أثار تصريح للمستشار الألماني غيرهارد شرودر نقاشاً غير هادئ في بعض الدوائر السياسية في أوروبا والولاياتالمتحدة. ففي هذا التصريح دعا شرودر أوروبا إلى انتهاج سياسة "إنعتاق" تجاه الولاياتالمتحدة الأميركية. وجاء رد الفعل الأميركي - كما كان متوقعاً - غاضباً لسببين: الأول أن شرودر بهذا التصريح يريد أن يؤكد إصراره على موقفه الرافض للرغبة الأميركية في الانفراد بالقيادة واحتكار القرار. وفي رأي السياسيين الألمان، كما هو رأي أقرانهم في فرنسا ودول أخرى عديدة، لم تكسب هذه الرغبة ولا ذاك الاحتكار للحلف الغربي إلا السخرية والاتهام بالتهور والتخبط. من ناحية أخرى، كان هذا التصريح تأكيداً جديداً على رغبة ألمانيا في تحرير إرادة الأممالمتحدة من الهيمنة الأميركية ورغبتها في أن تحتل أوروبا دوراً مناسباً يليق بقوتها المتنامية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. السبب الثاني الذي أثار الغضب الأميركي من تصريح شرودر أن كلمة إنعتاق يفهمها الأميركيون في سياق معين ومحدد، وهو إنعتاق العبد من حال الاسترقاق. ويعتبر كثير من السياسيين الأميركيين إن استخدام كلمة إنعتاق في أي مكان آخر من العالم يقصد به توجيه إهانة مستترة أو مكشوفة للولايات المتحدة الأميركية، إذ قد يقصد بها الدلالة على أن الولاياتالمتحدة والتي جربت استخدام الرقيق ومارسته لعشرات السنين تعود لتمارسه في أشكال أخرى وبوسائل متباينة مع شعوب ليست بالضرورة شعوبا سوداء ومع حكومات ليست بالضرورة حكومات معادية. شرودر لم يقصد هذا المعنى الأميركي للكلمة، كان يقصد تحديداً التعبير عن رغبة ألمانيا ودول أخرى في أوروبا في التحرر من بعض قيود الحلف الغربي. والقصد هنا في غالب الأمر تلك القيود التي تجعل الدولة الأوربية العضو في حلف الأطلسي تقبل من دون مناقشة القرار الذي تمليه قيادة الحلف منفردة أو مع من تجنده وتعبئه من بقية الأعضاء ليصير لها أغلبية لا تعبر عن واقع الإرادة الحقيقية لأوروبا. بالتأكيد لم يكن يستخدم كلمة إنعتاق باعتبارها عكس كلمة استرقاق. ففي الاسترقاق يسعى السيد إلى إلغاء إرادة العبد أو الطرف المستعبد إلغاءً كامل. والعبد حسب قوانين الرقيق الأميركية التي سادت قبل الحرب الأهلية الأميركية وخلالها كانت تؤكد عدم أحقية الرقيق في التمتع بأي نوع من أنواع الحريات أو الحقوق الإنسانية، كان العبد من دون إرادة ومن دون حرية وفوق هذا وذاك من دون ماضٍ أو تاريخ. كانت مهمة السيد أو الجماعة الاجتماعية التي تسن قوانين الرقيق وتفرض عليهم طاعة السادة البيض تعمل في الوقت نفسه على محو تاريخ هذا العبد وقطع صلته بموطنه الأصلي وبعقيدته الدينية وبتاريخه الوطني وحتى العائلي. بهذا المعنى لم يكن يحق للعبد أن يطالب في يوم من الأيام بتاريخ خاص له. وقد بذل السود في الولاياتالمتحدة في عقد الستينات من القرن الماضي خلال حركة الحقوق المدنية جهوداً هائلة لاختراع تاريخ خاص بهم، حتى أنهم اخترعوا لنفسهم جنسية أو قومية للتميز عن السيد الأبيض الذي يحكم الولاياتالمتحدة حين أطلقوا على أنفسهم تعبير "الأميركيون الأفارقة". الإنعتاق إذاً بالمعنى الذي يقصده شرودر ويقصده غيره من الأوروبيين والعرب والروس الذين كرروا استعمال هذه الكلمة في الآونة الأخيرة مرات ومرات، هو استرداد الإرادة، أو الجزء الغالب منها، وممارسة أقصى درجة ممكنة ومعقولة من حرية العمل السياسي داخل إطار النظام الدولي القائم. أي أن الإنعتاق لا يعني بالضرورة الثورة على النظام الدولي وإنما استعادة حقوق وحريات حاولت الدولة القائد أن تضعها في إطار علاقة أقرب إلى التبعية، منها إلى الاستقلال والمساواة في السيادة. ومع ذلك فالعلاقات الدولية لا تخلو من ممارسة عمليات هي أقرب ما تكون إلى الاسترقاق. يحدث هذا حين تنجح الدولة الأقوى في إلغاء إرادة دولة أخرى إلغاءاً كاملاً أو شبه كامل، بحيث تصبح هذه الدولة الأخرى بلا رأي وبلا حقوق أو إرادة في تقرير مصيرها والمشاركة في اتخاذ القرار الدولي. وليس ضرورياً أن يحدث هذا الاسترقاق أو ما يشبهه بالاحتلال المباشر. بل أن أكثر الاسترقاق في السياسة الدولية في العصر الحديث يحدث عن طريق الاتفاقيات الثنائية، وبممارسة النفوذ المباشر والضغوط الشديدة وبالحصار الاقتصادي وبتشكيل تحالفات من نوع التحالف في الحرب ضد الإرهاب أو التحالفات الوقتية كتلك التي تحدث الآن خارج إطار المنظمة الدولية، أي خارج إطار الشرعية الدولية. كل هذه الممارسات تؤدي في الواقع إلى حالة هي أقرب ما تكون إلى الاستتباع مع شيء ما من الاسترقاق. لذلك لا يبدو غريباً لجوء بعض الدول إلى رفع شعار الإنعتاق من علاقات ودية ومتينة وعضوية خصوصاً وأن في بعض هذه العلاقات تنتفي إرادة الدولة الأضعف أو الدولة الأكثر مجاملة أو الدولة المنافقة أو الساعية إلى مميزات لأشخاص معينين في نخبتها الحاكمة أو لعائلات معينة أو لمصالح اقتصادية تنتفع بها فئة معينة في الدولة من دون سائر فئات المجتمع. إن الخلاف الدائر حالياً في بريطانيا يدور في جزء رئيسي منه حول هذه القضية ولكن من دون استخدام كلمات من نوع الاسترقاق أو الإنعتاق. إذ لم يخل خطاب كلير شورت، وزيرة التنمية الدولية السابقة في حكومة توني بلير، الذي أدلت به في مجلس العموم من إشارات تكاد تماثل في المعنى وفي الجوهر القصد الألماني من استخدام كلمة الإنعتاق. ويتزايد بشكل محلوظ في المملكة المتحدة حجم وقوة التيار الذي ينادي بكبح جماح توني بلير الذي يكاد يكون قد سلم الإرادة المستقلة لبريطانيا إلى الولاياتالمتحدة لتفعل بها ما تشاء. ويدللون على ذلك بالموقف البريطاني من إيلاء الأممالمتحدة دوراً مناسباً في إعادة بناء العراق كما تعهد بذلك توني بلير ونكث بوعده. بل إنهم يضربون أمثلة متعددة عن هذه الحالة من الاسترقاق البريطاني بالعديد من الأدلة المزيفة التي حاول بلير أن يكسب بها تأييد الرأي العام البريطاني ليدخل مع الولاياتالمتحدة الحرب الظالمة وغير العادلة ضد البنية التحتية العراقية وضد وحدة الشعب العراقي. ويلفت النظر في التطورات الأخيرة لمنطقة الشرق الأوسط، بخاصة بعد أن حلت الفوضى محل الديكتاتورية العراقية، تردد فكرة معينة تدعو للتمرد على جامعة الدول العربية. أتصور أن الهدف غير المعلن لمروجي هذه الفكرة وغيرها من الأفكار التي تهدد مصير جامعة الدول العربية هو الرغبة في الإنعتاق من الالتزامات التي تفرضها عضوية جامعة الدول العربية، وأغلبها التزامات تتعارض - ولو شكلاً - مع الشروط الجديدة لعلاقات أقوى مع الولاياتالمتحدة. انعتاق من عروبة وبعض الإسلام في سبيل استتباع ولا أقول استرقاق لأشياء والتزامات أخرى. صحيح أن أكثرية الدول لا تنفذ قرارات الجامعة العربية. وصحيح أيضاً أن بعض هذه الدول ليس حريصاً على بقاء الجامعة العربية، ولكن الصحيح أيضاً أن عضوية أي كيان عربي في جامعة الدول العربية يفرض عليه ولو من حيث الشكل الالتزام بثوابت معينة. تسبب هذا الالتزام في كثير من الحرج لحكومات دول عربية ذات شأن في عدد من المناسبات. الحل في نظر أصحاب فكرة هدم الجامعة هو كسر هذا الالتزام. وبما أن جميع الدول العربية التي قررت يوماً ما الانقلاب على التزاماتها تجاه عروبتها باء قرارها بالفشل ظهرت، أو تجددت الدعوة إلى تدمير الجامعة من أساسها، كحل نهائي للتناقض بين ما هو قادم وما هو قائم. ويعترف بعض السياسيين أن اتفاقيات ثنائية معينة كاتفاقات التحالفات العسكرية أو تسهيلات قواعد عسكرية أو اتفاقيات تؤدي إلى التزامات طويلة الأجل في مجال الاقتصاد والتعاون السياسي تفرض انتقاصاً أو قيداً على إرادتهم وسيادتهم وتعدياً على بعض الحقوق. لذلك وجدنا بعض هؤلاء يطالب بتجربة الإنعتاق، أي التحرر من نوع من العبودية التي تفرضها هذه الاتفاقيات الثنائية أو الاتفاقيات الإقليمية. من الأمثلة البارزة في التاريخ الحديث نظرة السياسيين الألمان في أعقاب الحرب العالمية الأولى إلى اتفاقية فرساي ومواقف عديد من الدول من اتفاقات مماثلة وقعت في ظل حالة حرب غير متكافئة أو حالة سلام غير عادل. ومن الأمثلة الأحدث ما يقال الآن عن اتفاقيات أوسلوا ووادي عربة وكامب ديفيد، خاصة بعد أن مرغها جميعاً في التراب آرييل شارون، ولا يمنع الحكومات العربية الموقعة على هذه الاتفاقيات من تأييد رغبة الرأي العام في الإنعتاق منها، إلا التهديد الموجه إليها بما هو أسوأ منها. ويدخل تحت عنوان الإنعتاق بعض العلاقات الحميمة أو علاقات الصداقة التي تقوم أحياناً بين دولة ودولة أخرى. فالعلاقات الحميمة وعلاقات الود والصداقة قد تكون في حد ذاتها قيداً على الإرادة الحرة للدولة وعلى حقها في ممارسة ما تشاء من سياسات خارجية أو داخلية معينة. أذكر على سبيل المثال وضع السياسة المصرية في منتصف السبعينات عندما تصور بعض المفكرين وصانعي القرار أن الصداقة الحميمة التي كانت تربط بين شخصيات قيادية مصرية وشخصيات قيادية أخرى في العالم العربي قد أصبحت تمثل قيداً على حرية مصر في الحركة نحو محادثات الصلح التي كان يجري التفكير فيها. وقد سجلت في مكان آخر كيف أن السياسة المصرية تدرجت في ممارسة الإنعتاق من التزامات وقيود بعض هذه الصداقات الحميمة وافتعلت بعض البرود والتوتر في علاقاتها مع الدول العربية الصديقة حتى تتحرر فتستطيع تنفيذ سياسات كانت مثيرة للجدل في ذلك الحين. أرى أننا نشهد مرة أخرى تجربة جديدة في محاولات الإنعتاق من جانب عدد من الدول العربية من علاقات عربية وأوضاع عربية معينة. هذه العلاقات والأوضاع تضع هذه الدول في موقف حرج إزاء ما ترتبه حالياً، أو تزمع القيام به، من علاقات مع الولاياتالمتحدة الأميركية أو مع إسرائيل، وما تنوي إدخاله من تجديد على سياساتها ونمط حياة شعوبها تحت ضغط أقلية متزايدة القوة في النخبة المثقفة العربية تدعو للإنعتاق من العرب والاستسلام لرؤى إقليمية جديدة.