الصعود الاقتصادي في فترة السلم لا يشبه فترة الحرب. معارك التبانة وبعل محسن ليست استثناءً. التقاطع بين النفوذ الاقتصادي والنفوذ العسكري-السياسي يُشكل ركناً أساسياً في منظومة الحرب واقتصادها. منظومةٌ تُعيد إنتاج نفسها من خلال جولات عنف مستمرة. المشهد يبدو أقرب الى لعبة شطرنج، لكنه ليس فعلاً كذلك. لعبة تتداخل فيها الرقع البيض بتلك السود، فتصبح مناطق رمادية تتحرك فيها الحجارة، وفق موقع وتراتبية كل حجر-فرد في دينامية الصراع. في أعلى الهرم العسكري، وسطاء حرب يشكلون حلقة الوصل بين الممولين والمقاتلين، لديهم"وجودهم على الأرض"وفق التعبير السائد. هم قادرون على الإمساك بالوضع الميداني، يراكمون المال، يوزعون بعضه، بهدف تعزيز النفوذ. لا مصلحة لهؤلاء"الملوك"و"الوزراء"في الرقعتين البيضاء والسوداء بإنهاء الصراع... وما يحمل معه من نفوذ. أما أسفل الهرم، ف"بيادق"مسحوقة اجتماعياً، غالبيتها شباب عاطلون من العمل ومتسربون من المدارس، يشكلون أدوات الصراع الأساسية. القتال:"شبكة حماية"المحاربين لا يتلقى معظم"البيادق"مبالغ مالية مقابل مشاركتهم في القتال. فهم ليسوا قتلة مأجورين مستعدين لتصفية جيرانهم مقابل معاشات شهرية أو"بدل أتعاب"كما يقولون، وليسوا أيضاً أبطالاً مستعدين للتضحية بدمائهم من أجل قضية. مقاتلو باب التبانة وبعل محسن هم أشخاص"عاديون"فُرض عليهم العيش ضمن منظومة حرب تورطوا فيها فأصبحوا جزءاً من أدواتها. أتقنوا التعامل معها والاستفادة منها. نشاطهم العسكري يوفر لهم نوعاً من"شبكة حماية"، هشّة في طبيعة الحال، لكن لا يوفرها نشاطهم المهني. فالمشاركة القتالية تضمن ما يشبه"التغطية الصحية"، جزئية في طبيعة الحال، للمقاتل وعائلته داخل المعارك او خارجها. وقد تفتح الباب أمام إيجاد فرص عمل. "منذ حوالى السنتين، وشباب مجموعتي يعملون معي، لم يبقَ أحد منهم عاطلاً من العمل"، يقول أحمد اسم مستعار وهو قائد ميداني في بعل محسن ومتعهد بناء داخل طرابلس وخارجها. وبهذا يكون المسؤول العسكري رب العمل في الوقت نفسه. حسام اسم مستعار هو أحد العمال/ المقاتلين، أب لستة أولاد كان يعمل حمّالاً مياوماً في سوق الخضار، ويتقاضى حالياً 220 دولاراً في الأسبوع مقابل عمله في ورش البناء مع أحمد. تحسّن وضعه في شكل ملحوظ."حين تبدأ المعارك، أغادر الورشة وأصطحب معي عمالي للدخول الى الجبل"، يقول أحمد. ثم يضيف:"احياناً اضطر الى إبقاء بعض العمال في"الورشة"كي لا أثير استياء المقاول بفعل تأخير التسليم". أما في بعل محسن حيث التراتبية الحزبية تلعب دوراً أساسياً، فتدخّل الحزب العربي الديموقراطي مباشرة لدى ارباب العمل في منطقتي جبيل والصفرا، يكون لإعادة أبناء الجبل الى وظائفهم بعدما تم تهديدهم بالطرد إثر تغيّبهم عن العمل للمشاركة في المعارك. هذا وفق ما قال علي فضة، عضو المكتب السياسي للحزب العربي الديموقراطي المسيطر في الجبل بقيادة رفعت علي عيد. وفي أثناء المعارك، يتولى المسؤولون الميدانيون في بعل محسن، بالتنسيق مع القيادة السياسية، الإنفاق على المقاتلين وعائلاتهم."كيف يمكن المقاتل أن ينفق على نفسه وعلى عائلته والمعركة مشتعلة؟ إن لم أؤمّن له مصروفه، سيرمي بندقيته، ليتركني ويتدبّر امره"، يقول أحمد بعفوية. في بعل محسن أيضاً، يتم التعويض للمقاتلين عن وقف نشاطهم الاقتصادي، هذا إن كان موجوداً بالفعل، بعد جولات العنف بمبالغ تتراوح بين 250 ألف ليرة نحو 160 دولاراً وفق دور المقاتل ومدة المعركة، فيما تنحصر الاستفادة من التقديمات الصحية خارج المعارك بالمقاتلين والمقربين من القيادة السياسية. الأمر مشابه في التبانة، لكن من دون منهجية حزبية نتيجة تعدّد القيادات السياسية... إلا ان مقاتلي التبانة يستفيدون بدورهم من"شبكة الحماية"نفسها وأحياناً من مساعدات نقدية. ولعلّ إقفال مكاتب معظم الزعامات المحلية بُعيد انتخابات 2009 في التبانة، وما استتبعه من شح في تقديم المساعدات والخدمات الاجتماعية، أدى الى تنامي دور القيادات الميدانية.... فأصبحت تُقدم المساعدات لمقاتليها ولعائلاتهم بشكل مباشر أثناء المعارك وخارجها. ويقول المقاتل أبو عوّض عن عمر قائده الميداني:"الحمد لله انه دائماً يساعدنا... قدر استطاعته بالطبع. يوزع علينا الخبز والخضار وأحياناً الأدوية"، معبراً عن استيائه من الزعامات الطرابلسية. المقاتل المخضرم كان يملك مسمكةً متواضعة في التبانة، احترقت ومنزله في إحدى المعارك منذ حوالى سبعة أشهر. ومن حينها، لم يعد قادراً على إعالة أولاده الثمانية."هذه السنة لم اسجّل أولادي في المدرسة الرسمية، للأسف اصبحت بين خيار ان أطعمهم أو أن أعلّمهم". في كل الأحوال، تسرب اثنان منهم 13 و15 سنة من المدرسة والتحقا بالمعارك منذ اندلاعها. ويستعيد نبرته المتفائلة بصعوبة فيقول:"لكن أولاد الحلال أمثال الحاج عمر ما زالوا موجودين". هنا، تتعدى"التغطية الصحية"فترة المعارك. فالقائد الميداني يتحمّل مسؤولية ولو جزئياً طبابة واستشفاء مقاتليه وأسرهم في فترات الحرب كما"السلم". محمود مثلاً 17 عاماً هو أحد مقاتلي القائد عمر. شاب نحيل وقصير القامة، يعمل نجاراً في التبانة براتب شهري لا يتعدى 120 ألف ليرة حوالى 80 دولاراً. خجول، قليل الكلام وكثير التدخين. محمود يساعد والده، عامل التنظيفات، في إعالة عشرة إخوة وأخوات. الراتب لا يكفيه شيئاً بعد خصم مصروف سجائره اليومية. لذلك، يُضطر الى العمل كعتّال ليلاً في سوق الخضار وبالكاد يؤمّن خبزه اليومي. يقاطع القائد عمر الحديث بنبرة لا تخلو من الفوقية:"حين يمرض هو أو أحد إخوته المقاتلين، اضطر لتغطية طبابتهم وأدويتهم". وإن كان مقاتلو أحمد جبل محسن عمّال بناء، فمعظم مقاتلي عمر تبانة عتالون في سوق الخضار، وليست صدفةً أن تكون شرايين الحرب هي القطاعات الاقتصادية الأساسية في المنطقتين. فالصعود في هرمية قطاع البناء والألبسة في بعل محسن يشكل رافعة لصعود السلّم العسكري والسياسي. كذلك في باب التبانة حيث الانتقال من"عتال"الى"معلّم"وصولاً الى تاجر خضار غالباً ما يترافق مع فرض"نفوذ على الأرض". وسطاء الحرب في بعل محسن، لا يوجد وسطاء حرب. هو وسيط واحد يتمثّل برفعت عيد. لكن المسؤولين الميدانيين كثر وأوضاعهم تتحسّن تدريجاً. فهم صلة الوصل بين القيادة السياسية المركزية والمقاتلين، لجهة توزيع السلاح والذخائر والإعاشات والتعويضات. أحمد مثلاً أصبح منذ سنتين"معلّم باطون"بدخل يومي يقارب 100 دولار. يتعهد ورش بناء على حسابه الخاص، فيما كان سابقاً عامل بناء بأجر يومي لا يتعدى 22 دولاراً. وصحيح أنه بعد كل جولة عنف، يعوّض عليه صندوق الحزب العربي الديموقراطي المبلغ المدفوع خلال المعركة من ذخائر وإعاشات للمقاتلين وعائلاتهم، إلا أن"للمسؤول الميداني واجبات وعزوة بفعل وضعه المالي وكونه رب عمل مستقلاً... لذا يجب أن يبقي أوضاعه المادية جيدة"، على ما يقول أحمد. فالقادة الميدانيون في بعل محسن جميعهم أرباب عمل:"هذا صاحب فرن، وذاك يملك ميني ماركت، وآخر لديه مكتب تاكسي..."، يعدد أحمد. ويقول حسن وهو أحد المقاتلين:"الكوادر وضعهم مختلف عن بقية الناس... فالمال والسلطة دائماً يجتمعان، بعض الأشخاص صعدوا اقتصادياً بعد 2008". يستدرك حسن حساسية الموقف وهو يتحدث من شرفة منزله في بعل محسن فيقول:"لكن ذلك بحكم انهم مستهدفون اكثر من غيرهم". ظاهرة الصعود الاقتصادي للمسؤولين الميدانيين تظهر جليةً في رواية جعفر، من بعل محسن، عن مسؤول يعرفه شخصياً كان عامل بناء، وبين"ليلة وضحاها صار الناس يطلبون رضاه... فبدّل سيارته واشترى منزلاً في حي ميسور من بعل محسن". في التبانة، وإن كانت البنية السياسية-الاقتصادية مختلفة، لكن عملية الترقي الاقتصادي والعسكري مشابهة الى حد بعيد. عمر تاجر خضار متخصّص في بيع الليمون والجزر على مدار السنة. سكن في منطقة راقية من طرابلس منذ قرابة السنة، كما اشترى حديثاً شقتين في منطقة تتسم بالمستوى الاجتماعي ذاته لمقاولي بعل محسن. حاول كثير من الزعماء استمالته قبيل الانتخابات بمنطق"جيّر لنا أصوات جماعتك ونحسّن وضعك". لكنه لا يريد ان يصبح محسوباً على زعيم طرابلسي معيّن، فقرّر الاستفادة من الجميع. يقول غامزاً بطرف عينه إنه يعرف كيف ينفق الأموال التي تُقدمها بعض الزعامات المحلية تحت تسمية"مساعدات إنسانية". في قهوة شعبية وسط سوق الخضار يجتمع بعض مسؤولي المحاور، حول طاولة خشبية مستطيلة. صورة زعيم التبانة ابو عربي تعلو الجميع، فما زال القيادي التاريخي في طرابلس السبعينات والثمانينات حاضراً في ذاكرة الحي الجماعية بعد اغتياله من جانب النظام السوري عام 1986. يقوم عمر بتعريف رجاله محدّداً ولاءاتهم السياسية المتعددة ومشيراً بإصبعه الى كل واحد باسم الزعيم المحلي الذي ينتمي اليه الشخص:"ميقاتي، صفدي، حريري، كرامي وحركة التوحيد القيادة العامة". والواقع ان حال الفراغ السياسي والأيديولوجي تدفع بالكثير من الأشخاص الى الالتزام، ولو صورياً، مع زعماء محليين مقابل رواتب شهرية تتراوح بين 400 و500 دولار لمدة أربع سنوات لأغراض انتخابية بحتة، بمنطق"هو يدفع، نحن نلتزم"."لا يهمّ"ان يستفيد المسؤولون الميدانيون من الزعماء، يقول عمر."الناس مخنوقة مادياً والمهم ان يبقى ولاؤهم الحقيقي للتبانة". وذلك الولاء للتبانة الذي جعل عمر وجيهاً محلياً، هو ما يجعل في المقابل هؤلاء الرجال صلة وصله مع الزعماء المذكورين. فهم يسهلون علاقته مع الزعماء والممولين ويبقى هو زعيم التبانة ووسيط الحرب فيها. لكن المسألة ليست غالباً بهذه البساطة. كتاجر خضار، يضطر عمر أحياناً الى شراء الليمون والجزر من الفلاحين، حتى لو تعثّر التصريف وذلك للإبقاء على احتكاره وتفادياً لأن يشتري المحصول تاجر آخر فيفقد بالتالي سيطرته على السوق. المنطق نفسه ينطبق على نفوذه العسكري والسياسي. فهو أحياناً يتكبد مصاريف من جيبه الخاص ثمن ذخائر واستشفاء ومساعدات للحفاظ على ولاء رجاله ونفوذه العسكري-السياسي. وتكون الاستفادة نسبية أحياناً. فالقائد الميداني يتصرف آخذاً في الاعتبار منظومة الحرب الموجودة وكيفية التعامل معها. كقيادي عسكري، لا أحد يجرؤ على فرض الخوّة عليه في سوق الخضار، كما يحافظ على دوره كوسيط بين الممولين والمقاتلين. هذا من دون إغفال التقدير الاجتماعي الذي يكتسبه بين أوساط المقاتلين. فالمحافظة على"ملكية الصراع"أمر جوهري بالنسبة الى القائد الميداني، من خلال سيطرته على مفاصل اللعبة وعلى مكانه كلاعب أساسي يتمتع بنفوذ تصعب السيطرة عليه أو مصادرته من الزعامات المحلية. هي لعبة لها قواعدها وأصولها. فما إن تنتهي جولة عنف حتى تُعاد تعبئة الدشم وبناء المتاريس وشراء الذخائر استعداداً للمعركة المقبلة... المضبوطة زمنياً وجغرافياً. لعبة يستخدم فيها اللاعبون جميعاً جنودهم فتخيم رائحة الموت. وخلافاً للعبة الشطرنج، يذهب ضحيتها البيادق من دون"الملك". * أنجِز هذا التحقيق بدعم من شبكة"أريج"وإشراف الزميلة بيسان الشيخ