يتبادل شباب منطقة باب التبانة في طرابلس في ما بينهم شريطاً مصوراً على هواتفهم الخليوية لما سموه"الانتصار"على مقاتلي الحزب السوري القومي الاجتماعي في عكار، متوعدين ب"مصير مشابه"لكل من تسوله نفسه المس بكرامة أهل السنّة أو التطاول عليهم". المشاهد التي يعيدونها ويتداعون الى مشاهدتها من دون كلل تصور مجموعة شبان ألقوا أرضاً في باحة خارجية، بعضهم جثث هامدة وآخرون جرحى يتخبطون في دمائهم. رفع أحدهم يده متوسلاً النجدة أو العفو عنه فإذا برشق رصاص يفرغ فيه وفي رفاقه من حوله مترافقاً بشتائم. وقبل الإجهاز على هؤلاء سمع صوت مقاتل في الخلفية يدعو الآخرين إلى عدم إكمال المهمة والرحيل. زيارة إلى موقع الاشتباك في حلبا ولقاء بعض الأهالي والأطباء ممن عاينوا الجرحى يكشفان تفاصيل أخرى. فالقوميون الذين رفضوا تسليم مركزهم للجيش المتمترس في الخارج أطلقوا أعيرة نارية باتجاه متظاهرين من"تيار المستقبل"كانوا مروا قبالتهم رافعين العصي. الطلقات أصابت اثنين قتل أحدهما. بعد وقت قليل عاد المتظاهرون بالمئات مسلحين فطوقوا المنطقة التي يقع فيها المركز، واقتحموه كما اقتحموا منازل سكنية مجاورة قيل إن مسلحين قوميين اختبأوا على سطوحها. وفاء طبيبة أردنية تسكن ذلك المبنى راحت تتفقد الأضرار التي خلفها المقاتلون في منزلها. قالت:"دخل نحو 15 مسلحاً فراحوا يكبرون وطلبوا من ابني حسام البالغ من العمر 21 الوقوف إلى الحائط ورفع يديه مصوبين البنادق الى رأسه وإلى وجه أخيه البالغ 9 أعوام. رجوتهم أن يأخذوا كل شيء ويتركوا الاولاد". خرج المسلحون من المنزل بعد نحو 6 ساعات وبعدما تأكدوا من خلو كل درج فيه من السلاح. أما إنقاذ العائلة التي علقت في المنزل بعيداً من الوالد فتم على يد أحد المسلحين المراهقين وقد تعرف الى الطبيبة التي سبق وعاينته. ويروي طبيب في مستشفى اليوسف حيث نقل جريح من الحزب القومي أن مسلحين اقتحموا المستشفى وابعدوا الأطباء بالقوة ثم أجهزوا على الجريح. في الوقت نفسه نجحت اتصالات أجراها صاحب مستشفى عكار وهو نائب في تيار"المستقبل"في إنقاذ جريح آخر وتهريبه بمساعدة شبان من جهاز أمن الدولة. ويرى كثيرون في تلك المنطقة التي قفزت إلى الواجهة في السنوات القليلة الماضية، إن ما حدث ليس رداً على ما جرى في بيروت وإنما جاء إطلاق النار من مركز القوميين بمثابة شرارة فتحت باب الانتقام لسنوات طويلة عانى فيها أبناء عكار من نفوذ السوريين وممارسات القوميين. لكن هؤلاء أنفسهم لا يقللون من مسؤولية خطباء المساجد والأئمة ودورهم في"شحذ"همم شبان غاضبين وإثارة غيرتهم على أهل السنة. صور تلك المعركة، من دون تفاصيلها، وصلت إلى التبانة وحركت المخيلات. فراح الشباب يضيفون تفصيلاً جديداً على روايتها كلما أعادوها أو زاد عدد المتفرجين واحداً. مصطفى، الوجه البارز بين"قبضايات"التبانة، قائد"محور الدراويش"في المعارك الأخيرة مع جبل بعل محسن، مدح أداء النائب السابق وعضو"اللقاء الإسلامي اللبناني"خالد ضاهر في تلك المعركة."هو بطل فعلي! نزل بنفسه إلى المعركة ورفع معنوياتنا إلى السماء"قال الزعبي. ثم أضاف بتفاخر:"زرته في منزله مباشرة بعد المعركة لتهنئته وكان لا يزال مرتدياً جعبته ويحيط به نحو 70 مقاتلاً". ويسيطر مصطفى وأخوه الأكبر على حي آل الزعبي ومنطقة الدراويش اللذين يعتبران خط المواجهة المباشر مع منطقة جبل بعل محسن العلوية. ويقع تحت إمرته نحو 50 شاباً من"القبضايات"خاضوا المعارك الأخيرة من أزقة التبانة وأبنيتها المتهالكة. وينسق هؤلاء جهودهم ويتبادلون المعلومات في ما بينهم بواسطة أجهزة لا سلكية حديثة دخل التبانة نحو 200 منها في الأسبوعين الماضيين وسعر كل منها نحو 50 دولاراً. ومن كوة في جدار أحد الدهاليز المخفية وراء"دشم"يطل خالد على"أعدائه"في الجبل مع العلم أن شارعاً واحداً يفصله عنهم. ينظر شذراً إلى صورة الأمين العام ل"حزب الله"السيد حسن نصر الله وإلى جانبها صورة الرئيس السوري بشار الأسد. هو واثق أنه أوقع قتلى كثيرين"دفنهم العلويون بصمت ولم يعترفوا بهم". إلا أن خالداً لا يقتنع بانتهاء المعارك هنا، بل يعتبر وقف إطلاق النار مجرد هدنة بين جولتين. وقال:"سنقضي عليهم بإذن الله ونستعيد هيبة أهل السنة التي خسروها في بيروت". ويبدو الشعور بالخيبة والإحباط جلياً في الأوساط السنية الشمالية بعد الذي جرى في بيروت من تسليم مراكز تيار"المستقبل"وقرار رسمي بعدم خوض معركة ضد مسلحي"حزب الله"وحركة"أمل". خضر الذي لبى نداء"أفواج طرابلس"إلى جانب عشرات الشباب غيره من التبانة والضنية وعكار عاد محتقناً أكثر. فهؤلاء المتحمسون ل?"درء الخطر الشيعي عن لبنان"فوجئوا بأنهم لم يعطوا أي سلاح في بيروت. يقول:"ذهبت إلى الطريق الجديدة قبل يوم من خطاب نصر الله، على أساس أن هناك سلاحاً فأعطوني عصا وتركوني في شارع لا أعرفه ولا اعرف وجوه سكانه. انتظرت يوماً كاملاً وعدت بعدما قتل رفيقي وذهب دمه هدراً". والواقع أن تلك الخطوة أفقدت تيار"المستقبل"وزعيمه سعد الحريري النفوذ المطلق الذي كان يتمتع به في الشارع السني الشمالي، من دون أن تحل محله قوة معينة حتى الآن. فتحييد بيروت وصيدا لم ينعكس ارتياحاً في نفوس الشماليين وأهل التبانة الذين كانوا يمنون النفس باقتناص الفرصة للانتقام من حقبة النفوذ السوري. وفي الثغرة التي خلفها تراجع آل الحريري بدأت حركة مد وجزر بين زعامات طرابلسية تقليدية كآل كرامي وميقاتي ووجوه"نضالية"مستجدة مثل نبيل سامرجي زعيم"أفواج طرابلس"أو كنعان ناجي زعيم حركة"جند الشام"أو مجموعة الرقيب ملص القيادي السابق في حركة"التوحيد". أما ضبط الإيقاع النهائي فيبقى للخطاب السلفي الذي تعلو نبرته وتهدأ بحسب الظروف. ومؤسس التيار السلفي في لبنان الشيخ داعية الإسلام الشهال لم يخف أن المعركة الآن هي معركة الدفاع عن الطائفة السنّية، معتبراً ان تيار"المستقبل"وضع نفسه"في وضع حرج قد يتفاقم إن لم يرضَ بالواقع السلفي على الأرض وهو المستفيد الأول منه". وقال الشهال:"الساحة السلفية في لبنان لها حضورها القوي وهي قادرة على المواجهة العسكرية حين تدعو الضرورة". وإذ نفى أن تكون تلك دعوة صريحة الى الجهاد، شدد على انه نداء للدفاع عن النفس مشبهاً الوضع في لبنان بالوضع في العراق حيث"يجب التصدي للهيمنة الأميركية والمد الشيعي"، معتبراً أنه"يترتب على الجيش إثبات صدقيته". والسلفيون في لبنان ليسوا في حاجة الى مساعدات بشرية فالشمال والبقاع خزانان قادران على ضخ المقاتلين حين تدعو الحاجة، أما الدعم بالمال والعتاد فمسألة تبقى مفتوحة لمن يسبق في تقديمهما. مصطفى الذي كان ينتمي إلى تنظيم"المرابطون"واستعاد اليوم دور المقاتل وهيبة زعيم المجموعة قال إنها المرة الأولى التي يضطر فيها إلى شراء السلاح على نفقته الخاصة. فهو الذي اعتاد خلال الحرب الأهلية أن تصله الذخيرة والسلاح بالصناديق كما يقول، فيوزع منها يميناً ويساراً، صار مضطراً اليوم إلى مجادلة تجار المنية. وأكد مصطفى أن أحداً من زعماء السنة لم يسلح جماعته، بل إن الشباب راحوا يشترون الذخيرة وقطع السلاح الفردي بمال خاص أحياناً يأتي من بيع بعض أغراض المنزل ومبالغ صغيرة تضخ من هنا وهناك، فالمسؤول عن المجموعة يتقاضى شهرياً 300 دولار والعنصر نحو 150 دولاراً تنفق في شراء السلاح. وقال مصطفى أن سوق السلاح انتعش في المنية كما في السابق، فيمكن شراء قنبلة ب 17 دولاراً، فيما يبلغ سعر قذيفة ال"أر بي جي"نحو 90 دولاراً. ويتراوح سعر بندقية الكلاشنيكوف بين 700 و1200 دولار. وبمبلغ لا يتجاوز 30 دولاراً يمكن ابتياع صندوق كبير من ذخيرة الكلاشنيكوف. تلك الحاجات وغيرها لا يسدها"المصروف اليومي"لشبان غالبيتهم عاطلة من العمل أو تقضي نهارها على النواصي وفي المقاهي. ففرص العمل منعدمة، إضافة إلى غياب مصلحة فعلية لدى الزعماء في إيجادها وتبديد ثروة بشرية يمكن سوقها في استعراضات القوة. لكن وسيلة جديدة ابتكرت لامتصاص تلك القوة وهي شركة أمن اسمها"سيكيور بلاس"يرأسها محمد عجوز وهو عميد متقاعد في الجيش . ويدير فرع طرابلس عميد متقاعد آخر هو مصطفى القرحاني إلى جانب عدد من الضباط السابقين وبينهم نبيل سامرجي زعيم"أفواج طرابلس". وإذ ينفي القائمون على هذه الشركة وبينهم المحامي فواز زكريا أن يكون"الموظفون"مسلحين أو يتدربون على السلاح، إلا أنهم لا يكشفون مواقع معسكرات التدريب في عكار حيث يقضي هؤلاء"الموظفون"شهراً كاملاً، ولا العدد الدقيق للمنضوين تحت لوائهم وهو يفوق 3 آلاف. ويميز زكريا بين"افواج طرابلس، التي قد تكون مسلحة وتشرف على أمن الأحياء والموظفين الذين يتقاضون راتباً شهرياً ويتدربون على حماية مؤسسات"تيار المستقبل"وغيرها من الشركات التي تطلب خدماتهم". وبين شعور عميق بالإحباط و?"حالات شعبية"تتسلح في الأحياء للدفاع عن نفسها أو الأخذ بثارات قديمة كما في عكار والتبانة، يبقى الشبان هناك بعيدين عن القرار المركزي لتيار"المستقبل"وخطابه"المعتدل"، فهم الآن يبحثون عمن يستجيب لنداءاتهم الأكثر حزماً وشدة.