في مقابلة له مع صحيفة"الحياة"31 كانون الاول ديسمبر 2004، يجيب عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية عن سؤال بشأن أسباب نجاح الجامعة في السودان وإخفاقها المدوّي حسب تعبير السؤال في العراق وفلسطين بالآتي:"لأنه ببساطة لم تتداخل المصالح العربية في المشكلة السودانية ولم يحدث ان جذب طرف الخيط من جهة الشمال وشده طرف آخر من جهة اليمين ولم يراع احد مصالح أجنبية مثلاً". واعتقد ان العراقيين مدينون هذه المرة لموسى ولربما للسؤال ايضاً بامتنان وافر لتحليله القيم، أولاً بأن النظام العربي أخفق فعلاً في حل المشكلة العراقية"وثانياً بأنه حدد ببراعة وبلغة السياسة أسباب ذلك بثلاثة عوامل: اولها وجود مصالح عربية في العراق، وثانيها ان هذه المصالح متداخلة ايضاً وفيها شد وجذب بين الاطراف، وثالثها الأخطر من وجهة نظر قومية مراعاة المصالح الأجنبية. وبغض النظر عما يؤكده الجواب من المقولة السائدة إن للنجاح آباء كثيرين والفشل لا أب له، فإن المقارنة بين موقفي النظام العربي من كل من أزمتي العراق والسودان قضية تستحق الاهتمام والدراسة فعلاً، على الأقل لاستخلاص العبر ان لم يكن لمحاولة عربية جدية وربما أخيرة لإنقاذ العراق، والسودان ايضاً فالنجاح يبقى مسألة نسبية والقضية السودانية دُوّلت بما لم يبق للنظام العربي حصة فيها مما ينتظرهما. وقبل ذلك إنقاذ النظام العربي نفسه من الانهيار والذوبان في اللانظام الجديد الذي مهد لقيامه بنفسه لأسباب بعضها هي ذاتها التي أشار اليها الأمين العام للجامعة العربية وبعضها الآخر قد تكون فاتته، أو لم يود الإشارة اليها، ربما لأسباب ديبلوماسية او لم يحن أوانها بعد. يوفر مثل هذا التحليل الذي جاء على لسان الأمين العام للجامعة العربية فرصة ممتازة لمراجعة صريحة للموقف العربي من الازمة العراقية منذ نشأتها بعد غزو صدام حسين للكويت في آب أغسطس 1990 وحتى لحظتها الراهنة من خلال استخدامه لكلمة المصالح، وهو مصطلح دقيق تقوم عليه كل النشاطات السياسية للدول والشعوب من حيث هي تعبير عن جوهر وجودها وسعيها لحماية بقائها وسط خضم المصالح المتباينة والمتخاصمة في عالم سواء كان فيه الصراع للأقوى ام للافضل. فالواقع أن اكثر ما يوجه للمنتديات العربية المختلفة، وعلى رأسها الجامعة العربية، من نقد هي انها مجرد منابر للخطابة وتدبيج البيانات والبعد عن تبنّي مواقف سياسية عملية معبرة عن مصالح حقيقية مشتركة. فاليوم لا يحتاج أي إنسان عربي الى كثير عناء لكي يرى من حوله غياباً تاماً للغة المصالح المشتركة بين العرب أنفسهم وحضورا مطلقا للغة الاسترسال الطنانة التي حولت العرب من بين كل أمم العالم الى ظاهرة صوتية باقتدار. ولنحصر الموضوع بالقضية العراقية ولنسأل ما مصالح العراقيين مع العرب، وفي المقابل ما مصالح العرب مع العراق؟ طبعا علينا أولاً ان نحدد مرجعية لتعريف ومن ثم تحديد هذه المصالح على ضوء الواقع الفعلي والتجربة التاريخية، وليس على اساس الشعارات المرحلية التي سادت في المراحل المختلفة لمحاولات تكوين هذا النظام العربي. ثم هل ان المصالح المقصودة هي مصالح الشعوب والاوطان ام مصالح الانظمة والقيادات والنُّخب التي استولت على هذه الاوطان واغتصبتها؟ لا توفر الوقائع التاريخية ولا الحية أية دلائل على وجود مثل هذه المرجعية، لكنها توفر بالضد كل الدلائل على ان السياسات العربية العشوائية والانانية والقصيرة النظر راوحت دائما بين صراعات بائسة تتبعها عمليات تبويس لحى مثيرة للسخرية والاشمئزاز أو في أحسن الاحوال توافقات هشة سرعان ما تطيح بها ريح الخلافات والتناقضات. اليوم يسمع العراقيون أقاويل مثل الحفاظ على الهوية العربية للعراق ودعوات اليهم للتمسك بعروبتهم ويحذرونهم أيضا من مغبّة هيمنة الإسلام السياسي على مقدرات بلدهم ويلمحون باتهامات الى قومياتهم وطوائفهم بالنزعات الانفصالية والهيمنة المذهبية الاقليمية وهي كلها رسائل، بالطريقة التي اعلنت فيها، تبطن اكثر مما تعلن. اكثرية العراقيين استفزتهم هذه الاعلانات ليس لأنها انطوت على محاولات التشكيك بانتماءاتهم تلك حكاية تستحق الجدل فيها فعلا حول من تناسى عروبته اولا ولا بسبب تهمة الاسلام السياسي الذي انتقلت اليهم عدواه ممن يتهمونه به، ولكن بسبب انها تكشف بطريقة سافرة عن ان بعض العرب يرفضون الطريق الجديد الذي يحاول ان يختطه العراقيون الجدد لإعادة بناء وطنهم المدمر وفق عملية سياسية سلمية. موضوعيا، هل يمثل هذا الموقف الذي يجري ترويجه وتسويقه الآن مصلحة عربية تتعارض مع المصلحة العراقية، وبالتالي هل مطلوب من العراقيين التخلي عن آمالهم وطموحاتهم البسيطة في بناء عراق موحد وتعددي ومسالم مع نفسه ومع جيرانه من اجل عروبة غامضة؟. مصالح العراقيين كانت منذ البداية واضحة ومشروعة وبسيطة وتتلخص بأنهم كانوا يريدون، شأنهم شأن باقي شعوب الارض، أن يعيشوا في أمن وسلام، وشيء من الحرية، وينعمون بثروات بلادهم الوفيرة. كانت هذه المصالح الطبيعية جدا، والتي يتمتع بها معظم العرب، تصطدم بوجود نظام استثنائي في وحشيته حوّل بلادهم الى زنزانة كبيرة، وقادهم الى مغامرات خارجية متكررة استنزفت الكثير من دمائهم، مثلما استنزفت ثرواتهم، حتى احالتهم الى حالة من الفقر والحاجة هي الاسوأ في المنطقة. كان انتشالهم من حالة الموت التي يعيشونها يقتضي تحررههم من صدام حسين ونظامه، ولأن آلة القمع الدموية التي اقامها لم تكن لتسمح لهم ابدا بتحقيق هذه الأماني فقد كان شيئاً طبيعياً أن تمتد ابصارهم الى من يتضامن معهم وإلى من يمد إليهم يدًا تساعدهم على الخلاص. ولم يكن العراقيون في وهم من أن العرب غير مستعدين وغير قادرين لتقديم مثل هذا العون لهم، ذلك لأنهم ادركوا منذ وقت مبكر ان فاقد الشيء لا يعطيه. لم يدعُ العراقيون الأميركان لتحريرهم من صدام، كما لم يكن بإمكانهم أن يمنعوهم بعد ان قدمت القيادات العربية كل التبريرات الممكنة للأميركان لشن الحرب وبعد أن مرت قواتهم بأراضٍ وعبرت المياه الاقليمية لأكثر من نصف الدول العربية، كما انطلقت دباباتهم وطائراتهم وكل آلة القوة الجبارة التي بحوزتهم من ارض العرب تذكروا أن تركيا رفضت ذلك لتشن تلك الحرب الضروس على بلادهم. لم تكن الحرب أبدًا ممكنة لولا ان النظام العربي قبلها وباركها، وفي أسوأ الاحوال عجز عن التعامل مع الأزمة العراقية بطريقة بارعة تحافظ على مصالح الشعب العراقي وتدعم أمانيه في الانعتاق من سجن صدام، وفي الوقت ذاته تمنع وقوع تلك الحرب. ورفض النظام العربي الرسمي بعناد أيّة محاولة لانقاذ العراق من محنته المقبلة باقناع او من خلال الضغط على صدام للتّنحّي ضاربا بعرض الحائط ليس تطلعات العراقيين فقط بل مصلحة العرب في تجنب الغزو والاحتلال وآثارهما الكارثية على المنطقة. ولم تقتصر النتيجة على لجوء هذا النظام الى تكتيكات النعامة فقط بل استعان ايضا بمخزون حيله القديمة فوقف مع صدام ومع جورج بوش في آن واحد. ولم يكن النظام العربي وحده متواطئاً الى قمة رأسه في المأساة العراقية بل شاركه في ذلك جزء كبير من الشارع العربي الذي انساق وراء دعوات التهييج التي اطلقتها اوساط طفيلية اعتاشت على صدقات صدام وهباته، او من أيتام الفكر الشمولي المتبلد، وعملت ولا تزال على تشويه التجربة العراقية للانعتاق من الدكتاتورية واعادة بناء الاوطان على اسس من الحرية والعدل والمساواة، مثلما عملت على الاستهانة بآلام العراقيين ومعاناتهم وتسخيفها. والأدهى أن الكثير من النخب العربية التي يرتفع صراخها الآن من اجل التحديث والاصلاح والتغيير تخاذلت هي ايضا ولا تزال تبدي الكثير من اللامبالاة في دعم القضية العادلة للعراقيين، بعدما خضعت لحملات التشويش والتشويه والابتزاز في وقت يواجه فيه العراقيون أخطر التحديات وأقساها في بناء اهم تجربة في اعادة بناء الدولة العربية الحديثة. العراقيون لا يعرفون ما الذي يريده العرب منهم على وجه التحديد، لا يعرفون ما المصالح العربية في العراق، تلك التي يقول عنها الأمين العام للجامعة العربية إنها متداخلة تتجاذبها الخيوط نحو اليمين والشمال وتراعى فيها المصالح الاجنبية. لو ذهب العرب إليهم الآن وسألوهم فسيجدون ان العراقيين لا يرون في تلك المصلحة إلا إرهابيين يزرعون الموت والدمار في مدنهم وشوارعهم، بل في بيوتهم ويقتلون خيرة ابنائهم وليسألوا الافغان ايضا عن ذلك وهم ينصاعون لأوامر بن لادن والزرقاوي اللذين يريدان إقامة أمارتهم على جثة خمسة وعشرين مليون عراقي. سيجدون أن العراقيين لا يرون في تلك المصلحة غير التحريض والكذب والنفاق اليومي الذي يمارسه إعلامهم ضد تجربتهم الإنسانية الفريدة للنهوض من رماد الحروب التي لا يعفونهم من مسؤولية ايقادها. سيجدون أن العراقيين لا يرون في المصلحة العربية غير رغبة في الحصول على عقود المشاريع وإغراق أسواقهم بالسلع الفاقدة الصلاحية والفاسدة والسيارات البالية أو المسروقة وخطط طموحة لزرع حدود العراق بمناطقهم الحرة لتصدير المزيد من تلك السلع الى اسواقهم. ولا أكتب هنا كعراقي يعيش المأساة مع ناسه وأهله فقط، بل كعربي ايضاً يعيش في قلب العالم العربي ويرى الهوة التي يصنعها الجهل وسوء التقدير والأنانية تتسع بين العراقيين ومحيطهم العربي في الوقت الذي يستمر فيه العجز العربي عن تقديم أفكار وحلول بارعة تساهم في انتشال العراقيين من محنتهم وتمنع الكارثة التي لو وقعت ستصيب كلا الطرفين بنكبة جديدة ان لم يكن بمقتل. لا ينفع أن يذكّر العرب العراقيين بأنهم محتلون ليل نهار وهم يقيمون القواعد العسكرية الأميركية على أراضيهم ويوفرون التسهيلات للأساطيل الأميركية تسرح وتمرح في مياههم الاقليمية ويجرون المناورات العسكرية المشتركة مع القوات الأميركية. لا ينفع أن يستنكر العرب على العراقيين حاجتهم للحماية في الوقت الذي يفتحون حدودهم أمام مجاهديهم يعبثون بحياتهم وأمنهم. لا ينفع أن يطلب العرب من العراقيين عدم طلب العون في إعادة بناء بلادهم المدمرة في الوقت الذي يتقاتلون فيه على توقيع اتفاقات التجارة الحرة مع الأميركان لدعم اقتصادياتهم. لا ينفع أن ينظر العرب الى العراق كمنجم ذهب لا راعي له يغرفون منه في الوقت الذي يحتاج العراقيون فيه الى كل فِلس للتنمية والإعمار. لا ينفع ان يذكّر العرب العراقيين بعروبتهم وينسونها، لا ينفع أن يُملي العرب على العراقيين من مذاهب وأديان وقوميات خيارات غير خياراتهم التي اختطوها لأنفسهم في العيش المشترك. على العرب أن يعيدوا النظر في معنى مصالحهم المشتركة مع العراقيين بل في نظرتهم اليهم، أو أن يتركوا العراقيين يشقُّون طريقهم وحدهم، فلعلهم يدركون غايتهم وقد يقدمون أيضا للعرب نموذجاً افضل. * كاتب عراقي - القاهرة.