تعتبر بلغاريا، لاكثر من سبب، نموذجاً يمكن من خلاله فهم الكثير من المجريات في البلدان الاشتراكية السابقة في اوروبا الشرقية، لا سيما في منطقة البلقان، التي تحبل بشتى الاحتمالات. هنا نظرة على الماضي القريب لبلغاريا تشرح آليات الانعطاف السياسي والاقتصادي في ذلك البلد، تلك التي ينخرط فيها غير بلد عربي بعد سقوط نظام صدام حسين. في 10 تشرين الثاني نوفمبر 1989، بدأت في بلغاريا عملياً مرحلة التحول عن الحكم الشيوعي السابق، والانتقال الى تطبيق الديموقرطية والليبيرالية الغربيتين، في بلد لا يزال على رغم كل التغييرات يحافظ على خصائصه البلقانية الرئيسية. ومذ ذاك رفعت المعارضة الديموقراطية البلغارية شعاراً رومانسياً، استهوى أمزجة المثقفين النرجسيين وميول الفتيان الخالية من الهموم اليومية، وهو: "45 سنة تكفي!". وكان المقصود طبعاً سنوات الحكم الشيوعي، الذي بدأ في 9 ايلول 1944، وتسميه المعارضة المعادية للشيوعية "انقلاباً"، فيما يسميه الشيوعيون "انتفاضة"، وكان يحتفل به بوصفه "العيد الوطني" لبلغاريا. ومن اصل هذه ال45 سنة "الحمراء"، استمر عهد الرئيس "التاريخي" الاسبق تودور جيفكوف حوالى 33 سنة، ما يزيد بحوالى سنتين عن فترة حكم ستالين للاتحاد السوفياتي السابق. وعلى رغم تغيير الرؤساء والتقلبات في المنظومة السوفياتية السابقة، استطاع عهد جيفكوف ان يستمر كل هذه المدة لسببين رئيسيين: 1- دهاؤه "الفلاحي البلغاري"، وقدرته على استشعار اتجاهات الريح، والمحافظة على علاقات شخصية، داخلية وحزبية واسعة. 2- تحقيق نجاحات اقتصادية مرموقة، وتحويل بلغاريا من بلد زراعي - رعوي فقير ومتخلف، الى بلد صناعي - زراعي - سياحي متقدم ومتعلم، وتقديم ضمانات وخدمات اجتماعية كبيرة مثال: تطبيق مبدأ "لكل عامل مسكن"، وغيره من المكتسبات، و"استغلال" صداقة الاتحاد السوفياتي حيث كانت بلغاريا تعتبر اقرب بلد للسوفيات، وسماها البعض "الجمهورية السوفياتية السادسة عشرة" من اجل تأمين المصالح الاقتصادية للبلاد. وكان نظام جيفكوف من القوة بحيث تجرأ على القيام بما يسمى "عملية الإحياء"، التي تمت في السنوات 1983-1985، وجرى فيها تغيير اسماء الاتراك والمسلمين البلغار الى اسماء مسيحية بلغارية، بحجة ان كل المسلمين في بلغاريا، بمن فيهم الاتراك اصلاً، هم مسيحيون سابقون جرى "تتريكهم" بالقوة في العهد العثماني. واذا كانت الحجة واهية لا تصمد للنقد، إذ لا تنطبق سوى على قلة من المسلمين البلغار، الا انها لم تكن بهذا الضعف سياسياً. ومع ان هذه الحملة كلفت بلغاريا الكثير سياسياً واقتصادياً، داخلياً وخارجياً، الا ان عهد جيفكوف نجح في "الامتحان - المحنة"، في بلد فيه حوالى مليون ونصف مليون تركي ومسلم، ويقع مباشرة على حدود تركيا. فعلى رغم سلبيات هذه الحملة، من وجهة نظر الحريات والحقوق الانسانية، الفردية والاتنية والقومية، كانت بمثابة "عملية وقائية" ناجحة ضد مخاطر اللعب بالمسألة الاتنية، بالاخص "الاسلامية"، الذي شهده البلقان لاحقاً. كان نظام جيفكوف، كعادته، على استعداد لأن يحني رأسه امام العاصفة، وأن يقوم ب"بيريسترويكا بلغارية"، بقيادة او على الاقل برعاية جيفكوف ذاته. لكن "مؤشر القوة" الرئيسي لهذا النظام، الذي كان يتمثل في الاعتماد الزائد - خصوصاً اقتصادياً - على السوفيات، هو الذي كان يحتم وجود "نقطة ضعف" قاتلة فيه، ونعني اضطراره في اي وقت للاذعان لأوامر موسكو، مهما كانت، خلافاً للنظام اليوغوسلافي السابق الموروث عن تيتو، الذي كان اكثر استقلالية تجاه "الشرق" و"الغرب" معاً. وموسكو كانت لها حساباتها الاخرى. وحين جاء الأمر من غورباتشوف لجيفكوف بضرورة التنحي، اضطر صاغراً للتنفيذ. فكان ذلك، في البداية، بمثابة "انقلاب شيوعي" ابيض، في 10 تشرين الثاني نوفمبر 1989. وقام بإبلاغه امر التنحي ثلاثة من الشيوعيين "الصراطيين" او الارثوذكس، من رفاقه في السلاح، الذين كانوا يقاتلون معه في "فرقة انصار" واحدة اثناء الكفاح ضد النازية. وأحد هؤلاء الثلاثة هو دوبريي جيروف، وزير الدفاع الاشهر الذي شغل هذا المنصب سنين طويلة، وثانيهما هو ديميتر ستانيشيف، الذي كان مسؤولاً عن العلاقات الخارجية للحزب الشيوعي البلغاري وصديقاً قريباً جداً من العرب، وهو والد سرغيي ستانيشيف، الرئيس الحالي للحزب الاشتراكي البلغاري الشيوعي سابقاً. خلال ذلك بدأ الشيوعيون عملية تغيير ذاتي، فتخلوا عن تسميتهم "الشيوعية"، وحملوا اسم "الحزب الاشتراكي"، وغيروا اسم جريدتهم المركزية "قضية العمال"، ليصبح "الكلمة"، وألغوا التزامهم مبدأ "الثورة الاشتراكية" و"ديكتاتورية البروليتاريا"، والدور القيادي الرئيسي للحزب في الدولة والمجتمع، وغير ذلك مما كان "الاشتراكيون الديموقراطيون" يعتبرونه "مآخذ تاريخية" جوهرية على الشيوعية. واصبح الشغل الشاغل، او الهم الاكبر للشيوعيين السابقين، الاشتراكيين الجدد، عمل كل ما هو ممكن كي يكسبوا رضا "الاشتراكية الدولية" ويقبلوا في صفوفها، جنبا الى جنب السادة بلير وشرويدر وسولانا وغيرهم. لكن في ما بعد، قال الشيوعيون "الصراطيون" إنهم خدعوا! اذ كانوا يعتقدون ان تغيير جيفكوف سيكون خطوة نحو تحقيق نوع من التجديد "الديموقراطي" والانساني في النظام الاشتراكي ذاته، وليس اعادة الرأسمالية المتوحشة، بحسب تعبيرهم. فبعد تحقيق المهمة الصعبة، بإزاحة "ابو الهول" اي جيفكوف القوي، من طريق الحيلة السياسية، وبواسطة رفاقه في السلاح، مع تطمينه على وضع الحزب و"النظام الاشتراكي"، تسلم رئاسة الجمهورية بيتر ملادينوف. وكان مطيعاً تماماً للسوفيات، الا انه كان ضعيف الشخصية، ما جعله غير قادر على مواجهة الموجة "الغربية" الصاعدة. والى جانبه تسلم رئاسة الوزارة اندريه لوكانوف، وهو شخصية مثقفة ونشطة وكاريزمية، الا ان بعض الاوساط "الشيوعية" السابقة تتهمه انه كان "مشغولاً" منذ وقت سابق بيد الدوائر الاميركية والاسرائيلية، خصوصاً من طريق الاعلامي والمليونير اليهودي الشهير روبرت ماكسويل، الذي كان بريطانياً يحمل في الوقت نفسه الجنسية الاسرائيلية. وكان مكسويل هذا عميلاً مشهوراً للموساد، وعلى علاقة وثيقة بالنظام البلغاري منذ عهد جيفكوف، وقد اغتيل في ظروف غامضة على يخته في البحر، ودفنته اسرائيل مع "ابطالها التاريخيين" في تل ابيب. وعلى رغم تنحيته عن السلطة، والحملة على نظامه وتحميله مسؤولية كل السلبيات، ظل تودور جيفكوف العجوز يتمتع بأكبر شعبية يتمتع بها أي سياسي في بلغاريا. وقد عمل "الاصلاحيون" و"الديموقراطيون" على تقديمه للمحاكمة، الا انهم فشلوا في الاستمرار فيها، خشية ان تنقلب عليهم، لا سيما بعد ظهور عجزهم عن القيادة السليمة لدفة البلاد. وفي العهد الهجين الذي أعقب مباشرة إزاحة جيفكوف، بدأت خطة مزدوجة ل"تغريب" بلغاريا: أولاً - على النطاق السياسي، دعي الى ما سمي "الطاولة المستديرة" للحوار، التي شاركت فيها "المعارضة الديموقراطية" الجديدة، من اجل البحث في مستقبل البلاد. ولكن تحت شعارات التحول الديموقراطي، الذي كان "الشيوعيون" السابقون موافقين عليه، بدأت عمليات استفزاز سياسي وتظاهرات واضرابات وتحديات، وصلت الى حد حرق مقر الحزب الاشتراكي الشيوعي سابقاً في قلب العاصمة. واضطر الرئيس "الشيوعي" الاخير بيتر ملادينوف الى تقديم استقالته. وانتخب، بموافقة النواب الاشتراكيين الذين كان لهم حينذاك الاكثرية في مجلس النواب، اول رئيس "ديموقراطي" هو الفيلسوف الماركسي "المرتد" جيليو جيليف. وفي ما بعد، وبعد تعديل الدستور بحيث اصبح الرئيس ينتخب مباشرة من الشعب، انتخب جيليف للرئاسة حتى 1996. وفي هذه الفترة اطلق شعار "طريق بلغاريا الى اوروبا" اي اكثر تحديداً: الاتحاد الاوروبي، الذي أصبح "موضة" تبنتها غالبية القوى السياسية الرئيسية، خصوصاً الحزب الاشتراكي. وأضاف الرئيس جيليف تعديلاً "لوذعياً" على الشعار الجيوبوليتكي بالقول: "طريق بلغاريا الى اوروبا يمر عبر واشنطن". ثانياً - على النطاق الاقتصادي، بدأت عملية واسعة النطاق البرلة الاقتصاد على الطريقة الغربية، بطريقة هوجاء غير مدروسة اقتصادياً، بعيدة عن اي شعور بالمسؤولية الوطنية والاجتماعية. فلم توضع خطة للتكييف التدريجي لاقتصاد البلاد، بل بدئ بتنفيذ الوصفات الجاهزة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وما سمي "العلاج بالصدمة" والتطبيق العشوائي لمعايير الاقتصاد الرأسمالي الحر، على بلاد كانت تقوم كلياً على الاقتصاد الموجّه، ويشغل فيها القطاعان العام ملكية الدولة والتعاوني اكثر من 95 في المئة من الانتاج. ولكن مع موافقة الغالبية على الشعارات الديموقراطية السياسية وتطبيق اقتصاد السوق، تسللت العناصر السلبية، وجرت، في فترة وجيزة، عملية تخريب ونهب اقتصادي واسع النطاق، لا سيما في الريف، الذي بدا كأن "عاصفة صحراء" اميركية ضربته. وبدأ ينبت كالفطر السام من سموا مليونيرية "القروض الميتة" و"الشركات الاشباح"، الذين جمعوا ثرواتهم الخيالية السريعة من الاستحلاب الاحتيالي للبنوك والمؤسسات العامة، ومن النصب على المواطنين السذج، الذين كانت تخدعهم عروض الفوائد والارباح الفلكية التي كان يعرضها هؤلاء. وبدأت تظهر طبقة "الاغنياء الجدد"، المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالفساد والجريمة المنظمة التي اصبحت سمة مميزة لحياة البلاد. وقسم كبير من هؤلاء كان من البيروقراطيين الفاسدين من جماعة النظام "الشيوعي" السابق، الذين اطلقت عليهم تسميات مثل "البورجوازية الحمراء" و"المافيوزات الحمراء". وهرّبت غالبية الثروة الوطنية المنهوبة الى الخارج. وأعلن وقف دفع الدين الخارجي. ووصل عدد العاطلين من العمل الى اكثر من نصف المليون نسمة في فترة وجيزة، في بلد يقل عدد سكانه عن ثمانية ملايين، وفيه حوالى مليوني متقاعد. وانهار الاقتصاد الزراعي العريق، والصناعة التعدينية، وصناعة الاسلحة التي كانت ناجحة جداً. وأفلس الكثير من المؤسسات الكبيرة والبنوك بطرق احتيالية، وبيع بعضها في ما بعد للغربيين والاسرائيليين والرأسماليين المحليين الجدد بأبخس الاثمان. وتفاقمت الجريمة. وساد جو من الاضطراب الامني سنوات عدة. وقامت حرب المافيات السرية. وفي هذه الاجواء المضطربة اغتيل رئيس الوزراء "الشيوعي" السابق اندريه لوكانوف، الذي كان على علاقة وثيقة جداً بعالم المال والاعمال الجديد. ولا يزال اغتياله الى اليوم لغزاً ويعتبره بعض المحللين احدى المحطات البارزة في صراع النفوذ الروسي - الغربي، فيما يعتبره آخرون صفحة من صفحات صراع "مراكز القوى" السياسية الجديدة - القديمة، او جولة في حرب المافيا. وفي تلك الفترة بدأ "انعطاف" في العلاقات الخارجية الرسمية لبلغاريا، تبدى في الابتعاد عن الخط التقليدي الموالي للاتحاد السوفياتي، ووريثته روسيا، وفي الانفتاح على الغرب عموماً واميركا خصوصاً. وفي هذه الفترة بالتحديد اعترى الفتور علاقات الصداقة التقليدية مع البلدان العربية، ما انعكس في شكل سلبي جداً على العلاقات التجارية العربية - البلغارية. الروليت السياسية وكان من اولى النتائج السياسية لهذه الفوضى، ان خسر الاشتراكيون الشيوعيون السابقون الاكثرية المطلقة في انتخابات 1990، لكنهم ظلوا يمثلون الكتلة النيابية الاكبر. وجاء الى السلطة ما يمكن تسميته وزارة تكنوقراط برئاسة ديميتر بوبوف. وبصرف النظر عن ميزات اشخاصها، فهي لم يكن لديها خطة فاعلة، فظلت الفوضى مستشرية، وهو ما كان يستغله الجناح اليميني والليبيرالي الجديد. فسقطت هذه الحكومة، وجاءت بعدها اول حكومة من "اتحاد القوى الديموقراطية" الموالي كلياً للغرب، برئاسة فيليب ديميتروف، الذي يشيع بعض خصومه بأنه عميل اميركي. فقامت وزارته، داخلياً، بتسريع عملية تخريب القطاع العام وإفلاسه، لا سيما صناعة الاسلحة، والتصفية الفورية الكاملة للقطاع التعاوني الزراعي الذي يعيل غالبية السكان. كما قامت، خارجياً، بالتحول الحاد في السير مع الغرب واسرائيل، وادارة الظهر كلياً الى روسيا والبلاد العربية. وفيليب ديميتروف هذا زار الجولان المحتل، الامر الذي اعتبر اعترافاً بشرعية ضم الجولان لاسرائيل. وبنتيجة هذه السياسة المنحازة، خسرت وزارته الاكثرية في مجلس النواب بعد حوالى سنة، واضطر للاستقالة. لكن "الديموقراطيين" الموالين للغرب كافأوه في ما بعد بتعيينه ممثلاً لبلغاريا في الاممالمتحدة، حيث كان يصوت دائما ضد الفلسطينيين والعرب. وبعد ديميتروف، جاءت وزارة ليوبين بيروف الائتلافية المعتدلة. لكنها لم تستطع الوقوف في وجه الفوضى الاقتصادية والسياسية. فحلت محلها وزارة لتصريف الاعمال، والاشراف على انتخابات جديدة، برئاسة السيدة رينيتا ايندجوفا، التي تعتبر ايضاً من الشخصيات السياسية الليبيرالية المعتدلة، والمؤيدة لاعادة العلاقات الطبيعية مع البلدان العربية. رد جمهور الناخبين على الفوضى المستشرية باعادة الاشتراكيين الشيوعيين السابقين الى السلطة، الذين فازوا بأكثر من ثلث الاصوات في انتخابات 1994. وأصبح رئيس الحزب حينذاك، جان فيدينوف، رئيساً للوزراء. وهو من خريجي القسم العربي في جامعة صوفيا، ومن جيل الشباب النظيفي اليد، الا انه قليل التجربة. فأقامت هذه الوزارة علاقات وثيقة وصريحة مع الدول الغربية والمؤسسات الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وفي الوقت ذاته حاولت اعادة التوازن الى العلاقات مع "الشرق" الروسي والصيني، وبصورة اكثر حذراً مع البلدان العربية والاسلامية. وطرحت خطة للانتقال التدريجي المدروس الى اقتصاد السوق، مع المحافظة على المكتسبات الاجتماعية. وأهم ما قدمته مشروع متوازن للخصخصة المالية الفردية و"الخصخصة الجماهيرية" بالبطاقات، في محاولة للوقوف في وجه النهب العام، والاغتناء غير المشروع، ما يتيح "تسييل" المؤسسات الريعية، وفي الوقت نفسه تحويل مئات الألوف من المواطنين الى مساهمين صغار ومتوسطين، وخلق "طبقة وسطى" واسعة. لكن الاوان كان قد فات. لأن "حيتان" الطغمة المالية الكبيرة المرتبطة بعالم الجريمة المنظمة داخلياً، وب"الرأسمال الكبير" خارجياً، كان لها كل القدرة، المالية والسياسية، لتجهض هذه التجربة. وبدأت محاربة حكومة فيدينوف باللعبة المالية، فقفز سعر الدولار من حوالى 50 - 60 ليفا الى اكثر من ثلاثة آلاف ليفا، ما ادخل البلاد في دوامة من عدم الاستقرار المالي المتعمد، الذي كان يديره من قريب ومن بعيد بعض الخبراء الاجانب المغرضين، بعلم او من دون علم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. اثر هذا الوضع المالي المتدهور كثيراً على نفوذ الاشتراكيين. وحينما جرت في 1996 انتخابات رئاسية جديدة فاز فيها، وبوجود الحكومة الاشتراكية التي ادارت الانتخابات بنزاهة، مرشح "اتحاد القوى الديموقراطية" المعارض بيتر ستويانوف، الذي كان والده خلال العهد الملكي الاسبق من انصار هتلر، والذي يعتبر من أشد المناوئين لكل ما يمت للشيوعية والاشتراكية بصلة. وتوج عدم الاستقرار في 1997 بالتظاهرات "الديموقراطية" الصاخبة المدبرة، التي قامت بمهاجمة البرلمان واعتدت على النواب الاشتراكيين بالضرب، وشرعت في تحطيم البرلمان وحرقه بطريقة غوغائية. ووقفت البلاد على شفير حرب اهلية، وتراجع الحزب الاشتراكي، وطلب من جان فيدينوف تقديم استقالة الوزارة لتجنيب البلاد أسوأ الاحتمالات، ففعل. وجاءت وزارة تصريف اعمال برئاسة ستيفان صوفيانسكي، رئيس بلدية صوفيا البارز و"الديموقراطي على حسابه". واشرفت هذه الوزارة على اجراء انتخابات نيابية مبكرة في 1997، فاز فيها "الديموقراطيون" ايضا بأكثر من 50 في المئة من الاصوات. بهذين الفوزين الانتخابيين، رئاسة الجمهورية والاكثرية النيابية، اكتملت حلقة السلطة الحزبية ل"الديموقراطيين"، ما اتاح لهم التفرد بتسيير السياسة الداخلية والخارجية للبلاد، بحسب برنامجهم السياسي، من دون اي مشاركة وأي مسايرة لأي طرف، إذ اعتبروا ان الغالبية الشعبية فوضتهم بذلك. علماً أن نصف عدد الناخبين لم يشارك في الانتخابات، وكانت تلك علامة فقدان ثقة الناخب العادي بالقوى السياسية القائمة، وبداية تآكل النظام الانتخابي. وجاءت حكومة "ديموقراطية" برئاسة ايفان كوستوف، الخبير المالي والسياسي العنيد، الذي كان وزوجته من الشيوعيين البارزين في السابق، وأصبحا من الد اعداء الشيوعية، ومن طبقة الاغنياء الجدد. وللوقوف في وجه الاضطراب الاقتصادي، فإن اول ما فعلته وزارة كوستوف انشاء ما يسمى "مجلس النقد" الذي ربط قيمة الليفا بالمارك الالماني، ومن ثم باليورو، ما حدّ من الاستقلالية والمبادرة الاقتصادية للدولة، وقلص الصناديق الاجتماعية المدعومة، وزاد معدلات الفقر، الا انه حقق استقراراً مالياً ايجابياً. كما نجحت حكومة كوستوف في ان تحد في شكل واضح من الفلتان الاجرامي. الا ان الفساد والرشوة والجريمة المنظمة انتقلت الى الطوابق العليا للدولة في شكل منظم و"مغطى" قانونياً، ما اضطر رئيس الوزراء الى اجراء تغييرات في وزارته اكثر من مرة. وكان ابرزها وأكثرها فضائحية اقالة الوزير بوجكوف، ذي الاصل اليهودي، الذي كان يضطلع بمهمة "المفاوض" السابق مع اوروبا باسم بلغاريا، وكان يسمى "مستر 10 في المئة"، لما كان يشاع عن السمسرات التي كان يقبضها. وهذا نفسه هو الذي يقف وراء بيع شركة طيران "البلقان" الى الاسرائيليين، بمبلغ زهيد في مقابل سمسرة تقدر بملايين الدولارات، بحسب ما اشيع. ونجحت هذه الحكومة في ربط البلاد كلياً بسياسة حلف الناتو وأوروبا الغربية، حيث دعيت رسمياً للانضمام الى الحلف والى الاتحاد الاوروبي، بعد تحقيق الشروط المطلوبة ومرور فترة انتقالية. ونشير هنا ان بلغاريا ستنضم رسمياً الى الناتو بعد اقل من سنة، والى الاتحاد الاوروبي بعد اكثر من ثلاث سنوات. وخلال حكم هذه الوزارة، وبتنسيق ورضى الدول الغربية، حاول رئيس الجمهورية خصوصا، ستويانوف، القيام ببعض التحركات الخارجية "المتوازنة" شكليا، ولا سيما زيارته الكويت وطلب مساعدة اقتصادية، ولقاؤه الرئيس ياسر عرفات لدى زيارته لاسرائيل، وكذلك زيارته للبنان. كما قام رئيس الوزراء كوستوف بزيارة الى روسيا، لكنها لم تتجاوز الشكليات المسرحية، ولم تهدف فعلاً الى كسر الجليد في العلاقات الروسية - البلغارية. الا ان وزارة كوستوف فشلت فشلاً ذريعاً على الصعيد الداخلي الاكثر حساسية، وهو الصعيد الاقتصادي - الاجتماعي، حيث تعرقلت الخصخصة الريعية، وتدهور الميزان التجاري، وارتفع عدد العاطلين عن العمل الى حوالى 700 الف، وعدد المهاجرين، لا سيما من الشباب، الى المليون، واستشرت آفة المخدرات، وبدأت الظاهرة المخيفة للتناقص الديموغرافي للسكان. "الملك" الجمهوري وكان من نتيجة الفشل، السياسي والاقتصادي، وتجريب "التكنوقراط" و"السياسيين"، ان الناخب البلغاري فاجأ جميع المراقبين والمحللين، في الانتخابات النيابية الاخيرة قبل حوالى ثلاث سنوات، بأن رفع "بطاقة حمراء" بوجه جميع اللاعبين من الفريقين "الازرق اليميني" و"الاحمر اليساري"، وأعطى نصف عدد الاصوات تماما لفريق جديد كان "خارج المباريات" هو "حركة انصار سيميون الثاني"، وهو الملك السابق الذي سبق ان تسنم العرش البلغاري وهو طفل، وابعد عن البلاد بعد اعلان الجمهورية، فعاش في المنفى حوالى 50 سنة، قضى منها سنوات في مصر وهو صغير، واستقر في ما بعد في اسبانيا. وكانت هذه النتيجة الانتخابية لطمة قوية ل"الديموقراطيين"، الذين انتقلوا دفعة واحدة من المرتبة الاولى الى المرتبة الثالثة، بعد الاشتراكيين، وبما لا يزيد عن 17 في المئة من الاصوات. واختار "الملك" لوزارته فريق عمل هو في الاغلب من الخبراء والاختصاصيين ذوي السمعة الحسنة، بحيث تبقى "الكلمة الاولى" له. كما قام بنقلة سياسية ذكية، هي التحالف مع "حركة الحقوق والحريات" التركية، التي اشركها بوزير، وفي الوقت نفسه اشرك وزيرين من "اللون الاشتراكي"، بصفتهما "الشخصية". وبذلك كانت وزارته "شبه ائتلافية". وقد طلب "الملك"، المتحفظ والمتكتم بشكل عام، مدة 800 يوم لتنفيذ برنامجه لانقاذ البلاد، لا سيما على الصعيد الاقتصادي. هل برّر "الملك" آمال الذين اختاروه كمخرج من اليأس؟ بالنظر الى الوضع الاقتصادي بالدرجة الاولى، لا يمكن الجزم بذلك. صحيح ان الوضع المالي للبلاد استمر في الاستقرار، وحدث تقدم طفيف في معدل نمو الدخل الوطني، لكن الحالة الاقتصادية العامة ظلت على درجة كبيرة من السوء، لا سيما لجهة زيادة الضرائب والرسوم، والبطالة المتضخمة التي بلغت المليون انسان، واتساع مساحة الفقر، والفشل في مواجهة جدية للفساد، وفي تحقيق سياسة مجدية للخصخصة، وبخاصة في قطاعات مهمة كصناعتي التبغ والاتصالات. ونلاحظ هنا ان كتلة "الملك" اخذت "تستهلك" شعبيتها، وتنقسم على نفسها. وانعكس ذلك في الانتخابات الرئاسية التي أجريت قبل حوالى السنتين، وفاز فيها المرشح الاشتراكي غيورغي برفانوف، على رغم ان "الملك" أيد الرئيس السابق بيتر ستويانوف. لكن غالبية الجمهور الذي سبق وصوّت ل"حركة انصار الملك"، عصت "ارادته السنية" في تأييد المرشح "الديموقراطي". وعلى هذا الصعيد لا بد من الاشارة الى ان "حركة الحقوق والحريات" التركية - الاسلامية، والمنظمات الغجرية، بشكل خاص، اعلنت وقوفها بصراحة الى جانب المرشح الاشتراكي. وكانت نتيجة الانتخابات الرئاسية الاخيرة بمثابة "درس جديد" ل"الديموقراطيين"، وفي الوقت ذاته انذار جدي ل"الملك"، الذي خسر "التفويض الآحادي" من جمهور الناخبين، ووجد نفسه مضطراً للحكم جنباً الى جنب رئيس اشتراكي قوي. الانتخابات الرئاسية في 2001 أوجدت خريطة جديدة للكتل السياسية، التي اصبحت متقاربة في نسبة القوة، والتي يمكن قسمتها الى ثلاثة "معسكرات" رئيسية هي: 1 - كتلة اليسار ويسار الوسط، المتمثلة في الحزب الاشتراكي وحلفائه من "الخضر" والاحزاب "الشيوعية" الصغيرة وغيرها. 2 - كتلة اليمين ويمين الوسط، المتمثلة في الاحزاب "الدموقراطية" وحلفائها. 3 - كتلة الوسط، التي ابرزها الان "حركة انصار الملك" المدعومة من الكنيسة الارثوذكسية و"حركة الحقوق والحريات" التركية. مفتاح اقليمي ومع الاخذ في الاعتبار الوضع الاقتصادي الصعب للبلاد، الذي يستغل أسوأ استغلال، فإن بلغاريا تستحوذ على اهتمام متزايد لدى مراكز القرار الاميركية والاوروبية، لا سيما بعد اندلاع النزاعات والحرب في يوغوسلافيا، واحداث 11 ايلول سبتمبر 2001 في نيويورك، و"الحملة الصليبية" الاميركية على "الارهاب"، التي اقتضت شن حربين دوليتين محصورتين حتى الان. ولا بد من التذكير هنا، انه - باستثناء الدولتين "اللدودتين" العضوتين في حلف الاطلسي، تركيا واليونان - يوجد في هذه المنطقة الاستراتيجية الحساسة ثلاثة اتجاهات قومية، تغيب وتظهر على السطح تبعاً للمراحل والاوضاع التاريخية، ويطمح كل منها لتحقيق دولته "الكبرى"، وهي: "صربيا الكبرى"، "البانيا الكبرى" و"بلغاريا الكبرى". وقد انقسم المجتمع البلغاري على نفسه في الموقف من الحرب الاطلسية ضد يوغوسلافيا. ولكن الموقف السلمي الموضوعي والمعتدل الذي انتهجته بلغاريا ككل، حيال الصراع الاثني الذي اندلع في يوغوسلافيا السابقة، اسهم الى حد كبير في منع امتداد الحريق وحصره. هذا مع العلم ان التيار "القومي البلغاري" يستجمع قواه، وهو مؤهل لأن يدخل الى ساحة الصراع كلاعب يحسب له حساب، ويمتلك تحالفات اقليمية ودولية قوية، اذا لم ينجح المجتمع الدولي في ايجاد حلول حقيقية عادلة للمسألة الاثنية والقومية في البلقان. ونظراً لكل ذلك، ارتفع، اذا صح التعبير، "سعر" بلغاريا في "بورصة" السياسة الدولية، لكونها - بخاصة بعد التغييرات التي حصلت فيها - اصبحت مرشحة للعب دور هي مؤهلة له من الوجهة الجيوبوليتيكية، هو دور "مفتاح بلقاني" و"حلقة وصل" بين اوروبا الغربية، وروسيا، والشرق العربي والاسلامي. ويقوم سباق بين كل من الجارتين اليونان، المحسوبة على الاتجاه "الاوروبي" في الحلف الاطلسي، وتركيا، المحسوبة حتى الآن على الجناح "الاميركي" فيه، اللتين تتسابقان لاستمالة بلغاريا كل من جهتها. وبعد احداث 11 ايلول 2001 اخذت الادارة الاميركية تعمل كما هو معروف لتحشيد جبهة عالمية بزعامتها، "لمكافحة الارهاب الدولي". وبطبيعة الحال كان هناك الكثير مما هو مطلوب من دول منطقة البلقان، ومنها بلغاريا. في هذه الاوضاع المعقدة وقفت بلغاريا موقفاً ازدواجياً من الحملة الاميركية: أ - على المستوى الرسمي: اعطت الحكومة البلغارية لاميركا حرية التصرف بالمدى الجغرافي البلغاري، جواً وبحراً وبراً، مساهمة منها في الحملة ضد "الارهاب الدولي". ولكنها تتردد في الموافقة على المشاركة بقوات عسكرية، لما في ذلك من مضاعفات "داخلية"، بلغارية وبلقانية. ولاظهار "الحيادية" و"الموضوعية" في السياسة الدولية لبلغاريا، قام في وقت سابق "النادي الاطلسي"، الذي يترأسه وزير الخارجية، بتوجيه دعوة للوزير الفلسطيني الدكتور نبيل شعث لزيارة بلغاريا. والى جانب هذه "الحيادية"، شُنّت طوال هذه المدة حملات اعلامية كبيرة معادية للعرب والمسلمين. ب - وفي المقابل يبدو في شكل واضح الموقف البلغاري المتسامح تجاه العرب والمسلمين، والذي انعكس في عدم وقوع اي استفزاز عنصري، وفي الموقف الحضاري والموضوعي للمؤسسات الرسمية، الامنية والسياسية، من الحضور العربي، متفهمة الاعتبارات الحقوقية والانسانية للموضوعات الشائكة المثارة، خصوصاً ما يسمى بالإرهاب.ص * كاتب لبناني مقيم في صوفيا.