افتتح في العشرين من شباط فبراير الماضي"معرض الاختبار النووي الجديد في مدينة لاس فيغاس الأميركية، ويعنى المعرض بمئات التجارب النووية في ولاية نيفادا منذ بداية الخمسينات، اضافة الى الهجومين النوويين على هيروشيما وناغازاكي في السادس والتاسع من آب اغسطس 1945. وعلى رغم التغطية الصحافية الواسعة للمعرض بقي امر الضحايا اليابانيين لهجومي آب الشهيرين طي الكتمان. ففي مقال نشرته"نيويورك تايمز"بقلم جوديث ميلر، لم تأت الصحافية على أي ذكر لهيروشيما او ناغازاكي. وفي الأمر بعض الغرابة لأي مراقب حيادي كون الوقائع التاريخية تتحدث من دون مواربة عن 200 ألف ضحية من المدنيين في المدينتين. كذلك لم تذكر الصحف الأميركية الأخرى التي غطت خبر المتحف النووي الجديد موضوع الضحايا اليابانيين. مشكلة الإعلام وعلاقته بالحقيقة ليست محصورة بالمجتمع الأميركي وهي ملازمة للمجتمعات البشرية كافة، بمعنى ان ما يتم الإعلان عنه في العلاقات الإنسانية، حتى بين شخصين، لا يكون ابداً نقلاً كاملاً للوقائع المادية، بل نقلاً جزئياً يبرز قسماً من الحقائق على خلفية حقائق اخرى تبقى طي الكتمان. لكن الحرب من حيث كونها الشكل الأقصى لعدم الرغبة في الاستماع الى الآخر وصولاً الى القضاء عليه جسدياً، تندفع ابعد من النقل الجزئي للوقائع الى تزويرها كلياً وجعل الكذب أو التحريف امراً ملازماً لها. ولكن ماذا يحصل بعد ان تضع الحرب اوزارها وتبدأ ذاكرة المجتمعات المتصارعة بالتشكل سواء عبر الكتابة التاريخية او الكتب المدرسية او المعارض، ما يسمى بالذاكرة الجماعية للأمم؟ في العصر الحديث حيث تتحكم الدولة القومية في بنية المجتمعات البشرية لا تتشكل الذاكرة التاريخية للمجتمع على ارضية محايدة او موضوعية. غالباً ما يقال ان التاريخ يكتبه المنتصرون وهذا صحيح، لكن الانتصار العسكري لا يكفي لوصول الحقيقة الى جمهور المعنيين بها. لقد حقق الفلاحون الفيتناميون انتصاراً اسطورياً بأسلحتهم الفردية والمضادة للطائرات وتضحياتهم بلا حدود على اقوى سلاح جوي وأرضي في العالم، القوات المسلحة للدولة الأقوى تكنولوجياً واقتصادياً على سطح كوكبنا. وليس ثمة نقص في المعلومات المتوافرة حول حرب فيتنام ومعاناتها الرهيبة. من الثلاثة ملايين ضحية من شعب فييتنام، الى حجز ثمانية ملايين فلاح في اكثر من ستة آلاف معسكر اعتقال، الى التدمير الواسع للغابات بمادة الديوكسين السامة، الى اكثر من 58 ألف قتيل من الجنود الأميركيين، الى كمية المواد المتفجرة التي ألقتها الولاياتالمتحدة على فيتنام التي تفوق كمية المواد التي ألقتها على كل الجبهات في الحرب العالمية الثانية. انتهت هذه المأساة الرهيبة قبل 30 عاماً، في عام 1975، وقد يتوقع احدهم انه مع مرور الزمن تتضح الأمور للجمهور الأميركي حول طبيعة هذه الحرب ونتائجها المدمرة. لكن احصائية جرت في 1985 أي بعد مرور عشر سنوات من انتهاء الحرب، اظهرت ان ثلث الأميركيين لا يذكرون شيئاً من الحقائق الآنفة الذكر، ان معظمهم ينظر الى الحرب كصراع بين جناحين"جيد"و"شرير"من الفيتناميين، وأن الولاياتالمتحدة انجرت الى الحرب لتأييد القوى الديموقراطية ضد التهديد الشيوعي، أي كعنصر خارجي على صراع داخلي. اما الفشل الذريع للسياسة الأميركية في فيتنام وأسباب هذا الفشل، من تنصيبهم حكومة من العسكريين الفاسدين في الجنوب الى تدمير حياة المزارعين الفيتناميين بعزلهم عن قراهم وراء الأسلاك الشائكة في المعسكرات والمدن الخاوية إلا من البطالة. هذه السياسة التي اودت بحياة الملايين تحت ذريعة محاربة "الإرهابيين" - الذريعة نفسها المستخدمة الآن في العراق - لا تجد طريقها الى ملكات الفهم والإدراك لدى جمهور الأميركيين. اضف 9 سنوات اخرى على الإحصائية السابقة، أي عام 2004، بعد مرور 29 سنة على نهاية حرب فييتنام وفي سنة الانتخابات الأميركية الحاسمة التي أعادت جورج بوش الى البيت الأبيض فترة رئاسية ثانية. في خضم الحملة الانتخابية ظهرت"جماعة محاربي فييتنام القدامى المدافعين عن الحقيقة"وسعت جاهدة لتشويه السجل العسكري لجون كيري منافس بوش من الحزب الديموقراطي. قامت هذه الجماعة بحملة دعائية تلفزيونية تتهم فيها كيري بتضخيم انجازاته في دلتا الميكونغ عندما انقذ المجموعة التي كان يقودها وأصيب، ولاحقاً حصل على"وسام القلب القرمزي"تقديراً لشجاعته. كل هذه الحقائق لا غبار عليها وهي في سجل خدمته في وزارة الدفاع، لكن، بقدرة قادر، اصبحت موضع شك بين ليلة وضحاها من قبل مجموعة المحاربين القدامى الآنفة الذكر. وبدأت سيول الاتهامات والاتهامات المضادة بين مؤيدي كيري وهذه الجماعة تنجلي عن الأسباب الدفينة وراء الحملة عليه. فعند نهاية خدمته العسكرية وعودته الى الولاياتالمتحدة انضم كيري الى حركة المجندين المناهضين لحرب فييتنام وشهد امام الكونغرس حول جرائم الحرب الأميركية مستعملاً عبارات"مناطق اطلاق نار عشوائي"،"حرق قرى بأكملها"،"قطع آذان الفيتكونغ"،"مجازر على نمط جنكيز خان"، الخ... عادت عام 2004 هذه التصريحات من ماضي كيري لا كعنصر نقاش حول صدقيته وصحتها، وهو امر موثق في مئات المصادر والشهادات الأخرى عن جرائم الحرب، بل كعنصر تشكيك في وطنيته والتزامه الدفاع عن الولاياتالمتحدة. وكان الإعلاميون"القومجيون"بالمرصاد في حمى الحرب على العراق، ودفع المرشح الديموقراطي ثمن حقيقة قالها قبل اكثر من 30 عاماً. نعود الى معرض الاختبار النووي في لاس فيغاس عام 2005 حيث تقول اللوحة المرفقة بتفجيرات هيروشيما وناغازاكي:"كان الاعتقاد سائداً بأن غزو البر الياباني سيلحق بالجيش الأميركي خسائر تناهز المليون جندي. عندها اتخاذ القادة قرار استعمال القنبلة النووية بوصفها اقل دموية ومن دون إنذار، وألقيت قنبلتان على مرافق صناعية وعسكرية في اوائل آب 1945. استسلمت اليابان بعدها بفترة قصيرة منهية بذلك الحرب العالمية الثانية". انه التعتيم ذاته على فظاعة الحروب وشناعتها، خصوصاً ما يتعلق بالضحايا المدنيين حيث لم تكن مرافق عسكرية تذكر في المدينتين اليابانيتين بل كان الهدف إلحاق اكبر الخسائر بالمدنيين اليابانيين لإقناع قيادتهم بعدم جدوى المقاومة امام سلاح كهذا. حقاً ان التاريخ يكتبه المنتصرون خصوصاً في الأزمة الحديثة، حيث تهيمن آفة النزاعات القومية والولاء المطلق للوطن على ساحة الصراعات الدولية جاعلة من اجساد الأفراد قرابين على مذبح طاغوت الانتماء القومي. * كاتب لبناني.