Francois Bafoil. Le Post-Communisme en Europe. ما بعد الشيوعية في أوروبا. La Dژcouverte, Paris. 1999. 128 Pages. سؤال "ما بعد الشيوعية" ليس سؤالاً عديم الأهمية بالنسبة الى العالم العربي. فصحيح ان هذا العالم لم يعرف تجربة شيوعية مباشرة، لكن عدة أقطار عربية عرفت، من خلال المآلات الانقلابية والثورية، أنظمة سياسية واقتصادية استهلمت بقدر أو بآخر "انجازات" التجارب الشيوعية، لا سيما منها ما يتصل بالآحادية السياسية والاقتصاد المخطط والتأميم وعبادة القطاع العام. من هذه الزاوية تحديداً فإن سؤال "ما بعد الشيوعية" يبدو سؤالاً راهناً في أقطار شتى من العالم العربي. ذلك أنه في الوقت الذي أنجزت فيه جميع أقطار أوروبا الوسطى والشرقية عملية خروجها من الشيوعية، فإن أنظمة الاشتراكية العربية، التي هي اخوات غير شقيقة لأنظمة الشيوعية السوفياتية، لم تسجل - ربما باستثناء مصر - تقدماً ملموساً باتجاه الخروج نحو "ما بعد الاشتراكية". فالآحادية السياسية، السافرة أو المقنّعة، ما زالت تسد الطريق نحو الديموقراطية. والقطاع العام، المتضخم والمترهل معاً، ما زال موضع عبادة ايديولوجية. والدولة المبقرطة والكلية الحضور ما زالت تصادر المبادرة الخاصة وتشل ظهور الانسان الفرد والمواطن معاً. من هنا أهمية التجربة التاريخية لأقطار أوروبا الشرقية السبعة في الخروج. والمقصود هنا الأقطار التي استنسخت النظام السوفياتي: بلغاريا وهنغاريا وبولندا ورومانيا وتشيكيا وسلوفاكيا والمانياالشرقية. وأول ملاحظة تفرض نفسها هنا ان هذه الأقطار السبعة، التي أخذت طريقها الى الاشتراكية المسفيَتة نتيجة لاحتلالها المباشر من قبل الجيش الأحمر في أواخر الحرب العالمية الثانية، كانت أسرع الى الخروج من الأقطار التي لم تطأها أقدام الجيش الأحمر قط مثل ألبانيا وجمهوريات الاتحاد اليوغوسلافي السابق. فلكأن هذه البلدان كان أسهل عليها ان تلفظ الاشتراكية بوصفها جسماً غريباً وعضواً مزروعاً. وثانية الملاحظات انه لم يكن ثمة نموذج موحد ومتواقت للخروج. فلكأن هذه البلدان، التي لم يقيض لها أن تنهج طريقا قومياً الى الاشتراكية، قد أخذت بثأرها باختراعها طريقاً قومياً للخروج من الشيوعية وللدخول - أو لمعاودة الدخول بالأحرى - في الرأسمالية. نموذج هذه الدينامية الخاصة يقدمه مسار الانتقال الى الديموقراطية والتعددية السياسية. فقد تحكَّم بهذا المسار عاملان اثنان: وجود أو عدم وجود حركات معارضة سابقة، والوضع الداخلي للأحزاب الشيوعية الحاكمة. فوجود حركات معارضة سابقة ينم عن تقدم في انبناء المجتمع المدني، رغم ميل الأحزاب الشيوعية الحاكمة الى احتكار السلطة بدون أية مشاركة فعلية لأي طرف آخر منظم. والواقع أن حركات التمرد التي شهدها معظم أقطار أوروبا الشرقية بين 1948 و1989 ما جاءت تعبر عن درجة واحدة في نمو المجتمع المدني تجاه الدولة. فألمانيا الشرقية، مثلاً، لم تعرف وجوداً فعلياً لحركات معارضة إلا في عقد الثمانينات، وما كان التعداد الفعلي لأعضاء جماعات المعارضة الصغرى كلها يتعدى فيها العشرة آلاف أو الخمسة عشر ألفاً. فالنداء الديموقراطي كان يمارس سحره على الألمان الشرقيين، لا من الداخل، بل من قبل "الأشقاء" في المانيا الغربية. وفي تشيكوسلوفاكيا ايضاً كانت حركة المعارضة محصورة بصفوف النخبة المثقفة ميثاق 77 وما كان لها امتداد في الطبقة العاملة. وبولندا هي وحدها التي عرفت، منذ منتصف السبعينات، تطوراً ملموساً للمعارضة من خلال لجنة مساعدة العمال، ثم من خلال نقابة "التضامن" التي جسدت حركة اجتماعية واسعة ناهز تعداد أعضائها العشرة ملايين. ولهذا ايضاً انفردت بولندا بمعرفة عدة موجات من الاصلاحات الاقتصادية السابقة لسقوط الشيوعية، على حين ان تشيكوسلوفاكيا لم تشهد سوى محاولة فاشلة واحدة في أثناء ربيع براغ 1968. كما ان رومانيا، التي لم تعرف نمواً لأية حركة اجتماعية، لم تشهد أية محاولة للاصلاح الاقتصادي، وكان تقدمها نحو الديموقراطية متأخراً وشديد البطء والالتباس معاً. وذلك هو أيضاً وضع بلغاريا التي لم تعرف قبل 1989 أي نمو مستقل للحركة الاجتماعية. ويمثل التطور الداخلي للأحزاب الشيوعية العامل الثاني. وهنا لا بد من التمييز بين ثلاث حالات: فهناك أولاً حالة الأقطار التي لم تعرف وجوداً لأي تيار اصلاحي داخل الحزب الشيوعي، وهذا ما أدى، كما في مثال تشيكوسلوفاكيا، الى انهيار تام للحزب الحاكم في منعطف 1989. وهناك ثانياً حالة الأحزاب التي فرزت قبل 1989 تيارات اصلاحية من داخلها، وذلك هو مثال الحزبين البولندي والهنغاري. وهذا ما أدى في حالة هذين الحزبين الى "خروج" متفاوض عليه بين النخبة الحاكمة السابقة والمعارضة. وهناك أخيراً حالة الأحزاب "الاسمنتية" التي قابلت بالرفض القاطع سياسة غورباتشوف الاصلاحية والتي ظلت تتشبث بمواقعها في الحكم حتى اللحظة الأخيرة، فجاء "الخروج" في البلد المعني بقرار "من فوق" كما في مثال رومانياوبلغاريا، أو بالاستسلام وبالتسليم للجار الشقيق كما في مثال المانياالشرقية. ومن هذا المنظور يكتسب التفارق بين المثالين الروماني والبولندي دلالة خاصة. فتشاوشيسكو، الذي أدار ظهره بعناد لكل خروج متفاوض عليه، دفع حياته بالذات ثمناً لعناده. أما الجنرال جاروزلسكي، الذي لم يسطر صفحة أقل سواداً في قمع المعارضة البولندية، فقد عرف، في اللحظة الأخيرة، كيف يضمن لنفسه خروجاً سلمياً ومشرفاً من خلال قبوله بعملية تفاوض تمخضت عن توزيع السلطة بين الحزب الشيوعي الذي احتفظ ب65 في المئة من مقاعد مجلس النواب وبين أحزاب المعارضة التي حازت على 35 في المئة من المقاعد النيابية الباقية وعلى 100 في المئة من مقاعد مجلس الشيوخ. وقد بلغ التفارق بين "البلد الواقعي" و"البلد الشرعي" درجة دعت جاروزلسكي، الذي انتخب رئيساً للجمهورية فضلاً عن شغله منصب الأمين العام للحزب الشيوعي حزب العمال الموحد، الى استدعاء ممثلي نقابة التضامن لاستلام مقاليد السلطة عام 1989 ثم الى الاستقالة في العام التالي. هذه الدينامية الخاصة، غير المحكومة بنموذج مسبق، في الانتقال الى الديموقراطية والتعددية السياسية، تجلت ايضاً في الخيارات الاقتصادية التي سعت جميعها، وان بدرجات متفاوتة، منذ 1990، الى تحرير الاقتصادات القومية من عبء اللاعقلانية والى تطوير سلوكات فردية وجماعية مسؤولة من خلال نزع التأميم ونقل الملكية العامة الى فاعلين فرديين. ويمكن القول إن تشيكوسلوفاكيا أفلحت في اختراع نوع من طريق قومي الى الخصخصة عن طريق تحويل 92 في المئة من مجموع المواطنين التشيكيين والسلوفاكيين الى مساهمين بواسطة القسائم. ومن أصل 4400 مشروع تمت خصخصة 3400 مشروع. واحتفظ الصندوق القومي للملكية بنحو 20 في المئة من اجمالي قيمة المشاريع المخصخصة كضمانة لعدم تذرير المشاريع أو لعدم تصفيتها. وبالمقابل، فإن السلطات الاقتصادية في المانياالشرقية، التي استلهمت النموذج الألماني الغربي، لم تتردد في تصفية المشاريع الخاسرة 3700 مشروع من أصل 12300 مشروع منزوع التأميم، مجازفة بذلك برفع معدلات البطالة الى ضعف ما هي عليه في الجمهوريتين التشيكية والسلوفاكية. أما بولندا، التي تتميز بحضور قوي للنقابات العمالية، فقد أبدت حذراً أكبر في نزع التأميم، ولم تخصخص سوى 65 في المئة من جملة المشاريع البالغ تعدادها 5200 مشروع ضماناً لحد أدنى من العمالة والسلم الاجتماعي. بيد أن بولندا، الواثقة بنفسها بحكم تطور قوى المجتمع المدنى فيها، كانت أجرأ من سائر بلدان أوروبا الشرقية على الانفتاح على التوظيفات الأجنبية. فقد استقبلت بولندا حتى نهاية 1996 أكثر من 5435 مليون دولار من التوظيفات الأجنبية، ونظير هذا المبلغ في الأعوام الثلاثة الأخيرة. اما الأقطار المعانية من ضغط بيروقراطي فلم تستقبل سوى خُمس أو حتى عُشر ما استقبلته بولندا. فحتى 1996 لم تستقبل بلغارياورومانيا سوى 446 و1245 مليون دولار على التوالي. ولكن آمر العقلانية الاقتصادية، وبالتالي الانفتاح، قد أفلح في فرض نفسه في خاتمة المطاف: ففي 1997 وحده تلقت بلغارياورومانيا 489 و1215 مليون دولار على التوالي، وهما مبلغان يعادلان جملة ما تلقيتاه من التوظيفات الأجنبية من 1990 الى 1996.