعالجتها". روايتها الاخيرة "بريد بيروت" صدرت في تشرين الاول اكتوبر 1992 عن "دار الهلال": "كلهم يسألونني عما اذا كانت تتطرق الى الحب. سيخيب املهم لانها تخلو منه. لماذا يحضر الحب بقوة في اعمالي؟ لانه موجود في حياتنا، واكتب عنه اذا كانت له علاقة بالاحداث. ارى ان الحب في "حكاية زهرة" كان حامضاً وغير جميل. واقعي. في "مسك الغزال" كان ناعماً جداً. محمود درويش قال ان تعبيري كان شاعرياً ولطيفاً. في عدد "الناقد" عن شهر تموز 1992 نشرت قصة "ساحة الكاتاستروف" تعمدت فيها الكتابة بصراحة وان باختصار عن الحب. رجل يهرب من زوجته ولكنها تنجح دائماً في اكتشاف مكانه. تموت زوجته، ولكنه يحس انها تراقبه على الدوام". كتبت حنان الشيخ عن الحرب في لبنان مع انها غادرته في اولها. يتوقف قارئ "حكاية زهرة" عند مثلث الحب والحرب والموت الشائع في الروايات السياسية الطابع، لكن ما الذي تعرفه حقاً عن الحرب والموت فيها؟ تعترف انها تركت لبنان في آخر 1975، والحرب بدأت في نيسان ابريل من ذلك العام. "قصدت لندن اولاً ثم الخليج. التحدي هو ان اكتب لا اسجل، لبنانيون كثر سألوني كيف اكتب عن الحرب وانا بعيدة عنها، لكنني كنت امزح كلما عدت الى لبنان ورأيت ان كل ما كتبت عنه حقيقي وواقع. الكاتب لا يدون والكتابة مثل البصلة يقشرها حتى يصل الى الداخل. احياناً يحضر المرء ولكنه لا يرى الاشياء او يحس بها، والكاتب البعيد الاف الاميال يرى افضل منه". بدأت تنشر اعمالها في 1970 مع "انتحار رجل ميت" الذي تبعته روايات اخرى هي "فرس الشيطان" و"حكاية زهرة" و"مسك الغزال" ومجموعة "وردة الصحراء" التي تتطرق فيها مع رواية "بريد بيروت" الى الحرب في لبنان ايضاً. وككثيرين من الكتاب لا يعجبها اول اعمالها: في "انتحار رجل ميت" كنت ارغب في وضع جدار بيني وبين قلمي لكي لا اكتب عن نفسي. كان بلا قلب. اهتممت بالجملة والجو كأنني اقلد البرتو مورافيا او انسي الحاج الذي تأثرت بلغته ونظرته الى المرأة. وتأثرت بتجربة شخصية فكتبت عن فتاة صغيرة تحب رجلاً في الاربعين لكنني اخترعت الوقائع. عرفنا في ذلك الحين فورة نسائية وكلما كتبت واحدة قالت: "انا المرأة". اردت ان اكتب رواية لا ادباً نسائياً او معاناة شخصية فابتعدت عن الحقيقة. كنت تحت وطأة تأثير الوجودية وجو مقهى "الهورس شو" والاشياء الجديدة التي احسست عندما كتبت عنها انني اقتربت منها. فنجان الشاي وملعقة السكر كانا غريبين عني في طفولتي، وعندما وصلت الى مثل هذه الاشياء الصغيرة بهرت بها واحسست انني ارتقيت درجة في المجتمع. كنت احب ذلك، لكن "انتحار رجل ميت" لم يكن حقيقياً. وصف الفتاة للرجل يشبه فنجان الشاي. بورسليني بارد وان كان براقاً". المزاج والصديقات يتحدث كثيرون عن مزاجيتها وغرابة اطوارها وهي تؤكد وتنفي: "كنت مزاجية وما عدت كذلك. المزاجي قلق وضائع وكان عملي يقلقني. عند الوصول الى القناعة والامان مع النفس يستقر المرء. صراحتي تجرح احياناً واذا لم أؤمن بشيء ارفضه. لم اكن مثل اترابي لكنني لم اتعمد ان اختلف عنهم وان كنت احب ان الفت النظر. لم اكن عادية ولا ازال. خلقت هكذا، عندي رؤية، وعقلي يفكر على نحو مختلف". تتميز حنان بعينها الحساسة التي تلتقط ادق التفاصيل وتشحنها بحرارة تناقض هدوءها، وربما برودها، الظاهر. فتقول: "انا صادقة وفي الوقت نفسه متعددة الشخصيات. اراقب اكثر مما اعيش، مثل ناطور تين يرصد العصافير. اراقب الحركة والكلام واكثر ما يلفتني الرائحة. لا أسأل كثيراً على الرغم من فضولي لان السؤال قد يضعني في اطار معين والجواب قد يخيب املي. شخصية سوزان الاميركية في "مسك الغزال" استوحيتها من سيدة عرفتها ولكنني امتنعت عن استقبالها عند بلوغي نهاية الرواية لكي لا اعرف تطورات قصتها فأنهيها كما اريد. المراقبة ليست طبيعية ولا ممتعة، والكتابة معها تصبح تأليفاً تفتقر الى العفوية. لكنني اعرف ان هذه حياتي مع انه كان في امكاني ان اتسلى اكثر". لم تكن قرأت كتاب "رسائل غسان كنفاني الى غادة السمان" عندما التقيتها في 7 تشرين الاول اكتوبر. عن رأيها في الخطوة: "لم لا؟ هي رغبت في ذلك ولكنني اشك في صدقها ولا اعرف مدى امانتها وصدقها في نشر الرسائل. لديّ رسائل عدة من كتاب مشهورين ولكنني لا انشرها الا اذا نشرت ردي عليها ليظهر موقعي في العلاقة". وعن نهى سمارة الصحافية والكاتبة التي توفيت منذ اشهر في لندن بداء السرطان: "كانت صديقتي منذ الطفولة اذ عشنا في الحي نفسه في رأس النبع. عندما مرضت اخذنا نتذكر الماضي ونقلد امها عندما كانت تهز اصبعها وتقول: "انا امرأة دغري". كأننا اتينا ببيروت القديمة وبدأنا نفرطها مثل كوز رمان نفتحه حبة حبة. وكنا نتنافس لكي تتذكر الواحدة اكثر من الاخرى ونضحك. حزنت عندما تذكرت الكثير بعد موتها. بقيت صافية ولم ار احداً يعرف انه سيموت ويبقى كما هو. وجدت الموت سخيفاً وقالت انها خبرت الحياة ولا تحزن لانها سترحل. موت الصديق اصعب من موت الاهل. بعدها صرت احس اكثر بما حولي وانتبه الى جمال الورد والشجر وأحس بدمي وهو يمشي في شراييني". تزوجت من المهندس ورجل الاعمال فؤاد المعلوف: "لو تزوجت غيره كنا انفصلنا. ليس هناك رجل عربي يقبل بأن تعطي زوجته هذا الوقت للكتابة وتكون جريئة فوق ذلك. فؤاد ناجح لذلك لا يتضايق. وهو مرهف، واعجب لانه لم يصبح كاتباً او شاعراً. يقرأ كتبي بعد نشرها ويقول انني ابالغ وازيد ملحاً وبهاراً. في علاقتنا مساواة، وهذا الاهم". ابنها طارق في التاسعة عشرة يدرس الاقتصاد وجمان في السابعة عشرة ولا تزال طالبة: "يحسان احياناً انهما امي وابي لانهما عمليان اكثر مني، ويتذمران عندما يجدانني نزقة احياناً". درست حنان الشيخ في "المدرسة العاملية الاسلامية للبنات" في بيروت ثم اكملت تعليمها الثانوي في المدرستين "الانجيلية" و"الاهلية". ذهبت الى مصر لتدرس "التوجيهية" لانها كانت "كسولة في الحساب. وسرني ذلك لانه سمح لي بالسفر وخلق شخصية جديدة بعيداً عن البيت". عن طفولتها تقول: "كان ابي شديد التدين ومتشدداً، وهو منحنا حباً عظيماً وكنا نستطيع، انا واختي فاطمة سمت نفسها "تيما" في ما بعد ان نقنعه فيقتنع ولو على مضض. كان عليّ ان اضع غطاء الشعر عندما كنت في الحادية عشرة. امي كانت امية ولكن خارقة الذكاء عاطفية وحلوة كثيراً وشغلها نجوم السينما. اعتقدت ان الافلام واقعية وكانت تحزن اذا لم يتزوج الحبيبان في النهاية. كانت سابقة لزمانها، وكل من عرفها يقول انها كانت انجزت الكثير لو تعلمت". بعد طلاق والديها وزواج امها "من رجل تحبه" اعتنت جدتها، ام امها، بها وأختها: "استغليت القصة لكي يحبني الجيران ومن في المدرسة. كلما اردت التخلص من الدراسة اتذرع بمعاناتي، ومرة تخلصت من الامتحان بالقول ان المحكمة ستجتمع لتقرر لمن سيكون حق حضانتنا وان ذلك يقلقني. تبدي امي ندمها عندما ترانا لأنها تركتنا فأقول لها ان ذلك كان امراً جيداً لأنها اعطتني مادة كبيرة وجواً مختلفاً. كنت اشتاق اليها ولم اكرهها لكنني غرت من اخوتي، اولادها، عندما كنت اراهم معها. كان جو بيتنا قاسياً وكذبت ونافقت كثيراً لكي اخرج منه". الطفولة الصعبة كتابها الاول كان مخطوطة اضاعتها عنوانها "مهلاً يا أماه" وكتبتها عندما كانت في الرابعة عشرة. "كانت طفولتي صعبة وأحسست باطمئنان عندما كنت اقرأ. اول كتاب قرأته كان القرآن الكريم. الكلمة المطبوعة تشعرني ان لي علاقة بها، وكنت استعير كتب كامل كيلاني ومجلة "سندباد" من بيت الجيران. كنت اعتقد ان الكتب تخلق مثل الشجر وأدمنت على القراءة التي باتت ضرورية لي اكثر من اللعب والصداقة مع البنات، وتوسع افقي كثيراً بها". تعتقد ان جرأتها في الكتابة تعود الى طفولتها: "لم اعش في بيت نموذجي وافتقرت الى العائلة المتماسكة. ابي كان مثالياً وأخلاقياً ولكنه كان غريب الاطوار. احس ان لا حق للمجتمع عليّ لأنه لم يعطني شيئاً. نشأت وحدي وصنعت نفسي بنفسي. كأن قدري قال منذ البدء: "هذه ستكون كاتبة". احس اليوم ان كتابتي تتغير. مررت بمراحل كثيرة منذ الكتاب الاول، وربما جعلني عيشي في الغرب افكر ان كتابة الرواية طريقة حياة وليست فقط تعبيراً. كنت انتقي المواضيع مما يمسني مباشرة، واليوم اثير تساؤلات عالمية لا محلية فحسب. لم يعد يضايقني عيشي بعيداً عن لبنان، وأحس انني استطيع العيش في اي مكان". تشترك حنان الشيخ بمسرحية من فصل واحد في "اسبوع الكتابة المسرحية" في هامستيد، شمال لندن: "هي المرة الاولى التي اكتب فيها للمسرح والتجربة حلوة، وسائر المشتركات كاتبات مسرح ما عداي. كتبت "انا وحدي" اولاً كما اكتب القصة القصيرة ولكن في حوار، فأرشدوني الى الطريقة وأعدت الكتابة. المسرحية من نوع الكوميديا السوداء وهي عن لبنانيتين في الخمسين والستين تسكنان في شقة على حساب الدولة. تحكي عن التشرد واختلاف العيش والحضارة. احبوها كثيراً.