ركزت كل الكتابات التي دارت حول المسألة العراقية قبل الحرب وأثناءها وبعدها على مواضيع بعينها بدءاً من اسلحة الدمار الشامل مروراً بالإطاحة بالنظام القائم وصولاً إلى عراق ما بعد صدام. ولكن تلك الكتابات أغفلت في مجملها تأثير ما جرى على عروبة العراق وهو ما سنناقشه في هذا المقال الموجز. فالعراق بلد عربي أصيل العروبة تشكلت قبائله وعشائره من هجرات عربية استقرت بين النهرين منذ الفتح الإسلامي، كما كان الوجود العربي قائماً قبل ذلك على تخوم بلاد الفرس عندما كان يطلق عليهم "عرب المنازرة"، بل إن التأثير والتأثر بين شبه الجزيرة العربية وبلاد الرافدين أدى إلى تلاحم سكاني وتواصل إنساني لم يتوقف عبر التاريخ. فعروبة العراق إذاً هي عروبة مستقرة وليست عروبة وافدة. من هنا يثور التساؤل عن مستقبل تلك العروبة في ظل عدد من الاعتبارات يحسن دراستها والاهتمام بها في مواجهة ظروف صعبة عاشها الشعب العراقي في السنوات الاخيرة، كما أن العلاقات العربية العراقية تأثرت هي الأخرى وأصبح من المتعين علينا أن نتعامل مع ردود الفعل الجديدة في رحابة كاملة وتفهم موضوعي بعيداً عن الشعارات والعواطف والانفعالات، ولذلك فإننا سنتناول الموضوع من خلال عدد من العناصر نجمل أبرزها في النقاط الآتية: - أولاً: إن هناك احساساً عاماً باحتمال وجود مرحلة موقتة وعابرة من الضيق العراقي العام بمفهوم العروبة، فالمواطن العادي في بغداد او البصرة او الموصل وغيرها من مدن العراق وقراه وفي حواضره وبواديه يشعر أن أمته العربية لم تكن داعمة له بالشكل الكافي اثناء المحنة، بل إن هناك من يرى أن استمرار حكم صدام القائم على الديكتاتورية والقهر كان افرازاً طبيعياً لواقع عربي متخلف، وهم يعتبرون ان جزءاً كبيراً من المسؤولية يقع على العرب الذين سمحت أوضاعهم المتردية باستمرار النظام العراقي السابق في الحكم خصوصاً بعد غزو الكويت العام 1991، ويرون أن النظام العربي فشل في حماية الشعب العراقي من حكامه ومهّد بمزيج من الخوف والسلبية لاستمرار واحد من أكثر نظم الحكم عنفاً وقسوة في التاريخ المعاصر، حتى دفع الشعب العراقي فاتورة الحرب مع إيران، ثم غزو بلاده للكويت، ثم الحصار المفروض عليه لأكثر من اثني عشر عاماً. ولقد جسدت معاملة العراقيين للمتطوعين العرب الذين ذهبوا الى العراق اثناء الحرب الاميركية عليه ما يؤكد ذلك، اذ وجد فيهم الشعب العراقي مجموعات وافدة ينفث فيها عن غضبه ويعبر في عنف عن شعوره المحبط تجاه أمته التي خذلته من وجهة نظره، فهي لم تكن كما كان يريدها فقامت مجموعات من الشعب العراقي بالاعتداء على المتطوعين العرب وطاردتهم وقتلت عدداً منهم وسلمت عدداً آخر الى سلطات الاحتلال الاميركي في مشاهد مأساوية تجسد بحق مؤشراً لبداية احتمال كفر بعض العراقيين بعروبتهم. - ثانياً: إن إحساس المواطن العراقي بتراثه الحضاري السابق على دخول الإسلام والتالي له يترك لديه إحساساً قوياً بالذات ويعطيه شعوراً بالتميز، وهو أمر تشترك فيه كثير من الشعوب ذات الاصول الحضارية العريقة، لذلك فإن الإحساس بالمرارة في حلوق العراقيين - سواء كان لذلك مبرر من عدمه - أصبحت تفرز هي الأخرى مشاعر سلبية تجاه قضية العروبة في العراق حتى بدأت النعرة الشعوبية في الظهور، كما بدأت التوجهات الدينية والتقسيمات المذهبية تمارس هي الاخرى دورها الذي ينتقص من مفهوم العروبة ويقف على أرضية مختلفة في ظل دولة تمثل "فسيفساء" عرقية و"موزاييك" سياسية. - ثالثاً: إن غيبة المد القومي طوال فترة الحكم "الصدامي" عندما كان التركيز منصباً على هيبة الزعيم الأوحد مع نفور من أية شراكة سياسية يحتل فيها زعيم آخر مكاناً في ميادين العراق أو شوارع مدنه، ان تلك الغيبة التي وصلت الى حد الاستخفاف بالزعامات القومية عندما منع النظام العراقي السابق في مستهل عهده بالحكم جماهير شعبه من التعبير عن حزنهم عندما فقدت الأمة العربية واحداً من زعمائها البارزين وهو الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، لقد تكرست خلال العقود الاخيرة توجهات نحو العزلة كانت تشد العراق بعيداً عن أمته ليبدو كياناً وحيداً يعاني فيه شعبه من كل أسباب الضغط والبطش والقهر. ولا زلت أذكر أن صدام حسين كان يتعامل مع رؤساء وملوك "مجلس التعاون العربي" وكأنه زعيم الأمة أو هو رئيس فوق الرؤساء، إنها نعرة استعلاء أحاطت الشعب العراقي بسياج من الوهم الذي عزله عن التيارات القومية الحقيقية ووضعه داخل ستار حديدي استمر لسنوات طويلة. - رابعاً: إن العلاقات العراقية - الكويتية تحتاج هي الأخرى إلى ترميم، بل ربما إلى ما هو أكثر من ذلك، فالنظام العراقي السابق ارتكب جريمة غزو الكويت وحقن الأجيال الجديدة من شعبه بأفكار ليست لها صلة بالمشاعر القومية والتضامن العربي، بل إنه ضرب الفكرة القومية ذاتها في مقتل وأساء الى العمل العربي المشترك إساءة بالغة حتى كان الفلسطينيون هم أول من دفع جزءاً كبيراً من قيمة "الفاتورة" باهظمة التكاليف التي عانت منها القضية العربية الأولى في السنوات الاخيرة، ونحن نتطلع إلى علاقات عراقية - كويتية بل وربما علاقات عراقية خليجية تبرأ من آثار الماضي ولا تعاني من عقده ولا تتحمل أوزاره. فالشعوب المتجاورة يجب أن تتعايش بروح حقيقية والتزام متبادل مع احترام للحدود الدولية والكيانات السياسية، وهنا أظن أنه يبقى على الأخوة الكويتيين عبء كبير من العمل السياسي والتواصل الأخوي مع الشعب العراقي لأن الصورة المشوهة التي غرستها الأحداث الاخيرة قد جعلت الكويت ظلماً وكأنه المتحمس المستمر للتدخلات السياسية والعسكرية في العراق. - خامساً: إن سقوط النظام العراقي قد أدى إلى سقوط حزب "البعث" الذي ظل يحكم في بغداد ما يقرب من خمسة وثلاثين عاما متصلة وهو ما يعني ايضاً سقوط بعض الشعارات القومية ولو من الناحية النظرية على الأقل حيث كانوا يقولون للعراقيين إنهم ينتمون إلى "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، فسقوط الجناح العراقي لحزب "البعث" قد ادى الى فراغ سياسي في المشرق العربي رغم تسليمنا بالخلافات العميقة بين جناحي الحزب في بغداد ودمشق عبر العقود الاخيرة. ولقد أردت من هذه النقاط الخمس أن أوضح في جلاء أن عروبة العراق مهددة وأن هناك احتمالات لا تزال قائمة في أن ينفرط عقد انتمائها القومي ولو الى حين، لذلك قد لا يدهشنا مثلاً لو أن الولاياتالمتحدة الاميركية دفعت حكومة عراقية موالية الى توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل بصورة قد تزيد من الضغط على الشعب الفلسطيني الباسل وتضيف الى خطايا النظم العربية ذنباً جديداً، فالعراق الذي خرج من سنوات حكم ديكتاتوري ثقيل أصبح مهيئاً لتغيرات كبيرة قد تبدو تكاليفها باهظة في وقت يحتاج فيه العراقيون الى الاستقرار الضائع والأمن المفقود والحياة السياسية السليمة، وإذا كان العراق يمثل لنا البوابة الشرقية لأمته العربية فإنه يبدو الآن أشد ما يكون حاجة الى الدعم المادي والمعنوي من كل اشقائه والوقوف معه بصورة موضوعية ليس فيها مزايدة أو تقاعس ولكنها تعكس روح التعاطف الشديد الذي نشعر به جميعاً تجاه ذلك الشعب الذي انتقل من حرب الى غزو الى حصار. إن عروبة العراق ستكون موضع اختبار حقيقي وهو ما يلزمنا بأن نعطيه بقدر ما أعطى لأمته العربية حضارة وتراثاً أو فكراً وثقافة، فأرض الرافدين بوتقة انصهار "الآشوريين" و"البابليين" ومستودع حضارة "حامورابي" ومسرح دور "جلجامش" هي أرض خصبة لم يتوقف عطاؤها الضخم منذ فجر التاريخ، فهي بلد الشعراء وموطن الأدباء ومزار العلماء، وإذا كنا نقلق دائماً على عروبة السودان من المد الأفريقي القادم من جنوبها فإننا نقلق الآن على عروبة العراق من الوجود الأجنبي في قلبها، وما قمنا به في هذه السطور هو طواف سريع حول العراق بشيعته وسنته، بعربه وكرده، بمسلميه ومسيحيه، بل والتركمان أيضاً فيه، بحثاً عن مظلة واقية للهوية العراقية لا نكاد نجد لها أفضل من الاعتصام بالعروبة في هذه الظروف الصعبة والقلقة والغير المسبوقة، لذلك لا يجب أن يغب عن أذهاننا ان الاحتكاك الذي يحدث حالياً بين الشعب العراقي والقوات الاميركية إنما هو تعبير عن شعور برفض الاحتلال الاجنبي والتمسك بالهوية الوطنية والإحساس بالمأزق التاريخي الذي تعاني منه المنطقة كلها، من هنا فإن التعجيل بقيام حكومة وطنية عراقية سيكون ضماناً سريعاً لصيانة الهوية العراقية وحماية دولة العباسيين التي ما سقطت الا لتنهض، وما احتلت الا لتقاوم حتى تغلبت على كل الصعاب والفتن والمحن منذ عصر "الحجاج" الذي قطف الرؤوس إلى حكم عبد الكريم قاسم الذي تجري محاولات أخيرة لرد الاعتبار إليه مروراً بالضربة الدامية التي وجهها "هارون الرشيد" للبرامكة أو الاجتياح التتري الكاسح لبغداد عندما أحال الإسراف في سفك الدماء مياه دجلة الى اللون الأحمر القاني!.. إنها ضربات قدر، وآلام شعب، وعذابات أمة. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.