كان ولا يزال، هناك من يدافع عن حكم الاستبداد بذريعة او اخرى. فلكل من ستالين وهتلر، في حياتهما وحتى بعد مماتهما، معجبون ومدافعون. والحالة العربية لا تختلف وان كانت اكثر تميزاً، وذلك لتعدد الانظمة العربية وبالتالي تباين طبيعة هموم شعوبها. ترتفع اليوم صور الرئىس العراقي صدام حسين في التظاهرات الشعبية في غزة والاردن. بل ان البعض من قادة العرب اخذ يظهر التعاطف مع حاكم بغداد تقرباً الى هذا الشارع، ناهيك عن تأييد العديد من النخب العربية المثقفة له. ومع ذلك تتمنى الغالبية العظمى من الشعب العراقي، بمن فيهم عناصر من الحزب الحاكم، نهاية هذا النظام! ما تفسير هذا التباين؟ هل ان الشعب العراقي من "الغباء" الى حد لا يعرف معه نعم صدام حسين عليه؟ ام ان الآخرين بلغوا حداً من "الجهل" لا يعرفون معه معاناة العراقيين من صدّام. برر بعض النخب السياسية والثقافية العربية تأييدها للنظام العراقي وصدام حسين تحديداً، باسم "التعاطف" مع الشعب العراقي! ولكن هل تعرف هذه النخب حقاً، او هل تريد ان تعرف، ما يرغب فيه العراقي؟ ان جوهر القضية العراقية هي فقدان الحرية والمشاركة السياسية، وما يعيشه العراقيون اليوم من حرمان هو نتيجة لسياسات وحروب شنها النظام من دون استشارة او محاسبة ممثلي الشعب العراقي، وهذا لا يعفي الدول الكبرى وحتى "الاشقاء" العرب من المسؤولية عندما كانوا داعمين بالقول والمال للنظام في حرمان شعبه من الحرية وجيرانه من الامان. يتخذ البعض من "الاخوة" العرب موقفاً اكثر ملكية من صدام نفسه، عندما يدعون أنه كان ضحية مؤامرة، في الوقت الذي يصرّ الاخير على اعتبار كوارثه في ايران والكويت، دعك عن قمعه لشعبه، "انتصارات" يفتخر بها. يرد البعض الاخر من "الاخوة" العرب بالقول: ولكن اين هي الحرية والديمقراطية في العالم العربي؟ وكأن غيابها في بلد يبرر فقدانها عند الاخرين! واذا كانت البلاد العربية تشكو في المطلق من غياب الحرية والديموقراطية، ولكنها تختلف نسبياً في هامش التسامح والتساهل الديموقراطي. فطموح العراقي اليوم هو ذلك الهامش من الحرية والآمان الذي يتمتع به المغربي او البحريني او الاردني. * * * وبعيداً عن حرب الخليج الثانية وظروف الحصار والعقوبات، وبعيداً عن المقارنة بأي بلد عربي اخر، فإن نظرة واحدة لما كان عليه العراق في مطلع القرن الماضي وما هو عليه اليوم يجيب على ذلك التساؤل. ان مقارنة بين حكم الملك فيصل الاول للعراق بين الفترة 1921 لغاية 1933، وحكم الرئىس صدام حسين للفترة بين 1979 ولغاية 1991، اي حقبة 12 عاما في ظل كلا الحكمين توضح الآتي: استلم فيصل الاول الحكم والعراق تحت الانتداب وترك الحكم والعراق اول دولة عربية مستقلة عضواً في عصبة الامم. استلم صدام الحكم والعراق دولة مستقلة، وانتهى به بعد 12 عاماً منتدباً عليه من قبل الاممالمتحدة. اقام فيصل اول تجربة برلمانية عراقية، وجرى انتخاب اول برلمان عراقي لايزال الاكثر تعبيراً عن ارادة الشعب العراقي، و شرع اول دستور للعراق لا يزال الاكثر تقدماً في تاريخ العراق. يحكم صدام حسين منذ استلامه السلطة ولايزال باسم "مجلس قيادة الثورة"، وهو مجلس غير منتخب، ولا تزال البلاد تحكم بدستور موقت و"مجلس وطني" شبه معين لا صلاحيات له. عرف العراق في عهد فيصل بداية العمل الحزبي العلني والتعددية السياسية، بينما انهى صدام ، بمجرد وصوله السلطة، الوجود العلني للاحزاب وكرس دكتاتورية الحزب الواحد. استلم فيصل الاول الحكم وخزينة البلاد خاوية ولم يكن العراق بلداً منتجاً للنفط آنذاك، ومع ذلك اعتمد سياسات مالية واقتصادية كان لها الفضل في انماء البلاد واستقلاله المالي. استلم صدام حسين رئاسة الجمهورية عام 1979 بفائض مالي يزيد عن 30 بليون دولار وعوائد نفطية تقارب العشرين بليون دولار سنوياً، ليصل بالعراق بعد اثني عشر عاما الى عجز يزيد عن ثلاثة بلايين دولار، وارتفع اليوم الى ثلاثمائة بلايين دولار. وظف فيصل الاول تحالفه مع بريطانيا من اجل رسم حدود العراق مع جيرانه، فأنهى مشكلة الموصل لمصالحة العراق من دون اطلاق رصاصة واحدة، كما رسم حدود العراق مع ايران والسعودية بما خدم استقرار المنطقة. بالمقابل خسر صدام ماحققه فيصل الاول في اتفاقية الحدود مع ايران، وزيادة بالطين بله شن حرباً بالانابة عن الغرب ضد جارة اسلامية باسم استرجاع ما تنازل عنه حسب اتفاقية الجزائر عام 1975. عاش العراق ابان حكم فيصل الاول وطوال العهد الملكي حالة سلم مع جيرانه كافة، بينما اقحم صدام العراق بحربين كارثيتين في غضون اثنى عشر عاماً من رئاسته للجمهورية. جاهد فيصل في مؤتمر فيرساي عام 1919 لاقناع اوروبا باستقلال البلاد العربية، وخسر عرشه في سورية دفاعاً عن استقلالها، في حين التهم صدام دولة عربية مستقلة وقبل ذلك وظف قدرات العراق لزعزعة استقلال واستقرار سورية. لم يقتل في عهد فيصل الاول أي سياسي عراقي، في حين دشن صدام حكمه بمجزرة ذهب ضحيتها رفاق دربه بالحزب. بادر فيصل الاول باقامة دولة القانون عندما كرس استقلال القضاء ونزاهته ، في حين افرغ صدام القانون من معناه وفقد القضاء استقلاله ونزاهته، واصبحت رغبة الحاكم هي القانون. دافع فيصل الاول عن حقوق الاقليات فكرّس مشاركتها بالحكم والبرلمان، وذهب الى اكثر من ذلك في الدفاع عن الاشوريين بوجه التعصب الشوفيني العربي. وبالمقابل مارس صدام التطهير العرقي، اولاً باسم "التبعية الايرانية" طرد من لا يحمل جنسيه ذات تبعية عثمانية، وفيما بعد طرد التركمان والكرد من كركوك، وصولاً الى استخدام الغازات السامة في حلبجة. بمقدار ما كرّس فيصل الاول مفهوم العراقية سبيلاً لوحدة العراق والوحدة الوطنية، كرّس صدام حسين الانقسام العرقي والطائفي بما جعل عراق اليوم مشروعاً جاهزاً للتقسيم. وبمقدار ما كان وجود فيصل الاول ضرورة لحرية العراق ووحدته واعماره، بات غياب صدام ضرورة لذات الاسباب. لقد عرف ومارس العراقيون هامشا كبيرا من الحرية والمشاركة السياسية... فهل كثير عليهم ان يطالبوا بمشا كانوا عليه في مطلع القرن الماضي؟ * * * البعض الآخر من "الاخوة" العرب، ينصح العراقيين المناهضين للدكتاتورية، بعدم التعاون مع الاجنبي، لأن العراق باق وصدام زائل، مفترضاً رغبة الاجنبي في زوال العراق!، ناسياً ان الفضل في خلق العراق بحدوده الحالية وحدة الولايات الثلاث البصرة، بغداد والموصل يعود الى "الاجنبي"، لا حباً في العراقيين ولكن مصلحة بريطانيا بعد الحرب العالمية الاولى كانت تقتضي ذلك، في وقت تقدم اعيان البصرة بعرائض مضابط مطالبين بريطانيا بعدم ضم ولاية البصرة للدولة الجديدة، كما رفض اكراد الشمال اخضاعهم لهيمنة عرب العراق. واليوم ليس في مصلحة الدول الاقليمية او الكبرى تقسيم العراق او تلاشيه، بل اخذ البعض منهم يستفيد من استمرار "الوضع الراهن" لاغراضه الخاصة في ابقاء العراق ضعيفاً، او كفزاعة لطلب مساعدة الاجنبي، او لتكريس الانقسام العربي، او كورقة سياسية في حسابات اقليمية و/ او بقرة حلوب لانعاش اقتصاد "اشقاء" عرب. كان في امكان التحالف الغربي في نهاية حرب الخليج الثانية تصفية الوجود العراقي، وتغيير حاكمه، ولكن القوات الاميركية وجدت في بقاء العراق موحداً ضرورة اقليمية واجهضت انتفاضة شعبية بتلك الحجة، وفي الوقت الذي وفرت الحماية لسكان المحافظاتالشمالية، إلا ان الادارة الاميركية كانت ولا تزال صريحة في رفضها حق الاكراد المشروع بتقرير المصير. واخيراً، هل بادر اي طرف عربي او اسلامي بدعم مطالب الشعب العراقي بالحرية والديموقراطية حتى يطالبهم البعض من "الاخوة" العرب بعدم طلب مساعدة "الاجنبي"؟ فلا يزال الكثير من النخب العربية يتعامل مع الشعب العراق بانتقائية مفرطة، وبالنسبة الى العديد منهم مجرد كون المعارض "شيعياً" او "كردياً" كاف لالغائه واسقاطه باسم الطائفية او الانفصالية، علماً ابأ هذين الطرفين هما الغالبية العظمى للشعب العراقي. * * * وجد بعض الدول العربية مصلحته في الانفتاح على النظام العراقي بدوافع اقتصادية، وهذا امر مفهوم، ولكن ان يقال ان هذا الانفتاح هو لمساعدة الشعب العراقي او التعاطف معه فهذا اهانة لذكاء العراقيين. كما يفهم تخلي مثل هذه الدول عن العراقيين المناهضين للدكتاتورية عندما تعاني تلك الانظمة من ذات المرض. فالانظمة العربية، خصوصاً الدكتاتورية منها، تعاملت مع المعارضة كورقة سياسية في صراعاتها المتبادلة. وفي الوقت الذي لم تكن هناك اي مبادلات تجارية بين مثل هذه الانظمة، كان التصدير المتبادل للمعارضة أهم سلعة بينهما. قد يكون مفهوماً تعاطي السياسي مع الامر الواقع بحكم الضرورة، او التاجر الباحث عن سوق لبضاعته، ولكن ان يجد المثقف في استمرار الظلم مبرراً لتمجيده فهذا هو بؤس الثقافة. ان البقاء في السلطة ليس معياراً للصلاح، فمهما دام الظلم لا يتحول بحكم التقادم الى عدل... وقبل صدام، هناك ستالين وهتلر وتشاوشيسكو! ان من يتعاطف مع صدام حسين باسم "العروبة" يكرس موتها، لأن العروبة او اي رابطة قومية سليمة هي شراكة في القيم وليس في الدم، وأي قيمة اهم من حرية الانسان وكرامته. ان هذه القيم هي التي فتحت ابواب اوروبا للاجئين العراقيين، بينما اوصدت بوجههم في معظم البلاد العربية والاسلامية. اما من يصفق لصدام باسم فلسطين، فينطبق عليه القول: من كان له مثل هذا الصديق لا يحتاج الى عدو. ان سعار المسؤولين العراقيين ب "تحرير فلسطين من البحر الى النهر"، ووصف اليهود ب "أبناء القردة والخنازير"، هما سلاح شارون في استعادة ما خسره في اوساط الرأي العام العالمي، خصوصاً الاوروبي الذي يساند حق الفلسطينيين في اقامة دولته المستقلة في الضفة وغزة، وليس في "رمي اليهود بالبحر". لقد دخلت اسرائىل وكسبت كل حروبها من دون التفريط بحق الاسرائيليين بالديموقراطية، في وقت قمعت الانظمة العربية شعوبها وحرمتها من الحرية والديمقراطية باسم "لا صوت يعلو على صوت المعركة" لتخسر حرباً بعد اخرى. ان الشعوب المستعبدة لا تحرر غيرها. كان الشعب العراقي ولا يزال مناصراً للحق الفلسطيني، وقدم الكثير من اجل ذلك، وانضمت المئات من نخبه السياسية والعسكرية والفكرية للعمل الفلسطيني بعد هزيمة 1967، لتكافئهم اليوم، بعض القيادات والنخب الاعلامية الفلسطينية بالتصفيق للاستبداد. واخيراً، من حق "الاخوة" العرب انتقاد، لا بل حتى رفض، طرف او آخر عراقي معارض، ولكن يجب ان لا يتحول ذلك ذريعة للانحياز للاستبداد. * كاتب عراقي، لندن.