يذكر العام الحالي 2003 بمرور أربع محطات كبيرة في تاريخ اليابان الحديث والمعاصر منذ بداية الانفتاح على العالم الخارجي عام 1853 حتى الآن. الأولى: مرور 150 عاماً على الإنذار الذي وجهه الكومندور بيري إلى اليابان عام 1853 لفتح موانئها أمام التجارة الدولية. ففتحت عنوة، ووقعت اليابان عدداً من الاتفاقيات المذلة خلال سنوات 1854 - 1858. وخلال ربع قرن فقط على بدء إصلاحات مايجي عام 1868 تحول الجيش الياباني إلى أقوى جيش وطني في منطقة جنوب آسيا وشرقها. فأنزل هزيمة عسكرية قاسية بالجيش الصيني عام 1894، وهزيمة مدمرة بالجيش الروسي عام 1904 - 1905. وتحولت اليابان بسرعة مذهلة إلى واحدة من الدول الخمس الكبرى الإمبريالية التي تحكم العالم عند مطلع القرن العشرين. لقد أصبحت اليابان دولة قوية لا تخاف من الاحتلال الغربي، بل جعلت الدول الغربية تخاف على مصالحها الكثيرة في جنوب آسيا وشرقها. وكان للانتصارات الخاطفة التي حققها الجيش الياباني أثر مباشر في تخلص اليابان من الاتفاقيات السياسية والتجارية المجحفة والمذلة التي اضطرت إلى توقيعها بعد إنذار بيري. وبعد أن سحق اليابانيون الجيش الروسي فرضوا سيطرتهم على كامل شبه الجزيرة الكورية وعلى منشوريا الصينية. وفي الحرب العالمية الأولى انحازت اليابان إلى جانب دول المحور وفرضت سيطرتها على أجزاء واسعة من الصين. وفي حين خرجت ألمانيا وحلفاؤها مهزومين في الحرب العالمية الأولى، خرجت اليابان منتصرة، واحتلت مقعداً بارزاً على طاولة المفاوضات في مؤتمر فرساي قرب باريس عام 1919. لقد نجحت السلطة السياسية اليابانية بقيادة الإمبراطور في الدمج ما بين النزعة العسكرية التي عبر عنها قادة الجيش من طريق فرض هيبة اليابان على الدول الآسيوية المجاورة، والنزعة الإمبريالية التي عبر عنها قادة الاحتكارات المالية والاقتصادية لإيجاد مجال حيوي، وموارد طبيعية، وسوق إضافية للرساميل اليابانية. فجمع الإمبراطور وقادة الاحتكارات المالية والاقتصادية الزيباتسو ثروات طائلة، وأصبحت اليابان دولة احتكارية عالمية. وبعد دمج هاتين النزعتين على قاعدة "التحديث في خدمة الجيش"، شهد المجتمع الياباني أسوأ فترات التصفية الدموية للقوى الديموقراطية، وتعطيل الحكم الدستوري داخل اليابان، وتعميم القمع والنهب الإمبريالي على شعوب المستعمرات. الثانية: يصادف العام الحالي 2003 مرور 58 عاماً على هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية واستسلامها في 15 آب أغسطس 1945 بعد إلقاء الأميركيين قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي. فإبان فترة ما بين الحربين العالميتين، أسست الاحتكارات اليابانية لنهضة صناعية مزدهرة وتراكم مالي كبير شكلا قاعدة صلبة لنزعة عسكرية توسعية. فتحول اليابان ما بين 1931 - 1941 إلى دولة إمبريالية حقيقية سيطرت على قرابة سبعة أضعاف مساحتها الجغرافية وثمانية أضعاف عدد السكان فيها. وهي التي بادرت إلى الهجوم على الأميركيين في بيرل هاربر عام 1941 لتصفية الوجود الأجنبي نهائياً في منطقة جنوب آسيا وشرقها وتحويلها إلى بحيرة للنفوذ الياباني. وبعد أن أنزلت هزيمة قاسية بالأسطول الأميركي هناك، دخل الأميركيون الحرب العالمية الثانية بقوة دفاعاً عن مصالحهم الإستراتيجية الكبيرة في منطقة جنوب آسيا وشرقها. فكانت هزيمة اليابان عام 1945 تحولاً بارزاً في تاريخ النزعة العسكرية والإمبريالية اليابانية. وكانت هيروشيما بمثابة الثمرة المرة للعسكريتاريا اليابانية. لا تزال مأساة القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي حية في وجدان كل ياباني، وهي تهز ضمائر الأحرار في العالم كله. فحول اليابانيون هيروشيما إلى متحف على الطبيعة لإدانة الجريمة الأميركية ضد الإنسانية. لكنهم رفضوا استخدام الإدانة اللفظية المباشرة لمرتكبيها من الأميركيين لئلا يضطروا إلى إدانة العسكريتاريا اليابانية التي احتلت أجزاء واسعة من الصينواليابان وأودت بحياة الملايين من شعبيهما. وهناك مؤرخون يابانيون يحمِّلون العسكريتاريا اليابانية مسؤولية مباشرة عن مأساة هيروشيما بسبب الهجوم الغادر على القاعدة الأميركية في بيرل هاربر عام 1941، والذي أودى بحياة آلاف الجنود الأميركيين مع تدمير شبه تام للأسطول الأميركي هناك. يوم 15 آب من كل عام، يحضر إلى هيروشيما رئيس وزراء اليابان من أجل الاحتفال بذكرى القنبلة الذرية في الساحة التي تضم المبنى أو الشاهد الحي على الجريمة تحيط به أسراب الحمام. وفي الموعد المحدد لهذا العام 2003، حضر رئيس وزراء اليابان جونيتشيرو كوئيزومي ليعرب عن أسف بلاده لما قام به الجيش الياباني من أعمال عدوانية ضد دول الجوار التي احتلتها ما بين 1931 و1945، وفي شكل خاص الصين وكوريا. فقد تسبب الاحتلال الياباني بوفاة ما يزيد على ثلاثين مليون صيني وكوري إبان تلك المرحلة. لذلك قررت الصين أخيراً إقامة نصب تذكارية تخليداً لضحايا الاحتلال الياباني للصين. وبعد الاعتذار العلني عن المأساة التي تسببت بها النزعة العسكرية اليابانية لدول الجوار وللشعب الياباني معاً، أعلن كوئيزومي عزم بلاده على الانخراط الثابت والدائم في تحقيق السلام العالمي. وقال في الحفل التذكاري الذي أقيم بمناسبة الذكرى 58 لانتهاء الحرب العالمية الثانية: "ستشارك اليابان بفاعلية في المجتمع الدولي من أجل أن ينعم العالم بسلام دائم. لن نشن حرباً جديدة بعد الآن. فقد تعلمنا درساً بليغاً من ماضي اليابان العسكري". تجدر الإشارة إلى أن اليابان اليوم لا تمتلك جيشاً تمكن مقارنته بما يعرف في الدول الأخرى بالمؤسسة العسكرية. لديها فقط مجموعة من القوات الخاصة تعرف بإسم قوات الدفاع الخاصة لحماية اليابان أو الأمن القومي الياباني. ويرفض اليابانيون في شدة تجدد النزعة العسكرية في بلادهم لئلا تسوء علاقاتهم مجدداً مع دول الجوار الآسيوي، وتتكرر مأساة هيروشيما وناغازاكي. ولا تزال اليابان تعاني الاحتلال الأميركي غير المباشر حيث يرابط أكثر من أربعين ألف جندي أميركي على أراضيها وفي مياهها الإقليمية. وتشير النصب التذكارية في هيروشيما إلى أن الدولة اليابانية ستعمل من أجل السلام العالمي، وأن اليابان لن تدخل مجدداً حلبة النزاعات العسكرية ولا ترغب في امتلاك أسلحة دمار شامل على رغم قدراتها العلمية على إنتاج قنبلة ذرية في فترة زمنية لا تتجاوز الأسبوعين. الثالثة: مرور عشر سنوات على الأزمة الاقتصادية في اليابان منذ عام 1993 والتي تزامنت مع عدم استقرار سياسي من جهة، ونمو ضعيف للغاية كان يقترب سنوياً من 5.0 في المئة سنوياً مع تزايد حاد في نسبة البطالة قاربت 6 في المئة عام 2003، وهي أعلى نسبة بطالة عرفتها اليابان منذ تجدد نهضتها في النصف الثاني من القرن العشرين. لا تراهن اليابان على المشاركة في الحروب بل في إعمار المناطق التي دمرتها الحروب والزلازل والفيضانات، بخاصة في أفغانستانوالعراق. فهي تمتلك كتلة مالية كبيرة قابلة للتوظيف الطويل الأمد، ولديها تكنولوجيا متطورة وجهاز إداري يتمتع بكفاية عالية جداً في إدارة مشاريع التنمية والإعمار. الرابعة: بروز اتجاهات جديدة في السياسة اليابانية عام 2003 تجلت بعزم اليابان على إرسال قوات من فرق الدفاع اليابانية إلى العراق. وأكدت وكالة أنباء "كيودو" اليابانية في تاريخ 16 آب 2003 أن خطاب رئيس الوزراء كوئيزومي بمناسبة الذكرى 58 لاستسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية يشدد على رغبة حكومته بتنفيذ قرار جديد تم التصويت عليه في البرلمان الياباني وأحدث مشادّة كبيرة بين أعضائه بلغت حد التضارب بالأيادي. وقد نص القرار على تفويض الحكومة اليابانية إرسال "قوات من الدفاع الذاتي اليابانية" إلى العراق تنفيذاً لقانون جديد يسمح بإرسال قوات يابانية إلى الخارج، في إطار الأممالمتحدة، أو بطلب من الحكومة الأميركية الصديقة. ختاماً، تتخوف القوى الديموقراطية اليابانية من أن التطابق شبه التام بين الإدارتين الأميركية واليابانية يمكن أن ينعكس سلباً على اليابان. فقد حزمت إدارة بوش أمرها، وهي تخوض حروباً متواصلة لفرض العصر الأميركي بالقوة. ورحبت حكومة كوئيزومي بهذا المنحى وأيدت الحرب الأميركية على العراق من دون حاجة إلى قرار من مجلس الأمن، لأنها اعتبرت القرر 1483 كافياً لإعلان تلك الحرب. فهي تعيش هاجس السلاح النووي في كوريا الشمالية والموجه مباشرة إلى اليابان. وهي مستعدة للتعاون الوثيق جداً مع الأميركيين على أمل التخلص من السلاح الكوري، سلماً أو حرباً، لكي تضمن لشعبها حياة طبيعية لا تتهددها مأساة شبيهة بمأساة هيروشيما وناغازاكي. * كاتب لبناني.