قبل عقد من السنين انهارت الأنظمة الشيوعية في أوروبا، الوسطى ألمانياالشرقيةوهنغارياوالشرقية بولندا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا والجنوبية يوغوسلافيا وبلغاريا. ولم يزل هدم جدار برلين، في التاسع من تشرين الثاني نوفمبر 1989، علماً على الحادثة التاريخية الكبيرة التي وضعها بعض المعاصرين بإزاء كبرى الثورات الفرنسية، قبل قرنين تامين، ونظيرها. وذكَّر بعضهم الآخر بوقوعها قرابة قرن ونصف القرن بعد "ربيع الشعوب" الأوروبية، في 1848. فاجتمعت القرائن، أو "القرانات" على قول الصوفيين المقلِّبين وجوههم في حركات الأفلاك، على إعلاء مكانة الحادثة السياسية والإجتماعية والعسكرية من التقويم الديموقراطي العام، أي الأوروبي والأميركي في المرتبة الأولى. فهي "تتمة" الثورة الفرنسية، الديموقراطية والشعبية، على زعم هؤلاء، وتتمة "تتمتها" في البلدان الأوروبية، الوسطى والشرقية، التي انتظرت نحو ستة عقود لتستأنف انتشار الديموقراطية في مجتمعاتها. وأدى حمل هذه الحوادث على حلقات السلسلة الواحدة والمتصلة إلى نظم التاريخ كله بخيط الديموقراطية، وعَوْدها، في آخر مطاف متعرّج، على بدءٍ ضيَّعته، لعلل مبهمة، ثم عادت الى منطقه وسويته. وعلى هذا فليست عودة أوروبا "الرهينة" على قول ميلان كونديرا إلى سوية التاريخ القويم ومنطقه، إلا الإيذان بانتهاج كل المجتمعات المنحرفة عن الطريق السوي، والضالة عنه، هذا الطريق عاجلاً أو آجلاً. ومهما كان من أمر "فلسفة" الحادثة التاريخية، ونسبتها إلى قبل وبعد، فالتأريخ القريب للحادثة لا يترك شكاً في اندراجها في سياق ارتفاع التهديد بالقوة الروسية والسوفياتية عن الدول الأوروبية السبع - إذا استثنيت يوغوسلافيا التيتوية، وهي بكرت في الإنشقاق والإستقلال، وتركت جمهوريات البلطيق الثلاث على حدة، وحالها على حدة فعلاً. وكان العام 1989 مليئاً بالفرص التي امتحنت نيات القيادة السوفياتية، ويختصرها ميخائيل غورباتشوف، وجربت سياستها وحقيقة هذه السياسة. ففي صيف 1989 دعا الزعيم الروماني نيقولاي تشاوتشيسكو القيادة السوفياتية إلى حماية النظام الشيوعي الروماني بالقوة العسكرية، فلم تستجب القيادة الدعوة الملحة. وفي الصيف نفسه، غداة انتخاب جنرال الأحكام العرفية في 1981، ياروزلسكي، إلى رئاسة الجمهورية، في تموز يوليو، عهد الرئيس الجديد إلى مستشار نقابات "التضامن"، الشرعية والقانونية منذ نيسان أبريل، برئاسة حكومة ائتلافية. وكان التكليف هذا فتحاً وسابقة، مهَّدت الطريق إليها مفاوضات طاولة مستديرة بين الحكم الشيوعي والمعارضة، النقابية والكاثوليكية و"المثقفة". وحذت هنغاريا حذو بولندا بعد ثلاثة أشهر. ولم تحرك القوات الروسية والسوفياتية، المنتشرة على طول الجبهة بين أوروبا الغربية وبين المعسكر السوفياتي، ساكناً. ولم تترك مقارنة السكون السوفياتي بالإقدام الصيني، في تموز من 1989، على قمع تظاهرات تيان آن مين الطالبية، شكاً في دلالة الإمساك السوفياتي عن القمع. فرسخ في الأذهان، أذهان المحكومين في الدول الشيوعية المتصدعة وأذهان المراقبين الغربيين، أن جلاء القوات السوفياتية عن أفغانستان، وهو أنجز في شباط فبراير 1989 كذلك، لم يكن وليد سياسة ظرفية وموقتة، بل توج رجوعاً حقيقياً عن "مذهب بريجينيف" الذي سوَّغ مرتين، في آب أوغسطس 1968 ثم في ربيع 1979، اجتياح قوات حلف وارسو السوفياتي تشيكوسلوفاكيا الأوروبية، وأفغانستان الآسيوية، باسم وحدة مصالح المعسكر الإشتراكي والدفاع عنها واستباق تهديدها. وفي ضوء الخطوات السياسية والعملية هذه ظهر جلياً ان التدخل العسكري، مباشراً كان أو مقنعاً بقناع قوات الأمن الوطنية أي الداخلية والمحلية، وقمع إجراءات الخروج من إطار "الإشتراكية الحقيقية"، وعليها، إنما معناه الوحيد هو العودة عن "الإصلاح"، واستئناف سياسات الحرب الباردة، المجرَّبة والمفضية الى كوارث لا تحصى. ولكن حمل التحرر من أبنية الشيوعية - وركنا هذه الأبنية الدولة - الحزب أو سطو جهاز حزبي على مقاليد السياسة والأمن والإقتصاد والإجتماع والثقافة، واستتباعه هيئات المجتمع كلها من غير رقيب ولا شريك، والتسليم للسياسة العسكرية والخارجية الروسية والسوفياتية - على ارتفاع التهديد الروسي بالقوة العسكرية وحده، يترتب عليه تعليل أبنية الشيوعية بالقوة العسكرية الروسية وحدها. ومثل هذا التعليل، على رغم استظهاره بدور الجيش الأحمر في فرض الشيوعية على البلدان الأوروبية التي احتلها غداة هزيمة الجيوش الألمانية النازية في أواخر الحرب الثانية، واحتجاجه بهذا الدور، هذا التعليل يقصِّر عن تفسير انتصار الأجهزة الحزبية الشيوعية حيث لم يؤد الجيش الأحمر دوراً في يوغوسلافيا وألبانيا واسيا وأميركا الوسطى، ناهيك عن تأخر إنشاء الجيش هذا عن انتصار الحزب الشيوعي في "وطن الإشتراكية" الروسي. ويقصِّر التعليل، من وجه آخر وأقرب، عن أداء السبب في ثورة المجتمعات المسفيتة على القوات السوفياتية وصنائعها الوطنيين، على رغم انتشارها الثقيل والمدجج في البلدان الأوروبية، المحررة ثم المحتلة. والثورة على الوصاية والرعاية الروسيتين والسوفياتيتين لم تهدأ طوال نصف القرن الذي دامته الوصاية والرعاية الثقيلتان. فانفجرت في 1953 برلينالشرقية و1956 بودابست الهنغارية ووارسو البولندية و1968 تشيكوسلوفاكيا و1980 بولندا، اضطرابات وتظاهرات قمعت بالقوة أو بإعلان أحكام عرفية مشددة. ولم يخف الجيش الأحمر، وهو الزاهي بالنصر على البربرية النازية بعد زهو الشعب الروسي بمقاومتها مقاومة عنيدة، ولا أخافت دباباته وصواريخه، الأهالي الألمان والبولنديين والهنغاريين والتشيكوسلوفاكيين المنتفضين والثائرين، وبعضهم شهود القوة والبلاء الروسيين في أثناء الحرب الثانية. والحق ان البلدان الأوروبية الشيوعية لم تخرج على الإستبداد الشيوعي على مثالٍ واحد. فاختلفت صور خروجها عليه على نحو ما اختلفت صور إدخالها فيه، ثم على نحو اختلاف صور تسليمها له ومقامتها إياه في آن. ولعل المقارنة بين الأوقات التي اقتضاها الخروج، وتباين هذه الأوقات تبايناً قوياً، قرينة على تباين عوامل الخروج. فشاع ببراغ، عاصمة تشيكوسلوفاكيا يومها، تأريخ الأوقات هذه على الشاكلة التالية: اقتضى إنجاز خروج بولندا من الشيوعية عشر سنين، واقتضت هنغاريا عشرة أشهر، وألمانياالشرقية عشرة أسابيع، وتشيكوسلوفاكيا عشرة أيام. ويدل التأريخ على تفاوت أعمق يتناول الوجوه التي توسلت بها القوات الروسية والسوفياتية المحتلة، والأحزاب الشيوعية الوطنية العميلة، إلى إرساء تسلطها على البلدان المستتبعة طوال نصف القرن من الإستتباع. ويتناول التفاوت كذلك مسالك مدافعة المجتمعات المسفيتة تسلط الدولة - الحزب، على الأنموذج السوفياتي، عليها. واختلاف وجوه التسلط ووجوه إرسائه على الأبنية السياسية والإجتماعية الداخلية، وتباين طرائق مدافعة التسلط ومقاومته، ينهضان دليلاً على أن الشيوعية السوفياتية لم تقتصر بأوروبا على احتلال عسكري سطحي أو ظاهر، أو هي لم تبق هذا الإحتلال. وهذا على خلاف إنجازها في أفغانستان، حيث اقتصر مفعولها على إضعاف الإئتلاف القومي الأقوامي الذي رست عليه "الدولة" الأفغانية وعمودها البشتوني. فسعت الشيوعية الروسية، بأوروبا، في سوس البلدان التي جمعها تحريرها من النازية الى احتلالها وضمها إلى معسكرها، بسياسات تربط الموازين السياسية والإجتماعية الطبقية بالعلاقات بين القوميات ومنازعاتها التاريخية، ربطاً محكماً. ولما كانت العلاقات بين القوميات والديانات في الدولة الوطنية الواحدة، وفي بيئة إقليمية مختلطة الأقوام ومجتمعة من امبراطوريات مركبة لم تندثر قبل الحرب العالمية الأولى، لما كانت وجهاً من بنية الدول الوطنية وعاملاً راجحاً في توازن البنية الداخلي أو اضطرابها، قدرت السياسة الروسية السوفياتية بأوروبا المحتلة على دمج بعض عوامل البنية الداخلية في "منظومة" العلاقات الإقليمية وإلحاقها بالمركز. وعلى هذا سلخت السياسة الستالينية، غداة الحرب، أراضي بولندية وسلوفاكية أوكرانيا الكارباتية، وهي يومها تشيكوسلوفاكية، من الدولتين، وضمتها إلى الإتحاد السوفياتي، وهو اتحاد الجمهوريات السوفياتية الإشتراكية "أربع أكاذيب في أربعة حروف" على قول كاستورياديس، اليوناني الفرنسي. ولكنها، نظير ذلك، سلخت من ألمانيا المغلوبة والملحقة، أي من الأمة الألمانية التاريخية، أراضي أخرى سيليزيا والسوديت ضمتها إلى الدولتين "الإشتراكيتين". وسلخت من ألمانيا كذلك بروسيا الشرقية، وضمتها الى الدولة السوفياتية. فدقت إسفيناً حاداً بين ألمانيا، من وجه، وبين بولندا وتشيكوسلوفاكيا، من وجه آخر. وناطت، أو حسبت أن فعلها هذا ينيط وحدة الدولتين الإقليمية، ومحافظة الدولتين على وحدة أراضيهما، برعاية عسكرية، روسية وسوفياتية، أوكلت سياسة موسكو الشيوعية إليها "حماية" الشعوب والدول الواقعة إلى الشرق من ألمانيا من "الثأر" الألماني، ومن توحيد ألمانيا على أنقاض شرق أوروبا. وسوغ افتعالُ هذه الحال التحجير على تقسيم أوروبا، ونصب الإتحاد السوفياتي، وقواته العسكرية، قوّاماً على هذا التقسيم، وعلى إرث مؤتمر فرساي المدمر - والحرب الثانية بعض هذا الإرث. ولم تعدم هذه السياسة الحاذقة أثرها في 1989. فعلى رغم سبق بولندا على طريق المعارضة الإجتماعية والسياسية الداخلية، ومناهضة المعارضة البولندية، العمالية "والمثقفة"، الدولة - الحزب، خشي البولنديون ترك حلف وارسو، وأسر معاهدته، إلى الإستقلال والسيادة. فهذان يترتب عليهما، على ما حسب البولنديون وعلى ما أرادت السياسة السوفياتية، جبه بولندا "الضئيلة" القوة الألمانية المتجددة والمتعاظمة بمفردها. وكان على ألمانيا إبرام نزولها عن 16 في المئة من أراضيها التاريخية، أراضي الرايخ الثاني، البسماركي، لقاء اطمئنان دول أوروبا الشيوعية إلى النظام الإقليمي الجديد، والتزامه المعايير الأوروبية المشتركة في حلّ المنازعات. ولم تقتصر هذه الحال على الدولتين هاتين. فالدولة التشيكوسلوفاكية نشأت عن ائتلاف قومين متباينين تاريخاً واجتماعاً وثقافة: فالتشيخيون البوهيميون أقرب إلى أوروبا الغربية من السلوفاكيين، وتتصدر مجتمعهم الطبقات الوسطى، الإدارية والفكرية، والطبقة العاملة الصناعية، على حين تعود صدارة المجتمع السلوفاكي إلى المزارعين والفلاحين. وبينما تكاد تشيخيا تخلو من القلات الأقليات القومية، إذا استثني بعض البولنديين في ضواحي أوسترافا، الى الجنوب الشرقي من بوهيميا، يكثر الهنغاريون على طول الحدود الجنوبية مع هنغاريا، وتقيم قلة أوكرانية متصلة السكن على طول الحدود الشرقية بين هنغارياوأوكرانيا. فعمد الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، في بلد ومجتمع على هذا القدر من التعقيد، إلى تسليط قيادة حزبية، من منبت سلوفاكي أو من منبت تشيخي شديد التواضع، في الأغلب، على تشيكوسلوفاكيا. وأدى هذا إلى وسم حركات الإصلاح، التشيخية المصدر، بالتعالي القومي، والطبقي العمالي، وبالكوسموبوليتية النازعة منزعاً غربياً، أي ألمانياً في هذه البقعة من أوروبا والعالم. وأوكل قمع حركات الإصلاح إلى جهاز حزبي يغلب عليه السلوفاكيون "الفلاحون". فلما أعادت قوات حلف وارسو السياسة والدولة إلى سويتهما، الشيوعية، لم يلق صرف المثقفين إلى غسل الزجاج والتعشيب إنكاراً. وأدى هذا، من وجه آخر، الى تحجر العلاقات الإجتماعية والسياسية على المنازعات بين الأقوام، من وجه، وبين الفئات الإجتماعية الغالبة داخل الأقوام، من وجه آخر. فكانت تشيكوسلوفاكيا، عشية تصدع جدار برلين، بلداً متآكلاً، مجتمعاً وثقافة واقتصاداً هجرته نخبه المدينية والمثقفة، غداة غزو 1968، إلى النمساوألمانيا، وتركته شلواً بأيدي قيادة حزبية بائسة، وداخل حلف عسكري إقليمي يرعى "تعايش" أقوامه. وفي كل البلدان الأوروبية المسفيتة أفضى "نظام" الدولة - الحزب الى تغليب العَيْلة الإعالة مثالاً للتكسب والتعيش. وكان شعار العاملين يذهب الى أنهم، و"هم" هم قيادة الحزب والدولة، ما داموا يسددون أجوراً صورية وشكلية فما عليهم إلا تقاضي عملٍ صوري يحاكي العمل الحقيقي. فلما اضطرت القيادة الروسية السوفياتية الى الرضا برشوة الحركات الإجتماعية والسياسية في بلدان معسكرها المغلق، بواسطة "الإنفتاح" على الغرب، ومن طريق قروض غربية، وخصوصاً ألمانية، تحول الإصلاح في بولندا وهنغارياوألمانياالشرقية، ومعه رأسمالية السوق "الإنسانية" المزعومة، إلى ركام من الديون الخارجية المتعاظمة. وعندما عزم تشاوتشيسكو، الروماني، على سداد ديونه الخارجية كلها، صرف الإنتاج الداخلي، الزراعي والصناعي، إلى التصدير. فسدد دينه وأجاع الرومانيين، وجهَّلهم، وجعلهم نهباً للأمراض. وهذا كله كان مثار إعجاب عارم في جهات الأرض الأربع، ولا سيما في "جنوبها" وبلدانها "النامية". فدمج المسألة القومية، على حسب رطانة "ماركسية" رائجة، في المسألة الإجتماعية، وترجمة المسألتين إلى عقيدة جغرافية سياسية، وجغرافية استراتيجية وأمنية، هذا الدمج إنجاز سياسي عظيم. فإذا نجم عنه انهيار الدول التي أُعمل فيها هذا الدمج، وتصدعت مجتمعاتها وتآكلت، حسب السلطان المركزي، الأمبراطوري، أن الإنهيار والتصدع والتآكل مربح خالص له. فهو لم يكن وحده مطمئناً إلى دوام سلطانه، وإلى كونه خاتم التاريخ وتاجه وتمامه، بل شاركه سياسيون ومثقفون لا يحصون، من خصومه، يقينه واطمئنانه. فلما سقط السلطان الشيوعي خسر المؤمنون لاهوتهم التاريخي. وكان الفيلسوف الروسي الفرنسي ألكسندر كوجيف، "شارح" هيغل و"شيخ" فرنسيس فوكوياما صاحب "تمام التاريخ" وليس "نهايته"، على ما يقال، ذهب الى ان الشيوعية الستالينية هي تمام التاريخ. وزاد، على قول مريد له درس عليه هو إدمون أورتيغ، على تمام التاريخ: اللاهوتي. وهو يريد، بحسب أورتيغ، أن ما يلي هذا التمام هو تاريخ البشرية الإنسي، أو تاريخها الصادر عنها، وعن تاريخيتها الخالصة والمحض. فليس بعد طي صفحة التمام وخطابته وشعره ويوم أحده إلا نثر أيام الأسبوع، و"أرضية الجمعة"، على قول عاميتنا. * كاتب لبناني.