لم تخلُ شوارع الأحياء الشرقية في مدينة طرابلس في شمال لبنان امس من احتقانات على رغم انتشار الجيش اللبناني في هذه الأحياء، اذ شهدت منطقتي باب التبانة وبعل محسن حرق منازل ومتاجر مما رفع منسوب التوتر."الحياة"زارت المنطقة التي شهدت معارك نهاية الأسبوع الفائت واوائل هذا الأسبوع ورصدت احوال شوارعها وازقتها والتقت عدداً من الذين شاركوا في الأشتباكات. ما يمكن ان يخلص إليه زائر المناطق التي شهدت في الأيام الأخيرة قتالاً في شمال لبنان، أي مناطق باب التبانة وبعل محسن والقبة شرق مدينة طرابلس، هو ان التفكك بدأ بالفعل يصيب الدولة اللبنانية وان فتائل التفجير أصبحت جاهزة. لكن الأهم من ذلك يتمثل في ان المعاينة الميدانية لخطوط التماس التي استيقظت بعد نوم استمر سنوات، والتدقيق في وجوه فتية الاشتباكات يُشعرك بأن الهدنة لم تحصل أصلاً وان مرور اكثر من عشرين سنة على توقف المعارك على خطوط التماس بين التبانة وبعل محسن لم يغير شيئاً على الإطلاق. الأعداء أنفسهم والعداوات نفسها، وتلك المباني المتصدعة بفعل اشتباكات أعوام ثمانينات القرن الفائت، عادت وتصدعت هي نفسها في اشتباكات الأيام القليلة الفائتة، بحيث صار المطلوب التمييز بين حريق قديم وحريق جديد، إذ من الممكن فعل ذلك بسهولة، وأيضاً يمكن التمييز بين اثر الرصاصات القديمة على الجدران وتلك الجديدة منها. أما المفارقة الأشد إيلاماً لمن كان يعرف التبانة في حربها القديمة وزارها اليوم لمعاينة حربها الجديدة، فتتمثل في أن في إمكانه معرفة المقاتلين الجدد من خلال ردهم الى وجوه آبائهم، أي مقاتلي ثمانينات القرن الفائت. هذا ما أمكن رمزي فعله، وهو الصحافي"العتيق"الذي سبق ان غطى حروب التبانة القديمة وانشأ علاقات مع مقاتليها، وزارها بالأمس وتمكن من معرفة أحد مقاتليها الجدد من آل زهرة، من خلال تشبيهه بأبيه المقاتل القديم. أما اليوم وبعد دخول الجيش اللبناني للفصل بين المتقاتلين في تلك المنطقة وإعلان هدنة سبقها صلح لم يصمد، فلا تزال صور الاشتباك متجددة وان على نحو صامت. منازل ومتاجر لعلويين في التبانة أحرقت بعد دخول الجيش اللبناني، وفي المقابل منازل لعائلات من السنة أُحرقت في بعل محسن، وتخلل ذلك عمليات سرقة واسعة شهدتها المنازل على خطوط التماس لم يقم بها الأطراف المتقاتلون وإنما سارقون محترفون استفادوا من توتر هذه المناطق ومن خلو الأحياء من سكانها. جرى كل هذا بعد انتشار الجيش، ويشكو سكان كثر من ان هذا الانتشار لم يكن زاجراً، ولم يُعامل المسلحين في المنطقتين بصفتهم خارجين عن القانون. كما ترافق انتشار الجيش مع ظاهرة عودة المتاريس التي تحجب الأزقة المقابلة لبعل محسن، وإقفالها المشهد عن"قناصة"مفترضين في الجهة المقابلة. لكن الأهم ما ترافق مع الانتشار"السلمي"والناعم للجيش اللبناني في تلك المنطقة من انتقال الحديث عن مباشرة الفتنة عملها في منطقة مجاورة أخرى تعيش فيها أقلية علوية مع أكثرية سنية. إنها منطقة سهل عكار التي شملتها إشاعات جديدة باحتمال حصول الانفجار فيه. وللإشاعة في هذه البيئة قوة وصدقية، إذ هي من يتولى التمهيد للانفجار عبر تبشيرها به ودفعها الأطراف الى الاستعداد إليه، هذا حرفياً ما حصل في منطقة باب التبانة ? بعل محسن. وبالفعل بدأت تتواتر الأخبار عن استعدادات في سهل عكار لبدء مواجهة هناك. معارك التبانة ? بعل محسن منظوراً إليها من داخل تلك المناطق مختلفة تماماً عنها إذا ما نظرنا إليها من الخارج، وكلا النظرتين لا تخليان من قدر من الحقيقة. من الخارج تبدو معارك باب التبانة ? بعل محسن جزءاً من الانقسام والاحتقان اللبناني المعبر عنه بتلك القسمة التقليدية المتمثلة في"14 آذار"وپ"8 آذار". باب التبانة 14 آذار، وبعل محسن"8 آذار". أما من داخل تلك الأحياء التي شهدت معارك في الأيام الفائتة فلا اثر لتلك القسمة. إنها معارك بين باب التبانة السنية وبعل محسن العلوية، فقط ولا شيء غير ذلك. وهي أيضاً كما وصفها مقاتل من التبانة:"جحش عتيق ينام في المنطقتين ويستيقظ كل عشر سنوات". المشهد في بعل محسن بسيط وواضح، مقاتلون علويون ينتمون الى"الحزب العربي الديموقراطي"، ومسلحون جيداً، ينتشرون في الأزقة وعلى سطوح المباني المشرفة على التبانة، ولا يتكلمون مع الصحافة لأن ثمة مسؤولين إعلاميين في الحزب هذه وظيفتهم. لكن المشهد في التبانة مختلف تماماً. عدد المسلحين اكبر، أو ربما عدد الفتية المنتشرين في أزقة خط التماس اكبر، إذ ان عدداً كبيراً منهم غير مسلح، أو انهم يتناوبون على الأسلحة مع رفاق لهم في الزقاق. وفي التبانة يبدو القول إن المسلحين هم"ميليشيا الموالاة"قول ساذج أو لا يعدو كونه سجالاً لا يفسر ما يجري. فبين المقاتلين السنة هناك مؤيدون للرئيس عمر كرامي، وهو أحد أركان المعارضة، وبينهم أيضاً من هم من مجموعات الشيخ هاشم منقارة القريب من الداعية فتحي يكن، وآخرون"محسوبون"على الرئيس نجيب ميقاتي. أما آخر من يمكن أن تصادفهم في التبانة من المقاتلين، فهم أولئك المحسوبون على"تيار المستقبل". فخلال يوم كامل من التجول في أحياء التبانة والقبة ولقاء مئات المسلحين السنة في هذه الأحياء لم نتمكن من مشاهدة مسلح واحد من ما يسمى"أفواج طرابلس"المحسوبة على"تيار المستقبل"، ويجزم الجميع في تلك الأحياء ان"المستقبل"لم يكن جزءاً من الاشتباكات في الأيام الأخيرة. "السلفيون"الذين بشرت بهم وسائل إعلام كثيرة بصفتهم عماد هذه الحرب الجديدة في شمال لبنان، شاركوا في المعارك بين التبانة وبعل محسن، ولكنهم لم يكونوا الطرف الوحيد الذي قاتل"البعل". ربما امتاز هؤلاء عن غيرهم بقدر من التنظيم والتسلح فاق تنظيم وتسلح"رفاقهم في الخندق الواحد". انهم جزء تقليدي من مشهد التبانة ولكنهم ليسوا"المشهد كله"، ولا يبدو ان ثمة ما يؤشر الى صعود كبير لظاهرتهم في المنطقة. صحيح أن ثمة انقساماً في لبنان يتيح تصدر أصحاب"الأصوات المرتفعة"، والدعوات التطرفة، وصحيح أيضاً ان الطائفة السنية تشعر اليوم أنها"مستهدفة"وهذا ما يوسع هامش تحرك"السلفية المقاتلة"في أوساطها، ولكن ثمة عناصر كثيرة أخرى تعيد تضييق هذا الهامش وتبقيه في حدود لا تتعدى بقاء السلفيين جزءاً محدوداً من المشهد السني اللبناني العام. ففي البيئة السنية والشمالية منها تحديداً ازدحام ولاءات لا يترك للفراغ مكاناً، ومشهد مسلحي التبانة خير دليل على ذلك، إذ ان الاستجابة السنية لحال الاحتقان لن تعدم صوراً ليست السلفية عنصرها الوحيد. كما ان ثمة عاملاً يتعلق بالسلفيين اللبنانيين أنفسهم يعيق على ما يبدو تعزيز ظاهرتهم، ويتمثل في ان هؤلاء على اختلاف أنواعهم وولاءاتهم لم يتمكنوا من تقديم رموز وتحويلها الى نماذج على نحو ما فعلت بيئات سلفية في دول كثيرة في المنطقة. المتجول في التبانة هذه الأيام يرصد انبعاثاً دقيقاً وشبه كامل لنوع الصراع القديم. رموز حرب التبانة في الثمانينات استيقظت كلها. الشباب المتوزعين على هذه الأيام في الأزقة المتفرعة عن خط التماس، أي شارع سورية الذي يفصل التبانة عن"البعل"، لم يُسقطوا حكايات آبائهم في الأزقة نفسها من حساباتهم. عمر قتل والده هنا أمام هذا المبنى الذي يجلس في ظله اليوم محاولاً عدم الظهور بسلاحه في شكل واضح أمام دورية الجيش اللبناني. ولعلي ثلاثة أعمام قتلوا في تلك المعركة الى جانب والده، ويقول:"خلافاً لأصدقائي الذين عندما يلتقون بأحد من أبناء المنطقة يُستقبلون بعبارة: رحمة الله على والدك... أو شقيقك، أنا أُستقبل بعبارة رحمة الله على عائلتك". ثمة نحو ألف قتيل من منطقة التبانة في الحرب السابقة استيقظت حكاياتهم في الحرب الجديدة. علماً أن التبانة تضم اليوم في أحيائها نحو 60 ألف نسمة، أي انه لكل ستة من السكان قتيل واحد. جزء كبير من السلاح المنتشر في أيدي شبان التبانة قديم ومتآكل في حين حرص كثيرون في ما يبدو على صيانته خلال السنوات الفائتة. كثيرون قالوا انهم احتفظوا بأسلحتهم أو أسلحة أهلهم من أيام الحرب في ثمانينات القرن الفائت. بعض هذا السلاح تمت حمايته من الصدأ ومن عوامل الزمن، وبعضه الآخر تظهر عليه تصدعات وندوب تدفع الى التساؤل عن مدى صلاحيته. لكن في أيدي الفتية أسلحة جديدة أيضاً يقولون انهم اشتروها أخيراً، بعضها من مخيم عين الحلوة وبعضها من عكار حيث يقولون إنها وصلت الى هناك من العراق. ولكن التساؤل يبقى حول مصدر الأموال التي تم شراء هذا السلاح بها، ويقول أبو العبد رداً على ذلك"الله بيدبر... قذيفة الپ"آر بي جي"رخيصة، سعرها لا يتجاوز خمسين دولاراً، أما الرصاص فثمنه مرتفع". وفي مداخل أبنية في باب التبانة غطى فتية الواجهات بستائر من القماش وباشروا تعبئة أكياس من الرمل بهدف تحويلها متاريس، وحاولوا حجب ما يفعلون عن دوريات الجيش اللبناني التي غضت بدورها الطرف عن ما يمكن معاينته بسهولة. وصلة ما يجري اليوم بالتبانة بما جرى فيها في الماضي لا تقتصر على توارث الأجيال السلاح والحكايات وبعثها في الاحتقان الراهن، إنما أيضاً بعودة"لحمة"قديمة كانت تربط سكان المنطقة. إنهم رموز ما كان يطلق عليه"حركة المقاومة الشعبية"وهو تنظيم محلي كان يتزعمه في السابق خليل عكاوي الذي اغتيل في أواسط ثمانينات القرن الفائت، وتفكك بعده التنظيم بسبب اعتقال السوريين معظم قياداته، وبعد الإفراج عنهم تفرقت بهم سبل الحياة، لكنهم اليوم وبعد"محنة التبانة"الجديدة عادوا ليلتئموا وان على نحو اقل تماسكاً من الماضي. ومن بين هؤلاء اليوم في التبانة بلال مطر وسمير الحسن وخضر ملص النقيب ومحمود الأسود. وشعر القادة السابقون لپ"المقاومة الشعبية"ان من يتولى"الدفاع"عن التبانة اليوم هم أبناء"دعوتنا"وان تركهم من دون"مرجعية"قد يؤدي الى استثمار آخرين لحركتهم، وبالتالي"من الضروري إعادة الأمور الى نصابها السابق بحيث يستثمر في التبانة أبناء التبانة وليس غيرهم من الزعماء الذين لم يسبق لهم ان زارونا". وفي الوقت الذي يشير هؤلاء الى انهم ليسوا بصدد إعادة إحياء تنظيم مسلح لأبناء التبانة إنما إيجاد مرجعية محلية، يتولى ناشطون ميدانيون سابقون في"المقاومة الشعبية"لا تربطهم صلات أكيدة بمجموعة القياديين السابقين للحركة، قيادة فتية الأحياء والمقاتلين الجدد فيها. فأبو عمار، وهو رجل خمسيني من هؤلاء يمشي في الأحياء ويحيط به اكثر من عشرة شبان مع مسدساتهم العتيقة، يقول إن أبناءه الثلاثة يقاتلون اليوم في التبانة وهو يحاول ان يزودهم بپ"خبراته"في القتال. وعندما سأله صحافي"ألا تخاف عليهم؟". أجاب:"الله هو الحامي. أبناء منطقتنا رجال، ولم يقتل أحد منهم في معارك الأمس". أما سمير الحسن وهو قيادي سابق في"المقاومة الشعبية"، وانتقل بعد الإفراج عنه من السجون السورية الى العمل"الاجتماعي والرياضي"فيبدي قدراً من التحفظ على نسبة كل ما يجري اليوم بين التبانة وبعل محسن الى الانقسام اللبناني الراهن. وظيفة الاحتقان اليوم ليست اكثر من ذريعة لتجدد الحرب بين التبانة وبعل محسن كما يقول، ويضيف:"هناك حاجز نفسي يفصل بين المنطقتين بغض النظر عن الانتماء الى المعارضة والى الموالاة. بسهولة هناك إمكان لاستحضار الصراع، وثمة استعداد مسبق للاشتباك، خصوصاً انه لم تجر مصالحة على غرار ما حصل في الجبل حيث خُصصت موازنات لإجراء المصالحات". والغريب في ما جرى ويجري بين باب التبانة وبعل محسن اليوم هو أن الصورة المركبة للنزاع هناك لا تعدم مصادر جديدة تتغذى منها، وجميعها مصادر خارجها باستثناء ذلك النزاع"الجوهري"المؤسس. فباب التبانة في وعي رجل السياسة الطرابلسي ليست اكثر من صندوق انتخابي يتم نسيانه أربع سنوات ثم يُستحضر في موسم الانتخابات. وحرب الأيام الفائتة جرت متزامنة مع البدء المبكر لهذا الموسم في لبنان، وهو أمر يُفسر الى حد كبير ذلك الاضطراب في المواقف الذي شهدته تلك المعارك. فالمعارضة في هذه الحرب ليست معارضة وإنما جزء من"جيش الدفاع عن السنة"في مواجهة حلفاء من 8 آذار، والموالاة تتخبط في عواقب قرارها عدم الانجرار الى"فتنة مسلحة"وما سينجم عن ذلك من مشاعر"خذلان"قد يواجهها به جمهورها في باب التبانة. وبين المعارضة والموالاة يُطل السلفيون ليعرضوا"خدماتهم"، وتستيقظ"دعوات قديمة"باحثة عن موقع وسط ازدحام المصالح وتناحرها. لكن التبانة ليست المحور الوحيد الذي انعقدت حوله اشتباكات الأيام الفائتة. فمنطقة القبة التي تفصلها عن بعل محسن أحياء وشوارع جنوب شرق مدينة طرابلس استجابت أيضاً للمحنة، واشتعلت هناك اشتباكات عنيفة بين شبان القبة وشبان البعل. لكن ومثلما للتبانة خصوصيتها، للقبة ايضاً خصوصيتها التي وُظفت في تلك المعارك. ففي القبة عدد السلفيين اكبر من عددهم في التبانة، إضافة الى"جند الله"الذين يتزعمهم الشيخ هاشم منقارة وهو أحد أركان المعارضة في مدينة طرابلس، إضافة الى الشيخ كنعان ناجي المقرب من الموالاة. جميع هذا الموزاييك شارك في معارك القبة ضد بعل محسن. أما البحث في أحياء التبانة وبعل محسن والقبة عن المبادر لإشعال المحاور فلا قيمة له فعلاً. يمكنك ان تصل الى هذا الاستنتاج بسهولة. من يرغب في إشعال تلك المحاور ليس عليه ان يُقدم على مغامرة ميدانية، فالاستعداد قائم أصلاً، ويكفي شحن عام لا يتصل بحياة السكان مباشرة لمباشرة القتال. ويقول سمير الحسن إن الغريب في ما جرى هو أننا بدأنا نسمع منذ اكثر من أسبوعين ان المعارك ستبدأ نهار الأحد، وهذا ما حصل فعلاً. فلدى الناس استعداد للاستجابة مع أي تمن أو رغبة أو إشاعة، وكلانا جاهز.