يتساءل الفيلسوف الفرنسي البلغاري الأصل، تزفيتان تودوروف، في مراجعاته للقرن العشرين: هل تمثل الديموقراطية الجانب الآخر المشرق في القرن العشرين؟ لقد كانت نهاية الشمولية في الحرب العالمية الثانية بالقنابل النووية التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي في اليابان عام 1945، وهكذا فقد انتصرت الديموقراطية على الشمولية بالتدمير والفظاعة نفسها التي ارتكبتها الشمولية، فإذا كانت الشمولية ممثلة بالشيوعية، والنازية قد أسست نظام الرعب وجعلته المسيطر في البلاد، فقد استكملت الدولة الديموقراطية وبالذات الولاياتالمتحدة الأميركية تصنيع السلاح المطلق، وقررت استخدامه على الفور. هل كان استسلام اليابان غير المشروط في الحرب العالمية الثانية ضرورياً؟ وإذا كان ضرورياً فهل كان إسقاط القنابل الذرية على المدن اليابانية هو الوسيلة الوحيدة للحصول عليه؟ لقد كانت اليابان مقدمة على الاستسلام قبل إلقاء القنبلة عندما قرر الاتحاد السوفياتي رسمياً المشاركة في الحرب إلى جانب الحلفاء، فقد كان الموقف الياباني حرجاً ويدعو إلى اليأس، ولكن الأركان العامة الأميركية صممت على إلقاء القنابل الذرية على المدن اليابانية، ليتبين في ما بعد أن الدافع كان حرص الأميركيين على كسب المعركة بفضل تدخلهم هم وليس بسبب تدخل الاتحاد السوفياتي. وكان يمكن الحصول على الاستسلام الياباني غير المشروط بإجراء تفجير تجريبي للقنبلة الذرية في مكان بعيد من الأهداف المدنية المأهولة بالسكان، وكان سيشهد هذا التفجير العلماء والعسكريون اليابان، وكان البرهان سيأتي مقنعاً، وإذا كان تدمير هيروشيما ضرورياً، فلماذا تُدمر أيضاً ناغازاكي بعد ثلاثة أيام، فقد أثبتت القنبلة نجاحها في هيروشيما. الواقع أن المؤرخين شغلوا كثيراً بهذه الأسئلة وقدموا إجابات عدة، فقد لاحت أشكال الصراع بين الدول المنتصرة في الأفق وقبل الانتصار الساحق على ألمانيا، ولذلك فقد كان القرار لا يخص اليابان، وإنما لترويع «العم جو»، أي ستالين، من طريق أدلة تشير إلى مكامن القوة الحقيقية، وطبعاً فقد كانت النتيجة أن ستالين ارتعب بالفعل، وقرر تزويد بلاده بالسلاح النووي، وقرر أيضاً ألا يجتاح أوروبا، وهكذا فقد سدد سكان مدينتي هيروشيما وناغازاكي الحساب بالنيابة عن سكان لندن وباريس، وربما نيويورك. وربما كانت القنابل الذرية لرد الإهانة التي لحقت بالأميركيين بسبب حادثة بيرل هاربر، ولكن ذلك الطفل في عمر الزهور في هيروشيما وجدّته لم يدركا السبب الذي فرض عليهما تسديد حساب مرفأ بيرل هاربر. ويكمن التفسير الثالث للقصف الذري في التمييز العنصري المناهض لليابان، والذي كان سائداً آنذاك في الولاياتالمتحدة الأميركية، إن أنسب تعبير يمكن استخدامه في هذه الحالة هو جريمة حرب. إن الديموقراطية لا تشبه الشمولية من ناحية الآثار التي تخلفها، ومع ذلك لم تتمكن أشلاء الأطفال الذين وقعوا ضحية المجازر من التمييز بين القنابل الشاملة والقنابل الإنسانية الذرية أو التقليدية التي كان من المفروض أن تنقذ حياة الكثيرين، وتساعد على نشر العدالة والأخلاق. أما على صعيد العلاقات الدولية، فالاختلافات بين الديموقراطية والشمولية لا يظهر أثرها الواضح إلا في الشؤون الداخلية للبلاد، فإرادة الهيمنة موجودة في كلا النظامين، ونتعلم من هذا كما هو حقيقة ومن دون أي لمسة أن العلاقات بين الدول لا يمكن أن تتغاضى عن صلة القوة، وفي كل الأحوال لسنا مضطرين لقبول التحريف في حقيقة هذه العلاقات القائمة على توزيع الغنائم الذي ينم عن نفوس سامية، كما في الزمن الغابر، أو قبول الزج بين الدفاع عن المصالح الوطنية التي هي غاية شرعية لأي حكومة، وبين المعارك التي تهدف إلى إحلال العدالة للاختيار بين قوتين، فعلينا الوقوف إلى جانب القوة التي تكشف عن هويتها، ورفض تلك التي تتخذ من الفضيلة قناعاً تختبئ وراءه. فإذا كانت الشمولية ممثلة في الشيوعية والنازية قد أسست نظام الرعب وجعلته المسيطر في البلاد، فقد استكملت الدولة الديموقراطية، وبالذات الولاياتالمتحدة الأميركية تصنيع السلاح المطلق، وقررت استخدامه على الفور. فكانت الشمولية تعدم أعداءها وترهبهم بالوسائل البدائية والتقليدية كالإعدام رمياً بالرصاص أو خنقاً بالغاز والقتل جوعاً. أما طريقة الإعدام في الدولة الديموقراطية فقد استنفرت جهود ومساهمة أكبر العلماء على كوكب الأرض، وفرضت تكنولوجيا متقدمة تقدح شرراً، فكانت الشمولية تقتل البشر مستندة إلى الأسس العلمية التي تمتلكها، وأما الدول الديموقراطية فكانت تقتل البشر بواسطة تطبيق تجاربها العلمية. يقول تودروف: يشير التقويم إلى اندثار القرن العشرين، ولكن أحداثه لا تزال تطرق باب ذاكرتنا، فكيف يمكن أن نستفيد من هذه العبر في قرننا المقبل؟ لقد تطورت صلتنا بالزمن، وولّى عهد المجتمعات التقليدية بشعوبها المستقرة والحضرية، وبعباداتها المنتظمة التي كنا على ثقة من أننا لن نضيعها من سنة إلى سنة، وأنها لن تزول. وقد تغير كل شيء حولنا، وأصبحنا نتسابق مع الزمن للحصول على المعلومات الجديدة، وبات الحفاظ على الماضي مهدداً. * كاتب أردني