بتوجيهات من قيادة الكومنترن في عشرينات القرن الماضي، انضم كثير من أعضاء الحزب الشيوعي التركي، حينذاك، إلى حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك مع قيام الجمهورية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. وكان في أصل هذا الزواج غير المتكافئ الاستراتيجية اللينينية الشهيرة: تحالف قوى الثورة على الصعيد العالمي الدولة السوفياتية + الطبقة العاملة في بلدان الغرب الإمبريالي + شعوب الشرق المستعمرة. ونظّر مفكرو الحزب الشيوعي السوفياتي حينذاك لما أسموه بالقوى"الديموقراطية الثورية"، وتم تصنيف أتاتورك وحزبه في هذه الخانة، ما تُرجم عملياً بالتحاق الحزب الشيوعي بالسلطة الدكتاتورية، وتبرير تصفية قادته وكوادره، وأشهرهم الشاعر ناظم حكمت الذي اتهمته الشيوعية الرسمية بالتروتسكية، الأمر الذي سوف يتكرر في معظم البلدان التي تحررت من الاستعمار الأوروبي. كانت النزعة الوطنية المعادية للامبريالية، إذن، عنصراً تكوينياً في"الشيوعية الشرقية"إذا جاز التعبير، تلك الشيوعية التي، للمفارقة، لم تنشأ بصورة مستقلة"وطنية"، بل بفعل فاعل هو الدولة السوفياتية بحزبها الحاكم واستخباراتها، الأمر الذي سيؤخذ عليها من قبل الحركات القومية، التي نشأت أيضاً بتشجيع من الغرب لتقويض الإمبراطورية العثمانية يتعلق الأمر بالحركات القومية العربية واليونانية والبلغارية وغيرها من شعوب البلقان. وفي أواخر الستينات ومعظم عقد السبعينات سيبرز في تركيا يسار أكثر راديكالية، في صدىً لليسار الجديد في الغرب، ويشكل قطب هيمنة مضادة في البيئة الثقافية ? السياسية، لهيمنة الدولة الرسمية. ومع محافظته على التقليد الوطني المعادي للإمبريالية، سوف يبتعد عن التيار القومي المحافظ والدولة معاً، ليدخل في اشتباك مسلح معهما، الأمر الذي سيهيئ الأرضية الملائمة للانقلاب العسكري في 12 أيلول سبتمبر 1980 بقيادة رئيس هيئة أركان الجيش التركي كنعان إيفرين. كان شعار الإنقلابيين هو"الإسلام في خطر"واستهدفوا أساساً القوى اليسارية بمختلف تلويناتها شيوعية سوفياتية، ماوية، تروتسكية، غيفارية.... يمكن القول إن هذا الانقلاب قضى على اليسار بصورة تامة تقريباً، وخلت الساحة لأحزاب رسمية تستظل جميعاً بإيديولوجيا تقديس الدولة والعقيدة الكمالية، باستثناء التيار الإسلامي الذي أسسه نجم الدين أربكان في أواخر الستينات، وأعاد إحياءه بعد الانقلاب العسكري، وظل في قيادته إلى 1997. بقايا اليسار الذي حاول أن يلملم شتاته ويضمد جراحه، في عقد التسعينات، سرعان ما انقسم إلى خطين عريضين، يطلق على أحدهما"اليسار الوطني ? القومي"وعلى الثاني"اليسار التحرري"أو الليبرالي. ويحافظ كل من اليسارين على عناصر تكوينية في الشيوعية التركية، مع دفعها إلى نهاياتها المنطقية. وإذا كان اليسار الوطني - القومي مخلصاً لنزعته الوطنية المعادية للإمبريالية، فاليسار التحرري أو الليبرالي ظل مخلصاً لنزوعه المعادي للاستبداد والمنحاز إلى الحرية. ويأخذ التيار الوطني في اليسار التركي على خصومه في التيار الليبرالي، ارتهانهم للغرب وقيمه"في حين يأخذ اليسار الليبرالي على خصومه التحاقهم بالنظام الاستبدادي وبالتيار القومي اليميني معاً. نلاحظ أن تحولات اليسار التركي هذه قد سارت، بكل تعرجاتها، بصورة متوازية مع التحولات الاقتصادية - الاجتماعية والسياسية، في تركيا والعالم. ففي المحطة الأولى كان اليسار التركي امتداداً محلياً لأحد قطبي الصراع العالمي الاتحاد السوفياتي وتلونت علاقته بالدولة التركية وفقاً لموقعها في الصراع المذكور، فمرة يلتحق بالحزب الحاكم، ومرات يصطدم مع النظام ويتعرض لاضطهاده. ومع تغير الإشكاليات على الصعيد العالمي، في أعقاب الحرب الباردة، سوف يتيتم اليسار التركي ويحافظ على عناصره الإيديولوجية القديمة، في شروط تغيرت كل التغير. وهذا هو المأخذ الأهم لأنصار اليسار الليبرالي على أشقائهم في التيار اليساري القومي: أنتم ترفعون الشعارات القديمة التي تعود إلى العشرينات والثلاثينات، في الشروط المتغيرة للألفية الجديدة! في حين يتهمهم اليسار الوطني القومي بالتخلي عن الماركسية والالتحاق بالليبرالية. الحق أن للمأخذين ما يبررهما: فمن جهة أولى بات اليسار الوطني - القومي"يمينياً"إذا جاز التعبير، بخدمته العملية لتيارات قومية يمينية، كان في السبعينات يخوض حرباً مسلحة ضدها. ومن جهة ثانية بات اليسار الليبرالي"يمينياً"أيضاً بمساندته الكاملة للبرنامج الليبرالي لحكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم ذي الخلفية الإسلامية، وكان معادياً في السبعينات لكل من الرأسمالية والتيار الإسلامي معاً. من حيث النفوذ يتفوق اليسار الوطني ? القومي في تشابكه العضوي مع الرأي العام السلطوي ? الشعبوي المتسم بنزعة منغلقة على الذات، معادية للغرب وقيمه، تسوده فكرة المؤامرة الكونية على تركيا لتقسيمها، وعداء صريح للتنوع الثقافي واليهود وإسرائيل. في حين يتفوق اليسار الليبرالي في الميدان الثقافي ويلعب دوراً متنامياً في صوغ الرأي العام في الطبقات الوسطى المتعلمة خاصةً. ويحتل أبرز مثقفيه مواقع هامة في الصحافة التركية، ويشار إليهم ب"تيار الجمهورية الثانية". يمثل التحول الديموقراطي وإنهاء دور العسكر في الحياة السياسية والانفتاح على العالم اقتصاداً وسياسة وثقافة والاعتراف بالتنوع الاثني والديني والمذهبي أولويات برنامجهم الفكري. وبرغم نفورهم الثقافي من الخلفية الإسلامية للحزب الحاكم، فقد أيدوا سياساته الاقتصادية اللبرلة واندفاعه نحو انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وانتقدوا تلكؤه في الإصلاحات السياسية. وبرغم نخبويتهم وعدم وجود حزب يضمهم، فهم يتمتعون بسمعة ثقافية طيبة وبحلفاء موضوعيين قطاعات من الرأسمالية المنفتحة على العالم، الأقليات القومية والدينية من أكراد وأرمن وأقليات مسيحية، في حين أن الكتلة الأكبر من الأقلية العلوية تحتمي باليسار القومي عموماً وبحزب الشعب الجمهوري خصوصاً الذي يقدم نفسه كقلعة للعلمانية، منطلقين من مخاوف أقلوية من الأغلبية السنية. التيار الوطني - القومي في اليسار التركي، يخاصم قبل كل شيء حزب العدالة والتنمية الحاكم، إيديولوجياً لأنه إسلامي، وسياسياً لأنه ليبرالي وموالي للولايات المتحدة والغرب معاً. ويتوزع إلى تشكيلات سياسية كثيرة مخلصة للتقليد اليساري في العمل"تحت الأرض"ويصدر مجلات حزبية أيديولوجية، يقتصر قراؤها على أعضاء المنظمة وأنصارها المقربين. بات هذا التيار، في سنوات الألفية الجديدة، مطابقاً في خطابه السياسي لخطاب حزب الشعب الجمهوري، من حيث التشديد على أولوية العلمانية، ومعارضة اللبرلة والانفتاح على العالم، والتحريض القومي ضد الأقليات ودعم المؤسسة العسكرية، والنفور من قيم الديموقراطية والتعددية والمجتمع المدني. من اللافت أن الحزب الماركسي الوحيد الذي يتمتع بالصفة الشرعية، في هذا التيار، ويشارك في الانتخابات النيابية والبلدية بانتظام، هو حزب العمال التركي T?P، يرأسه دوغو بيرنجك، وتم اعتقاله في شهر شباط الماضي، في إطار التحقيق القضائي حول شبكة أرغنكون الإرهابية، المتهمة بتهيئة الأرضية الملائمة لانقلاب عسكري يطيح بالحكومة المنتخبة. هذه لوحة اليسار التركي بمختلف تحولاته التاريخية، ونترك إجراء المقارنة مع اليسار العربي للقارئ. * كاتب سوري.