أغرى تشابه تفكك النظم السياسية السلطوية في العالم بدراسة أوجه التقارب والتباعد في التحول الديموقراطي في أوروبا الشرقية وبلدان أميركا اللاتينية مقارنة مع البلدان العربية، فقد أتت الثورة البرتقالية في أوكرانيا والتحولات الجماهيرية في جورجيا ولبنان لتغري الباحثين بدراسة أنماط تآكل الأنظمة الشمولية في العالم، وتعزيز قدرات المجتمع المدني على التحول الآمن باتجاه الديموقراطية والتعددية. فقد حققت التجربة التشيكية في التحول الديموقراطي على سبيل المثال نجاحاً على مستويين، الأول على مستوى التحول الآمن من عهد تجربة الحزب الواحد الشمولي إلى الديموقراطية التعددية، والثاني على مستوى الانفصال"السلس"عن سلوفاكيا من دون المرور بحروب عرقية أو اثنية كما حصل في يوغوسلافيا السابقة. ولذلك تعد دراسة هذه التجربة مهمة على الصعيد النظري على مستوى دراسات التحول الديموقراطي، وعلى الصعيد العملي من حيث تقييم التجربة وملاحظة أخطائها والاستفادة من خبراتها. فمن المعلوم أن سبحة التحول الديموقراطي في دول أوروبا الشرقية بدأت في بولندا منذ عام 1988 حيث لعبت منظمة"تضامن"دوراً فعالاً في هذا التحول، ثم المجر، فألمانيا الشرقية ثم تشيكوسلوفاكيا. إذ يمكن تقسيم دول أوروبا الشرقية التي شهدت تحولاً ديموقراطياً إلى ثلاثة نماذج: الأول: يمكن أن نطلق عليه وصف التحول الاحتجاجي السلمي كما حصل في بولندا عبر تحريض حركة"التضامن"البولندية أكبر عدد من الناس على النزول إلى الشارع والقيام باعتصامات وإضرابات سلمية أقنعت الحزب الشيوعي الحاكم بضرورة تقديم تنازلات انتهت بسلسلة من الإجراءات التي حققت ما يطلق عليه التحول الديموقراطي. الثاني ما يوصف ب"الثورة المخملية"كما في تشيكوسلوفاكيا حيث استطاعت حركة المعارضة النخبوية الداخلية والخارجية التي بدأت بما يسمى"الميثاق 77"والذي لم يتجاوز عدد الموقعين عليه أكثر من 1200 شخص وفي المراحل المتأخرة حتى، من الضغط على الحزب الحاكم وإجباره على التخلي عن امتيازاته الخاصة، وهو ما فتح الباب لتحول ديموقراطي سلمي وآمن، وتبدو تجربة المجر قريبة جداً من ذلك. أما النوع الثالث فهو التحول الاحتجاجي الذي ترافق مع العنف كما في رومانيا وبلغاريا. عندما نتحدث عن التجارب المختلفة، سيحاول كل بلد بالتأكيد إقناع ذاته بخصوصيته، وأن كل بلد هو فريد ولا يمكن تكرار تجربته، لكن الدراسات المقارنة تعلمنا كيف أن عوامل الشبه أكثر مما يتصور دعاة الخصوصية، وبالتأكيد فالاستنساخ غير وارد، لكن هناك دروساً لا بد من التعلم منها، إذا رغبنا في الإفادة منها بغية تحقيق التحول الديموقراطي في العالم العربي. فرغم الخصوصيات التي تفرضها كل دولة على حدة تظل فروقات أساسية تحكم تطور كل تجربة، وقد بنيت هذه الملاحظات على لقاءات شخصية مع مسؤولين سابقين وحاليين في براغ وغيرها من عواصم أوروبا الشرقية، ضمن زيارة دراسية قمت بها إلى تلك الدول: - إن الأحزاب الشيوعية في دول أوروبا الشرقية كانت تعتمد اعتماداً كلياً على الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، سواء في تبرير وجودها أو في سندها السياسي والاقتصادي، ولذلك لما انهار الاتحاد السوفياتي وسقط حزبه الشيوعي الحاكم لم يعد هناك من مبرر لبقاء الأحزاب الشيوعية التي تدور في فلكه، فالاعتماد الكلي على الاتحاد السوفياتي ربط شرعية الأحزاب الشيوعية في دول أوروبا الشرقية بشرعية الحزب الشيوعي السوفياتي، ولذلك لما سقط التمثال الأكبر لم يعد للتماثيل الصغرى مبرر لوجودها، في حين أن الدول الاشتراكية في الوطن العربي والتي حافظت على علاقة وثيقة مع الاتحاد السوفياتي كسورية والجزائر والعراق لم تربط شرعيتها بشرعية الحزب الشيوعي السوفياتي، وإنما حافظت على مسافة دائمة منه، وحاولت باستمرار أن تدمج فيها العامل القومي مع المبرر المصلحي للأنظمة السياسية، ولذلك بسقوط الاتحاد السوفياتي سقطت كل الأحزاب الشيوعية المتحالفة معه في أوروبا. لكن مثيلاتها في العالم العربي استطاعت أن تتكيف بسهولة وتعيد إحياء دورها بناء على العامل القومي والوطني بعد انتهاء المفعول الأيديولوجي. - ثاني هذه الفروقات أن الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية ظلت أحزاباً سياسية تعمل بشكل مؤسسي، ورغم نزعتها الشمولية واعتمادها الكلي على الاتحاد السوفياتي في سياساتها جميعها، إلا أنها ظلت تقوم على فكرة الحزب الشمولي إذا صح التعبير. صحيح أنه لا تنطبق عليها معايير الحزب السياسي بالمعنى الدقيق للكلمة، بوصفه صلة الربط بين القواعد والقيادات الحزبية والسياسية، وإنما كان يقوم على احتكار التمثيل السياسي بأعضاء المكتب السياسي الذين يجري تعيينهم واختيارهم من فوق وفق معايير الولاء والمصالح الشخصية والشبكات الزبائنية، إلا أن القرار في النهاية كان يخضع لقرار مشترك من القيادة الحزبية العليا، بحيث يجري احترام نظام التقاعد سواء في المناصب الحزبية أو العسكرية وحتى الأمنية، وهو ما لم ينطبق على حالات الدول العربية التي حكمتها أحزاب شبيهة بخاصة سورية والعراق في حكم حزب البعث أو مصر، إذ تضاءل دور الحزب وقيادته السياسية إلى أن انتهى تماماً ليصبح مجرد جهاز تبريري او دعائي لقرارات الرئيس القائد، كما أن النظام السياسي نفسه لم يعد نظاماً حزبياً بقدر ما أصبح نظاماً عائلياً يتحكم به أفراد الأسرة الحاكمة ولها القرار الأخير في خيارات البلد السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية كما جرى في حالة صدام حسين على سبيل المثال. وهذا الفارق الجوهري هو الذي منع الحزب الشمولي من التفكير بالقيام بالتغييرات الضرورية والانفتاح باتجاه تحقيق التحول الديموقراطي رغم ازدياد حجم المطالب الداخلية. - العامل الثالث من الفروقات هو العامل القومي، ففي جميع دول أوروبا الشرقية لا وجود للعامل القومي بالحدة ذاتها التي نجدها في الدول العربية وبخاصة في دول مثل سورية والعراق ومصر، فعلى حد قول أحد المسؤولين التشيكيين:"نحن لا نتذكر أننا أمة إلا حين يربح فريقنا مباراة لكرة القدم"، وهو ما أضعف استفزاز هذا العامل واستثماره من قبل النظام الحاكم لقمع معارضيه بقسوة وشدة واتهامهم بأنهم يهددون مصالح البلد القومية العليا، وما رفع العامل القومي في الدول العربية هو احتلال إسرائيل لجزء من الأراضي العربية في فلسطين والجولان لتزيد من استنفار العامل القومي وتأجيجه في داخل الصراعات الاثنية والقومية. - التجانس العرقي والاثني والطائفي عامل مهم في تخفيف حدة النزاعات بين النخبة السياسية الحاكمة وبين المعارضة السياسية، بحيث لا تستطيع النخبة اللعب على الوتر الاثني على سبيل المثال أو الاحتماء خلف طائفة ما بحيث يجري تجييرها داخل الصراع من أجل تأبيده أو تخويف المجتمع بأكمله من مصير الحرب الأهلية. - وأخيراً العامل الخارجي، ففي حين كانت الضغوطات مركزة بشكل كبير على الأحزاب الشيوعية من أجل الانفتاح والدمقرطة سواء من قبل الولاياتالمتحدة والمعسكر الغربي بهدف القضاء على الشيوعية ومحاربة المعسكر الاشتراكي، أو من قبل الكنيسة الكاثوليكية في روما لضمان حرية الممارسة الدينية التي انتهكها النظام الشيوعي، وفي الوقت نفسه الضغوطات الداخلية القوية من أجل الدخول في الاتحاد الأوروبي والانفتاح على العالم، مقابل ذلك كان تركيز العالم في منطقة الشرق الأوسط على ما يسمى الاستقرار وضمان أمن إسرائيل عبر التركيز على ما يسمى حل الصراع العربي - الإسرائيلي وإهمال الأجندة الديموقراطية في المنطقة بالكامل. فحرب الخليج الثانية التي كان من أهدافها إخراج القوات العراقية من الكويت، ترافقت مع تفكك متلاحق لدول المنظومة الاشتراكية السابقة في الضفة الأوروبية، لكنها في ضفة جنوب المتوسط عنت شكلاً جديداً من الهيمنة الدولية على القرار الوطني المستقل عبر ما يسمى"النظام العالمي الجديد"، وهذا يعني عبر ترجمته الرسمية تجديد القبضة على المجتمعات ومنعها من التأثر بارتداد الموجة الديموقراطية. وعلى ذلك وجدنا في ما بعد تركيزاً دولياً ورسمياً على عملية السلام العربية - الإسرائيلية وتجاهلاً تاماً لمصالح هذه المجتمعات في الديموقراطية وحقوق الإنسان. كان المجتمع الدولي في حينه معنياً فقط بإنجاح السلام كسبيل لحل مشاكل المنطقة، وربما يساعد ذلك في ما بعد في الانفتاح السياسي عبر سحب الذريعة القائمة على أن لا إصلاح سياسياً ما دامت دول المشرق في حالة حرب مع إسرائيل تستدعي العمل بقوانين الطوارئ وغيرها من القوانين الاستثنائية، وعلى ذلك كانت صيحات النشطاء الديموقراطيين في تلك الفترة تعصف بها الرياح بعيداً جداً أو ترددها فقط جدران السجون. * باحث في معهد الولاياتالمتحدة للسلام USIP - واشنطن