- بيروت - خالد زهرة - التبانة وبعل محسن، بؤرة أمنية طرابلسية قيل عنها الكثير، وما زال هناك الكثير ليُقال. منطقةٌ «على الهامش» اقتصادياً واجتماعياً، سكانها انقسموا على القضايا الراهنة... ولم يتصالحوا مع ذكريات الحرب الأهلية. انخراط بعضهم من هنا وهناك في «لعبة العنف»، التي انفجرت في أيار (مايو) 2008، أصبح يمثّل الفرصة شبه الوحيدة للاندماج الاقتصادي والسياسي في ثاني أفقر منطقة في لبنان (57 في المئة من سكان طرابلس هم تحت خط الفقر وفق تقرير برنامج الأممالمتحدة الإنمائي عام 2008. ويتمركز الحرمان والاكتظاظ السكاني في شكل خاص بين التبانة وبعل محسن، وجوارهما). هكذا استغلت قوى خارجية، ومعها زعامات طرابلسية محلية، هشاشة البنية الاقتصادية ونقلت صراعاتها الى أحياء التبانة وبعل محسن. دعمت مقاتلين من الشطرين في معارك حصدت أكثر من مئة قتيل وألف جريح وأغرقت المنطقة بالدمار والتهجير (13 جولة اشتباكات منذ 2008). يركّز هذا التحقيق على الدينامية الاقتصادية لهذا الصراع ويوثّق كيف يستفيد وسطاء حرب من «لعبة العنف» هذه، وكيف يستخدمون فقراء الأزقة لجعلهم وقوداً في معارك بين الطرفين. وتوصل التحقيق الى أن المعارك بين الطرفين أدت الى تبلور منظومة حرب تتغذّى على صراع نفوذ اقتصادي-سياسي وفق موقع كل فرد من النزاع؛ ويكشف عن دينامية التبادل «التجاري» بين أمراء الحرب من الخندقين، بالتوازي مع صراعات نفوذ داخل كل خندق قد تصل الى معارك دموية في التبانة تحديداً. منظومة حرب يحاول كثيرون من سكان المنطقتين الخروج عنها... بصعوبة وتعثّر. في يده عصا ترافقه في المشي. يضعها جانباً ويجلس على كرسي حديد متصدّع في قهوة أبو جمال في بعل الدراويش، الحي السني الأكثر تداخلاً مع بعل محسن العلوي. يبتسم له مقاتلو باب التبانة، المجتمعون على فنجان قهوة صباحي. يُلقي النكات عليهم بملامح وجه ثابتة. يتهكّم على الجميع. «نقصده لخفة دمه»، يقول أحد الوافدين. يقاطعه آخر بنبرة مرحة «سمير علويّ من الجبل». في الحي نفسه في بعل الدراويش، تجلس أم محمد أمام «عدوها» الذي يبعد خطوات عن غرفة الجلوس. تراه ويراها يومياً في الشرفة المقابلة. عيونها متشحة سواداً. مثقلة بالهمّ والخوف. ليس لديها الطاقة لوضع حجابها، فتمسك بفوطة المطبخ وتضعها على رأسها لا مبالية. تشعل سيجارتها بيدين مرتجفتين، وتبكي. يسود الصمت في المنزل الواقع على خطوط التماس. «لم اعد احتمل البقاء في هذا المنزل.. لم اعد احتمله» تلفظ كلماتها الأولى. «لا أجرؤ على الطهي لأنني أخشى من عدم القدرة على إطفاء الغاز حين تندلع الاشتباكات». مبعثرة هي كجدران هذا المنزل الذي اصبح ساحة حرب. محوّر قتالي بكل معنى الكلمة. «إنني لا اسكن منزلاً، بل مقبرة أحياء»، تقولها بصوت مرتجف. ثم تشعل سيجارة أخرى. لا يكّف سمير عن إلقاء النكات في قهوة أبو جمال. لا يرحم أحداً. يسخر من الحرب، من زعماء طرابلس، من الطوائف.. «الله ينجينا من أهل السنة «، يلفظها مازحاً، فتعلو قهقهات الجالسين. كما يهمس من وقت لآخر في أذن بعضهم نكاتاً تبدو إباحية. في منزل في الحارة الجديدة، الحي الأفقر في بعل محسن لا يختلف المشهد. تتحدث هلا أنها عادت إلى نقطة الصفر في حياتها. منزلها في شارع سورية حُرق بالكامل في المعركة الأخيرة وهي تعيش عند أهلها مجدداً في منزل من غرفتين. لكن هذه المرة مع زوج وأطفال صغار. «لم يبقَ شيء في المنزل، جهاز العرس، هويات الأولاد وثيابهم... لا شيء». لو استطاعت أم محمد من التبانة أن تشارك هلا من بعل محسن فنجان قهوة، لكانت ربما آنستها وشاركتها مأساتها رغم اضطرابها النفسي. لكن العلاقات الاجتماعية تضيق بسكان المنطقتين منذ 2008، وتتسع للمقاتلين وقادة المعارك الذين يتبادلون الرصاص وأشياء أخرى. فاستبدلوا المنظومة الاجتماعية التي تجمع المنطقتين بمنظومة حرب اتفق فيها اللاعبون على الالتزام بقواعد وضعوها. دينامية تبادل تجاري العملة في الحروب تبقى الأكثر تنقلاً بين «هنا» و»هناك»، وهذا ليس بالجديد. التاجر يحتفظ بشركائه وزبائنه في الخندق الآخر حتى في أعنف المعارك. لكن عندما يكون التاجر مقاتلاً، لا يبقى الأمر بهذه البديهية كما اتضح من النقاش مع عمر (اسم مستعار)، أحد القادة الميدانيين في التبانة. ففي حين يؤكد عمر أن الغاية من المعارك ليست تحقيق أهداف عسكرية إنما الضغط على سكان «الجبل» بحصارهم اقتصادياً كي ينتفضوا على قيادة آل عيد، تراه يبيع الخضار لتاجر من بعل محسن. «الأمر ليس سهلاً بالنسبة لي، فأنا محاصر بين العلويين وجماعتي» يقول، لكن التبادل يتم بشكل شبه سري، وبالتنسيق مع باقي مسؤولي المحاور لعدم إطلاق النار على تاجر «الجبل». يستدرك تناقض الموقف مبرّراً: «حرام الناس «فوق» تريد أن تأكل وتطعم أولادها. لسنا ضد السكان». ليست العملة وحدها عابرة لخطوط التماس، السلاح له نصيبه أيضاً. يؤكد أحمد (اسم مستعار) المسؤول الميداني في بعل محسن انه يضطر أحياناً إلى شراء الذخيرة خلال المعارك من أحد القادة الميدانيين في التبانة، بالتنسيق مع قيادته السياسية، لأسباب لوجستية. يشرح: «أحياناً أسهل الحصول على الذخائر من التبانة (القريبة من منطقة نفوذه) عوضاً عن فيلا الأستاذ رفعت عيد (التي تقع وسط بعل محسن)».»ما تقوّص على فلان» (لا تطلق النار على فلان) أصبحت كلمة السر بين عناصر الخندق الواحد لإتمام صفقات مع الخندق الآخر، مقابل خدمات متبادلة لاحقاً. القائد الميداني يتفق مع مسؤولي مناطق النفوذ المجاورة على عدم إطلاق النار على «الزبون القادم» من بعل محسن. يستلم الذخائر ولكنه لا يدفع مباشرةً. بعد عبوره خط التماس يسلّم المبلغ نقداً إلى شخص وسيط على تخوم منطقة نفوذه، خوفاً من أن يُقتل غدراً. طبعاً العملية تكون أقل تعقيداً أثناء الهدنة. وتبادل السلاح هذا ليس باتجاه واحد. فقد تم الكشف منذ حوالى السنة عن مسؤول ميداني في بعل محسن باع مستودع أسلحته إلى مقاتلين في التبانة، من خلال تطابق أرقام البنادق التي وجدت بحوزة إحدى المجموعات السورية المعارضة لاحقاً. «لا تطلق النار على فلان» ليست فقط بهدف «البيع والشراء»، بل أيضاً مقابل خوة يدفعها التجار إلى قادة ميدانيين في الجهة المقابلة لتفادي استهداف محالهم التجارية أثناء المعارك. فلم يعد مستغرباً أن تجد مؤسسة تجارية على خط تماس شارع سورية سالمة من الرصاص. كحال محمد وهو قائد ميداني وصاحب متجر في الشارع، وقد أكّد أن محله لم يتعرّض لأي مكروه. لكن ما لم يقله محمد هو انه يدفع مبلغاً شهرياً إلى مسؤول ميداني في بعل محسن مقابل عدم استهداف محله. التبادل «التجاري» خلال المعارك ينحصر بالمقاتلين والتجار أو المقاتلين ، لدرجة أن أصحاب الأفران المجاورة هم على تواصل دائم معهم في منطقتي النزاع. يقول المسؤول الميداني في الجبل إن صاحب فرن كبير في شارع المئتين في طرابلس اتصل به مراراً يسأله «هل هناك معركة قريبة؟ عليك أن تخبرني قبل أيام لأتزود بالطحين». هذه العلاقة المستقرة بين قادة المعارك من طرفي النزاع تقابلها صراعات داخل الخندق الواحد. وإن كان المشهد من بعيد قد يبدو صراعاً يفصله شارع سورية. المشهد عن قرب يُظهر تناقضات وتضارب مصالح وتنافس على نفوذ ميداني داخل كل خندق قد يصل إلى معارك دموية في التبانة تحديداً. لا رصاص مجاناً «مللنا من التجار، تجار الدم، وما يسمونهم قادة ميدانيين. لا احد يعطي رصاصةً مجاناً، ومن دون مقابل. نعرف ذلك. بعض المشايخ والفعاليات الميدانية تقبض على اسمنا»، وفق رياض (اسم مستعار)، مسؤول محاور في التبانة. التوتر بين المقاتلين وبعض القادة قد يصل أحياناً إلى نزاعات مسلحة بين المجموعات في التبانة بهدف السيطرة على مناطق نفوذ، كما لاحتكار قنوات الحصول على التمويل. الجميع يعرف حدوده، إلا حين يريد توسيعها. يؤكد رياض انه لا يجرؤ على الاقتراب (بمعنى فرض الخوة) من سوق خضار الجملة، تجنباً للمشاكل. يستشهد بمثل شعبي «كل ديك على مزبلته صياح» ويشرحه قائلاً «سوق الخضار له ناسه ومعروف من يستفيد منه.. وصار فيه كثير من الدم». هذا السوق الذي يشكل منفذاً مالياً مهماً في منطقة معدومة اقتصادياً، اصبح ملطخاً بدماء شباب عاجز.. إلا عن السيطرة على بؤر أمنية لمجموعات أخرى، بهدف الاستحواذ على شارع هنا أو فرض خوة على تاجر هناك. حتى القادة الميدانيون اصبحوا عاجزين عن ضبط هذه الظاهرة، «لا يمكننا السيطرة على الأفراد إن كان سلاحهم من مالهم الخاص..»، يعترف عمر. كما يتم تصدير النزاعات الداخلية أحياناً في معارك مع «الخندق الآخر» لتحقيق أهداف ضد مجموعات «الخندق الواحد». وتحديداً في التبانة، حيث حدثنا عمر كيف أشعل بعض المحاور في المعركة الأخيرة بعد قرار وقف إطلاق النار. أربع قذائف «أر بي جي» على بعل محسن كانت كفيلة باستمرار المعارك يوماً إضافياً «كي تتعلّم الفعاليات السياسية ومشايخ المنطقة أن لا يتخطوا القادة الميدانيين مرة ثانية» يلفظ كلماته بثقة. في بعل محسن، التنافس على النفوذ السياسي والعسكري موجود ولكن بشكل مختلف. مع بداية المعارك بين التبانة وبعل محسن، صدر قرار من دمشق بتوحيد القيادة السياسية برئاسة رفعت عيد، وفق مصادر قريبة من القيادة. قبل هذا التاريخ، حاول العديد من كبار التجار في الجبل نسج علاقات سياسية مع ضباط سوريين، فحصلت منافسة سياسية تم وضع حدّ لها عام 2008. وما ينطبق على التجار ينطبق على القادة الميدانيين والمقاتلين. فمحاولات تهميش أحمد كمسؤول ميداني في بعل محسن باءت كلها بالفشل «لأنه وحده الأستاذ رفعت يقرّر من هو القائد الميداني»، وفق قوله. البنية السياسية في بعل محسن تكبح الطموح السياسي للتجار ولمسؤولي المجموعات، إلا أن ذلك لا ينفي وجود تناقضات داخل المنطقة. الخروج عن منظومة الحرب؟ في ظل هذا المشهد الضاغط والخانق، بشوادره ومتاريسه، على أهل هذه المناطق، هل من مساحة لخيارات أخرى؟ هل من إمكانية للخروج عن المنظومة؟ البقاء في أماكن الصراع يعني الانخراط فيه. «يا ريت قادر» يجيب رياض مسؤول محاور في التبانة عند السؤال إن حاول مغادرة التبانة. لا ينتظر السؤال التالي، يقول تلقائياً «إيجار بيتي مئة ألف ليرة.. لا يمكنني السكن خارج المنطقة. لو أنني قادر مادياً لغادرت التبانة من زمان، لأنني تعبت وأبحث عن راحة البال». ثم يتمهّل متنهداً ويتابع كلامه «نحن نعيش في قلب المشكلة، لا يمكننا أن نعزل انفسنا. لذلك، نضطر إلى التعامل مع المعارك من خلال فرض وجودنا على الأرض. الزعران و»الشبيحة» كثر، ليس فقط في «الجبل»، هنا أيضاً». السكان هنا وهناك مستاؤون من الوضع. «الله وحده من يحمي، أنا غير قادر مادياً على مغادرة المنطقة»، يقول محمود صاحب دكان في التبانة. فيعلّق أحد الزبائن على كلامه ساخراً وهو يسلمه النقود «الله لم يعد يحمي سوى المقاتلين في هذه الأيام». يبتسم له ويتابع كلامه عن هواجسه اليومية في التبانة مؤكداً أن «المسلح هو من يستغلك ومن يحميك». وأم عمر تعاني وعائلتها تهميشاً اجتماعياً، مفسرةً ذلك: «أولادي تعلموا ورفضوا حمل السلاح. شباب التبانة ينظرون اليهم دائماً على أنهم جبناء». بلعت ريقها وقالت «لسنا مرتاحين هنا وهذه ليست حياة أبداً». في بعل محسن، يحاول سليم الرجل الخمسيني بجهد الحفاظ على آرائه النقدية. «طبعاً فرص العيش تتقلّص إذا رفض ابن المنطقة المشاركة في المعارك. إجمالاً الخيارات محدودة بخاصة بالنسبة للفئات الفقيرة». كذلك، جعفر الشاب العشريني الذي يعمل كهربائياً، رفض حمل السلاح.»ببساطة لست مؤمناً بالقضية ولا بالقيادة السياسية الموجودة في الجبل.. يتم استخدامنا» يلفظها بغضب، معبّراً عن ثقل الضغوط الاجتماعية المتمثلة بخطاب «حماية البيت والعرض.. والسلاح زينة الرجال». ضاقت الخيارات أمام السكان. بين المنخرطين في منظومة الحرب والرافضين المهمشين، لا بدّ من ابتداع سلوك يشي بالازدواجية والالتباس، يمكنهم من الوقوف والتعامل مع يوميات لم يختاروها. في بعل محسن، امرأة تقول لأخيها المقاتل في التبانة «الله يحميكن» أثناء إحدى المعارك بحضور عائلة زوجها. ثم تنظر إليهم مستدركةً حساسية الموضوع قائلةً «هل يمكنني أن أقول شيئاً آخر؟». في حارة البقار، وهي امتداد لجبهة التبانة، يحوّل أبو بكر، مسؤول محوّر، منزله إلى متراس خلال المعارك. قبلها، يُرسل زوجته وأولاده الثلاثة عند أقاربها في بعل محسن. ويوصي مقاتليه بعدم استهداف المنزل. «المعركة مفروضة. لا العلويون يعرفون لماذا يقاتلون.. ولا نحن نعرف. الطرفان يطلقان النار، والطرفان لا يعرفان لماذا»، يبتسم أبو بكر وهو يعترف بابتسامة سخرية. فالمسألة ليست شخصية. إنها ببساطة منظومة حرب. اقتصاد حرب عماده أرباب العمل وعمالهم المياومون الصعود الاقتصادي في فترة السلم لا يشبه فترة الحرب. معارك التبانة وبعل محسن ليست استثناءً. التقاطع بين النفوذ الاقتصادي والنفوذ العسكري-السياسي يُشكل ركناً أساسياً في منظومة الحرب واقتصادها. منظومةٌ تُعيد إنتاج نفسها من خلال جولات عنف مستمرة. المشهد يبدو أقرب الى لعبة شطرنج، لكنه ليس فعلاً كذلك. لعبة تتداخل فيها الرقع البيض بتلك السود، فتصبح مناطق رمادية تتحرك فيها الحجارة، وفق موقع وتراتبية كل حجر-فرد في دينامية الصراع. في أعلى الهرم العسكري، وسطاء حرب يشكلون حلقة الوصل بين الممولين والمقاتلين، لديهم «وجودهم على الأرض» وفق التعبير السائد. هم قادرون على الإمساك بالوضع الميداني، يراكمون المال، يوزعون بعضه، بهدف تعزيز النفوذ. لا مصلحة لهؤلاء «الملوك» و «الوزراء» في الرقعتين البيضاء والسوداء بإنهاء الصراع... وما يحمل معه من نفوذ. أما أسفل الهرم، ف «بيادق» مسحوقة اجتماعياً، غالبيتها شباب عاطلون من العمل ومتسربون من المدارس، يشكلون أدوات الصراع الأساسية. القتال: «شبكة حماية» المحاربين لا يتلقى معظم «البيادق» مبالغ مالية مقابل مشاركتهم في القتال. فهم ليسوا قتلة مأجورين مستعدين لتصفية جيرانهم مقابل معاشات شهرية أو «بدل أتعاب» كما يقولون، وليسوا أيضاً أبطالاً مستعدين للتضحية بدمائهم من أجل قضية. مقاتلو باب التبانة وبعل محسن هم أشخاص «عاديون» فُرض عليهم العيش ضمن منظومة حرب تورطوا فيها فأصبحوا جزءاً من أدواتها. أتقنوا التعامل معها والاستفادة منها. نشاطهم العسكري يوفر لهم نوعاً من «شبكة حماية»، هشّة في طبيعة الحال، لكن لا يوفرها نشاطهم المهني. فالمشاركة القتالية تضمن ما يشبه «التغطية الصحية»، جزئية في طبيعة الحال، للمقاتل وعائلته داخل المعارك او خارجها. وقد تفتح الباب أمام إيجاد فرص عمل. «منذ حوالى السنتين، وشباب مجموعتي يعملون معي، لم يبقَ أحد منهم عاطلاً من العمل»، يقول أحمد (اسم مستعار) وهو قائد ميداني في بعل محسن ومتعهد بناء داخل طرابلس وخارجها. وبهذا يكون المسؤول العسكري رب العمل في الوقت نفسه. حسام (اسم مستعار) هو أحد العمال/ المقاتلين، أب لستة أولاد كان يعمل حمّالاً مياوماً في سوق الخضار، ويتقاضى حالياً 220 دولاراً في الأسبوع مقابل عمله في ورش البناء مع أحمد. تحسّن وضعه في شكل ملحوظ. «حين تبدأ المعارك، أغادر الورشة وأصطحب معي عمالي للدخول الى الجبل»، يقول أحمد. ثم يضيف: «احياناً اضطر الى إبقاء بعض العمال في «الورشة» كي لا أثير استياء المقاول بفعل تأخير التسليم». أما في بعل محسن حيث التراتبية الحزبية تلعب دوراً أساسياً، فتدخّل الحزب العربي الديموقراطي مباشرة لدى ارباب العمل في منطقتي جبيل والصفرا، يكون لإعادة أبناء الجبل الى وظائفهم بعدما تم تهديدهم بالطرد إثر تغيّبهم عن العمل للمشاركة في المعارك. هذا وفق ما قال علي فضة، عضو المكتب السياسي للحزب العربي الديموقراطي المسيطر في الجبل بقيادة رفعت علي عيد. وفي أثناء المعارك، يتولى المسؤولون الميدانيون في بعل محسن، بالتنسيق مع القيادة السياسية، الإنفاق على المقاتلين وعائلاتهم. «كيف يمكن المقاتل أن ينفق على نفسه وعلى عائلته والمعركة مشتعلة؟ إن لم أؤمّن له مصروفه، سيرمي بندقيته، ليتركني ويتدبّر امره»، يقول أحمد بعفوية. في بعل محسن أيضاً، يتم التعويض للمقاتلين عن وقف نشاطهم الاقتصادي، هذا إن كان موجوداً بالفعل، بعد جولات العنف بمبالغ تتراوح بين 250 ألف ليرة (نحو 160 دولاراً) وفق دور المقاتل ومدة المعركة، فيما تنحصر الاستفادة من التقديمات الصحية خارج المعارك بالمقاتلين والمقربين من القيادة السياسية. الأمر مشابه في التبانة، لكن من دون منهجية حزبية نتيجة تعدّد القيادات السياسية... إلا ان مقاتلي التبانة يستفيدون بدورهم من «شبكة الحماية» نفسها وأحياناً من مساعدات نقدية. ولعلّ إقفال مكاتب معظم الزعامات المحلية بُعيد انتخابات 2009 في التبانة، وما استتبعه من شح في تقديم المساعدات والخدمات الاجتماعية، أدى الى تنامي دور القيادات الميدانية.... فأصبحت تُقدم المساعدات لمقاتليها ولعائلاتهم بشكل مباشر أثناء المعارك وخارجها. ويقول المقاتل أبو عوّض عن عمر قائده الميداني: «الحمد لله انه دائماً يساعدنا... قدر استطاعته بالطبع. يوزع علينا الخبز والخضار وأحياناً الأدوية»، معبراً عن استيائه من الزعامات الطرابلسية. المقاتل المخضرم كان يملك مسمكةً متواضعة في التبانة، احترقت ومنزله في إحدى المعارك منذ حوالى سبعة أشهر. ومن حينها، لم يعد قادراً على إعالة أولاده الثمانية. «هذه السنة لم اسجّل أولادي في المدرسة (الرسمية)، للأسف اصبحت بين خيار ان أطعمهم أو أن أعلّمهم». في كل الأحوال، تسرب اثنان منهم (13 و15 سنة) من المدرسة والتحقا بالمعارك منذ اندلاعها. ويستعيد نبرته المتفائلة بصعوبة فيقول: «لكن أولاد الحلال أمثال الحاج (عمر) ما زالوا موجودين». هنا، تتعدى «التغطية الصحية» فترة المعارك. فالقائد الميداني يتحمّل مسؤولية (ولو جزئياً) طبابة واستشفاء مقاتليه وأسرهم في فترات الحرب كما «السلم». محمود مثلاً (17 عاماً) هو أحد مقاتلي القائد عمر. شاب نحيل وقصير القامة، يعمل نجاراً في التبانة براتب شهري لا يتعدى 120 ألف ليرة (حوالى 80 دولاراً). خجول، قليل الكلام وكثير التدخين. محمود يساعد والده، عامل التنظيفات، في إعالة عشرة إخوة وأخوات. الراتب لا يكفيه شيئاً بعد خصم مصروف سجائره اليومية. لذلك، يُضطر الى العمل كعتّال ليلاً في سوق الخضار وبالكاد يؤمّن خبزه اليومي. يقاطع القائد عمر الحديث بنبرة لا تخلو من الفوقية: «حين يمرض هو أو أحد إخوته (المقاتلين)، اضطر لتغطية طبابتهم وأدويتهم». وإن كان مقاتلو أحمد (جبل محسن) عمّال بناء، فمعظم مقاتلي عمر (تبانة) عتالون في سوق الخضار، وليست صدفةً أن تكون شرايين الحرب هي القطاعات الاقتصادية الأساسية في المنطقتين. فالصعود في هرمية قطاع البناء والألبسة في بعل محسن يشكل رافعة لصعود السلّم العسكري والسياسي. كذلك في باب التبانة حيث الانتقال من «عتال» الى «معلّم» وصولاً الى تاجر خضار غالباً ما يترافق مع فرض «نفوذ على الأرض». وسطاء الحرب في بعل محسن، لا يوجد وسطاء حرب. هو وسيط واحد يتمثّل برفعت عيد. لكن المسؤولين الميدانيين كثر وأوضاعهم تتحسّن تدريجاً. فهم صلة الوصل بين القيادة السياسية المركزية والمقاتلين، لجهة توزيع السلاح والذخائر والإعاشات والتعويضات. أحمد مثلاً أصبح منذ سنتين «معلّم باطون» بدخل يومي يقارب 100 دولار. يتعهد ورش بناء على حسابه الخاص، فيما كان سابقاً عامل بناء بأجر يومي لا يتعدى 22 دولاراً. وصحيح أنه بعد كل جولة عنف، يعوّض عليه صندوق الحزب العربي الديموقراطي المبلغ المدفوع خلال المعركة من ذخائر وإعاشات للمقاتلين وعائلاتهم، إلا أن «للمسؤول الميداني واجبات وعزوة بفعل وضعه المالي وكونه رب عمل مستقلاً... لذا يجب أن يبقي أوضاعه المادية جيدة»، على ما يقول أحمد. فالقادة الميدانيون في بعل محسن جميعهم أرباب عمل: «هذا صاحب فرن، وذاك يملك ميني ماركت، وآخر لديه مكتب تاكسي...»، يعدد أحمد. ويقول حسن وهو أحد المقاتلين: «الكوادر وضعهم مختلف عن بقية الناس... فالمال والسلطة دائماً يجتمعان، بعض الأشخاص صعدوا اقتصادياً بعد 2008». يستدرك حسن حساسية الموقف وهو يتحدث من شرفة منزله في بعل محسن فيقول: «لكن ذلك بحكم انهم مستهدفون اكثر من غيرهم». ظاهرة الصعود الاقتصادي للمسؤولين الميدانيين تظهر جليةً في رواية جعفر، من بعل محسن، عن مسؤول يعرفه شخصياً كان عامل بناء، وبين «ليلة وضحاها صار الناس يطلبون رضاه... فبدّل سيارته واشترى منزلاً في حي ميسور من بعل محسن». في التبانة، وإن كانت البنية السياسية-الاقتصادية مختلفة، لكن عملية الترقي الاقتصادي والعسكري مشابهة الى حد بعيد. عمر تاجر خضار متخصّص في بيع الليمون والجزر على مدار السنة. سكن في منطقة راقية من طرابلس منذ قرابة السنة، كما اشترى حديثاً شقتين في منطقة تتسم بالمستوى الاجتماعي ذاته لمقاولي بعل محسن. حاول كثير من الزعماء استمالته قبيل الانتخابات بمنطق «جيّر لنا أصوات جماعتك ونحسّن وضعك». لكنه لا يريد ان يصبح محسوباً على زعيم طرابلسي معيّن، فقرّر الاستفادة من الجميع. يقول غامزاً بطرف عينه إنه يعرف كيف ينفق الأموال التي تُقدمها بعض الزعامات المحلية تحت تسمية «مساعدات إنسانية». في قهوة شعبية وسط سوق الخضار يجتمع بعض مسؤولي المحاور، حول طاولة خشبية مستطيلة. صورة زعيم التبانة ابو عربي تعلو الجميع، فما زال القيادي التاريخي في طرابلس السبعينات والثمانينات حاضراً في ذاكرة الحي الجماعية بعد اغتياله من جانب النظام السوري عام 1986. يقوم عمر بتعريف رجاله محدّداً ولاءاتهم السياسية المتعددة ومشيراً بإصبعه الى كل واحد باسم الزعيم المحلي الذي ينتمي اليه الشخص: «ميقاتي، صفدي، حريري، كرامي وحركة التوحيد (القيادة العامة)». والواقع ان حال الفراغ السياسي والأيديولوجي تدفع بالكثير من الأشخاص الى الالتزام، ولو صورياً، مع زعماء محليين مقابل رواتب شهرية تتراوح بين 400 و500 دولار لمدة أربع سنوات لأغراض انتخابية بحتة، بمنطق «هو يدفع، نحن نلتزم». «لا يهمّ» ان يستفيد المسؤولون الميدانيون من الزعماء، يقول عمر. «الناس مخنوقة مادياً والمهم ان يبقى ولاؤهم الحقيقي للتبانة». وذلك الولاء للتبانة الذي جعل عمر وجيهاً محلياً، هو ما يجعل في المقابل هؤلاء الرجال صلة وصله مع الزعماء المذكورين. فهم يسهلون علاقته مع الزعماء والممولين ويبقى هو زعيم التبانة ووسيط الحرب فيها. لكن المسألة ليست غالباً بهذه البساطة. كتاجر خضار، يضطر عمر أحياناً الى شراء الليمون والجزر من الفلاحين، حتى لو تعثّر التصريف وذلك للإبقاء على احتكاره وتفادياً لأن يشتري المحصول تاجر آخر فيفقد بالتالي سيطرته على السوق. المنطق نفسه ينطبق على نفوذه العسكري والسياسي. فهو أحياناً يتكبد مصاريف من جيبه الخاص ثمن ذخائر واستشفاء ومساعدات للحفاظ على ولاء رجاله ونفوذه العسكري-السياسي. وتكون الاستفادة نسبية أحياناً. فالقائد الميداني يتصرف آخذاً في الاعتبار منظومة الحرب الموجودة وكيفية التعامل معها. كقيادي عسكري، لا أحد يجرؤ على فرض الخوّة عليه في سوق الخضار، كما يحافظ على دوره كوسيط بين الممولين والمقاتلين. هذا من دون إغفال التقدير الاجتماعي الذي يكتسبه بين أوساط المقاتلين. فالمحافظة على «ملكية الصراع» أمر جوهري بالنسبة الى القائد الميداني، من خلال سيطرته على مفاصل اللعبة وعلى مكانه كلاعب أساسي يتمتع بنفوذ تصعب السيطرة عليه أو مصادرته من الزعامات المحلية. هي لعبة لها قواعدها وأصولها. فما إن تنتهي جولة عنف حتى تُعاد تعبئة الدشم وبناء المتاريس وشراء الذخائر استعداداً للمعركة المقبلة... المضبوطة زمنياً وجغرافياً. لعبة يستخدم فيها اللاعبون جميعاً جنودهم فتخيم رائحة الموت. وخلافاً للعبة الشطرنج، يذهب ضحيتها البيادق من دون «الملك».