تستند "أطروحة" هذا المقال، والمقال الذي سبقه في عنوان "تقسيم العراق... الهاجس المستحيل" 14 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، إلى أن تقسيم العراق كيانات ودويلات مستقلة ومنفصلة قائمة بذاتها يعتبر في حكم المستحيل، وإن كانت الخشية من ذلك، عراقياً وعربياًً وربما إقليمياً ودولياً على أشدها. كما أن "الرغبة" في "انجاز" ذلك، إسرائيلياً وصهيونياً، على أشدها كذلك! فالصراع الدموي العنيف في العراق سيستمر ضد الاحتلال، وكذلك بين الأطراف المختلفة على الساحة العراقية، لوقت قد يطول ونخشى أن تعود المصداقية الى ترسب تراثي سياسي عربي قيل قديماً من واقع التجربة: "سلطان غشوم ولا فتنة تدوم". إلا أن استمرار السلطان الغشوم في حكم العراق لأكثر من ثلاثين عاماً لم يمنع حدوث الفتنة أخيراً! وقد يقع التقسيم في العراق كأمر واقع لبعض الوقت، لكن يستحيل تحوله إلى حقائق كيانية وسيادية كاملة ودائمة. الفيديرالية ستكون مطروحة وقد تمثل مخرجاً... ومعالم الحل الذي نراه ممكناً سنعرض لها، والحديث عن عقد "المؤتمر الدولي بشأن العراق" في القاهرة أواخر تشرين الثاني نوفمبر المقبل يتزايد، وربما أصبح "تاريخياً" إذا نجح المجتمع الدولي في إعادة تجميع عناصر الصورة العراقية المتشظية. وكمنطلق لهذا "التجميع": ففي "الحالة العراقية" ثمة "فيتو" اقليمي شامل وجامع ضد إقامة دويلة كردية شمال العراق، مهما شجعتها اسرائيل وأغرتها بذلك. وليس للعراقيين والعرب بعامة أي مصلحة في استعداء مواطنيهم الأكراد، والمفروض أن يعيدوهم إلى صفوفهم في إطار الفيديرالية والتعايش الكريم والمصير الحر المشترك على أن تدرك القيادات الكردية في العراق، أنه ما دامت دول جوارهم الأخرى غير مستعدة للبحث حتى في حكم ذاتي لهم، فإن انفصالهم عن العراق عملية انتحارية، وهو أول بلد يمنحهم "حكماً ذاتياً" في بداية حكم البعث، وإن جاء ذلك بمواصفات حكم صدام حسين، عليهم وعلى عربه أجمعين! ... حيث كان الظلم بالسوية "عدلاً" في الرعية ...! وربما يأتي التغلغل الإسرائيلي في كردستان العراق دليلاً على أن ثمة "ثوابت" في المنطقة دخلت باب المتغيرات، وأعني بذلك التحالف التركي - الإسرائيلي الطويل الأمد، الذي لن يبقى على ما كان عليه مع هذا الاختراق الإسرائيلي المرشح لأن يصبح سرطاناً أمنياً وسياسياً في تركيا ذاتها، فضلاً عن ايران وسورية اللتين يشمل كيانهما مناطق كردية. هكذا فإن أي حركة كردية للإنفصال والاستقلال التام عن الكيان العراقي ستحاربها تركيا بعنف بتأييد ايراني وسوري، وكلها دول جوار. وهذا الاعتبار بشأن كردستان العراق يحمل في طياته بالتالي "حظراً" على أي تقسيم آخر، فللحيلولة دونه لا بد من إبقاء الأجزاء العراقية الأخرى متماسكة، إن لم يكن مركزياً فضمن إطار فيديرالي موحّد. هذا إذا افترضنا جدلاً أن وسط العراقوجنوبه يملكان إمكان التحول إلى كيان سيادي منفصل تماماً، وذلك في تقديرنا غير وارد وليس ممكناً. فوسط العراق بما فيه بغداد لن يستطيع العيش بمفرده لصعوبة مداخله ومخارجه، كما أن الشمال والجنوب لن يستغنيا عنه وهو لن يستغني عنهما لضآلة موارده وكثرة أعبائه، بخاصة العاصمة بغداد، كما أن تكوينه التاريخي والسياسي لا يتضمن نزعات "انفصالية"، و"استقلاله" يعني انه سينسف الكيان العراقي بأكمله ويقطّع أوصاله نظراً لموقعه المركزي وكونه حلقة الوصل بين جنوبالعراق وشماله، فضلاً عما يحمله من تخويف لجواره السني وغير السني، واللوحة "الدموية" القائمة بين القوات الأميركية ومقاتلي الفلوجة وسامراء وما حولهما مردها إلى إصرار أهالي الوسط العراقي على معرفة موقعهم من الإعراب في الصيغة العراقية الجديدة بعد صدام - وهذا حقهم - بخاصة عناصر "البعث" من المواطنين العاديين والعسكريين وأفراد "الأمن" العراقيين الذين لم تكن لهم حيلة في ما جرى في بلدهم في ظل الدكتاتورية ثم في ظل الغزو الأميركي. وعلى خطورة ما يحمله احتمال انفصال الشمال أو الوسط، فإن خطورة انفصال الجنوبالعراقي هو ما يتطلب الوقوف عنده، والتأمل فيه ملياً. يرى كثير من المراقبين - في ظل ما يتوارد عن تسلل عناصر ايرانية - أن الجيب الشيعي في جنوبالعراق، إن فكّر في الانفصال والاستقلال فسيعرّض نفسه لاحتمالات هيمنة ايرانية لا يرضاها الشيعة العرب لأنفسهم وكذا مرجعية النجف، برصيدها العروبي التحرري المشهود، فضلاً عن تحفظها بمرجعياتها العربية وغير العربية حيال "ولاية الفقيه"، بين قضايا دينية حيوية أخرى، تختلف فيها فقهياً وفكرياً عن المرجعية الرسمية في ايران. ومن الجانب الإيراني فإن أغرت طموحات الهيمنة المذهبية والفارسية بعض الأجنحة التي لم تحسم موقفها، بعد، بين خط "الثورة" وخط "الدولة المسؤولة"، فإن القيادة الايرانية بعامة أظهرت من الحنكة والحكمة السياسية حيال اضطرابات أفغانستان وآسيا الوسطى والخليج، ما يدل على أنها أنضج من أن تورط بلادها ونفسها في مستنقعات الجنوبالعراقي، وما أكثرها!... وهو تورط قد يوفر المبرر الذرائعي لضرب ايران عسكرياً من قبل الولاياتالمتحدة نيابةً عن إسرائيل! ... وإذا كانت القيادة الايرانية احتوت قبل سنوات بانضباط لافت جيشان الشارع الايراني للتدخل ضد "طالبان" في أفغانستان رداً على مذابح الشيعة وبخاصة افناء البعثة القنصلية الايرانية بأكملها هناك، فلا نرجح تورط ايران في جنوبالعراق لخلق صراع مكشوف بين التشيع العربي والتشيع الفارسي وبين حوزة النجف وحوزة قم في نهاية المطاف، وهو صراع حتمي إن حدثت الهيمنة واتضحت تناقضاتها، وإن بدا الأمر اليوم خافياً ومغلفاً باغراءات الطموح والتضامن المذهبي غير القائم على مبدأ تبادل المصالح المعتمد في سياسات العصر، ولن يكون ثمة بديل إلا التعايش الحضاري بين القوميتين الفارسية والعربية وبين جمهورية ايران وجمهورية العراق في الإطار الشيعي والاسلامي والانساني. وثمة تجربة لمئات الآلاف من العراقيين العرب الشيعة الذين اضطرتهم سياسات النظام العراقي السابق للجوء إلى ايران، فتصوروا أنهم يلتحقون ب"الحلم" الإسلامي بحسب انتمائهم إليه. لكنهم بقوا هناك عقوداً من الزمن تحت رحمة "لاءات" ثلاث: لا تجنيس، ولا توظيف، ولا تزويج! الأمر الذي دفع أكثرهم الى هجرة ثانية... من ايران هذه المرة، وهي تجربة مؤداها: ليس بالرابطة المذهبية وحدها يحيا الانسان وتحيا الأمم، وسيكون لفائدة الجميع الإنصات بعدالة إلى شهاداتهم وتجربتهم مع إخوانهم من شيعة ايران وسلطاتها لأنها بالغة الدلالة. فلا شيء يعدل الوطن... حتى الملاذ "المذهبي"! ثم إن أي تأييد ايراني لانفصال الجنوبالعراقي سيحرض كردستان على الانفصال. هكذا ستضع ايران نفسها في ورطة الخيار بين مستقبل منطقتها الكردية -إذا دعمت قيام دولة كردية في شمال العراق - أو دعم منطقة عربية شيعية لا تنتمي إليها وتتناقض ولاءاتها معها. وكما أسلفنا فالقيادة الايرانية لا تبدو أنها في وارد مثل هذه المغامرات السياسية الإقليمية، بينما أولويات أمنها القومي تتعرض للتهديد والرصد الدقيق لأول إشارة تنتظرها شاشة الكومبيوتر الإسرائيلي والأميركي للتحرك ضدها، وبعض المصادر تتحدث عن احتمالات "صفقة سياسية" بينها وبين القوى الدولية، وفي مقدمها أميركا، لمقايضة مشروعها النووي بضمانات مستقبلية بعدم التعرض لنظامها السياسي، وإن يكن ذلك من "البالونات" التي من المفيد للمرء أن يسمع بها،من دون ضرورة تصديقها، أي أن يضعها في خانة: "صدق أو لا تصدق"! تبقى ملاحظة أخيرة للجارة الحكيمة ايران لا بد من التفكير فيها بصوت مسموع، وهو ما يروج له البعض لديها من أن قيام عراق ديمقراطي حر سيمثل خطراً على نظامها الديني. إن كان ذلك "خطراً" فمواجهته ستكون بتطوير النموذج السياسي والفكري بخاصة الفقه الاجتهادي الايراني ليصبح قدوة. ونعتقد أنه يملك إمكانية ذلك إذا امتلك الإرادة السياسية. فالعبرة بتقديم البرهان الحي المقنع قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. والنظام الشيوعي في شرق أوروبا لم تسقطه دبابات حلف الأطلسي بقدر ما هزّه "النموذج الجذاب" في أوروبا الغربية... ولمثل هذا فليتنافس المتنافسون... من دون استيراد حرفي بطبيعة الحال، للأفكار والنظم... ولا يسمح مجال هذا الحيز إعادة رسم تلك الصورة المشعة لفكر التشيع الحديث ومدى إخصابه للفكر الإسلامي السني بعامة، سواء في ايران أو العراق أو لبنان، لكن العودة إلى اجتهادات شيوخ النجف منذ مطلع القرن العشرين وكذلك إلى الأفكار المذهلة في تطوير عقائد التشيع كما طرحها منظر وممهد الثورة الإسلامية في إيران المفكر الرائد علي شريعتي، إن كانت الدوائر الرسمية الايرانية ما زالت تقبل بها، من شأنه أن يعطي ملمحاً للآفاق الرحبة لامكانات التعايش الخلاق بين التشيع الايراني بتراثه الخصب والتشيع العراقي والعربي برؤاه المتميزة. وتكفي الإشارة إلى أن المفكر المناضل جمال الدين الأفغاني، الشيعي أصلاً، السني انفتاحاً وتفاعلاً، لم يجد حرجاً في مصالحة نشأته الشيعية مع دوره ومجاله السني النضالي الواسع في العالم الإسلامي. كما أن عباس محمود العقاد، ممثل العقلانية السنية التوفيقية المنفتحة على تراث التشيع العقلي والعلمي، لم يجد في توفيقه بين أفكار نظرية "التطور" الحديثة والإشارات القرآنية الكريمة إلى موضوعها أفضل من كتاب العلامة الشيخ محمد رضا التقي الأصفهاني الذي وصفه العقاد بأنه "باحث فاضل من علماء الشيعة بكربلاء المعلي"، والكتاب بعنوان "نقد فلسفة دارون، طبع بغداد، عام 1914 أي قبل توجهات العقاد للتفاعل الفكري مع هذه الفلسفة بأكثر من ثلاثة عقود الأمر الذي يشير إلى أسبقية الفكر الشيعي الحديث إلى مثل هذه المستجدات في فكر العالم وخسارة العودة به إلى الوراء. للمراجعة كتاب المؤلف: الفكر العربي وصراع الأضداد، فصل "تجاذبات الفكر الشيعي بين عقلانية عربية وعرفانية فارسية". والخلاصة الثابتة أنه لن يكون حضور فاعل للإسلام والمسلمين في هذا العالم إلا باستئناف حوارهم الاجتهادي بين مذاهبهم وطوائفهم قبل كل شيء. ومطالبتنا لايران الإسلامية الشقيقة اليوم لقبول التعايش مع شيعتنا عرب العراق والوطن العربي كله تتضمن الدعوة لمذاهب السنة للحوار الاجتهادي ذاته. أقول السنة، ولا أقول الجماعة وإن كانوا هم غالبية المسلمين والعرب، لأن "الجماعة" لن يكتمل جمعها ويلتئم شملها إلا بشيعتها، ومن الإنصاف أن نتذكر أن الامام الحسن بن علي كان بطل "عام الجماعة" في تاريخنا! والمرجو أن يكون هذا الدرس واضحاً لأمراء الحرب ومشايخ التقسيم وغيرهم من النافخين في نار الفتنة على امتداد عالمنا الاسلامي كما نرى ونشاهد. فأصحابه لن يجنوا من وراء محاولته غير الحصاد المر والحنظل المسموم، وسيعرضون أبناء مناطقهم وأبناء جلدتهم اللصيقة بهم في العراق بالذات قبل غيرهم لآلام الصراع وجراح الاستئصال. وسيعودون لاحقاً للبحث عن كيان وطنهم الموحد، كما فعل ويفعل اللبنانيون وغيرهم في تجارب مماثلة. وها هم الصوماليون يعيدون ترميم الوطن وهم يتجمعون خلف حدوده. والنقد الذي يوجه اليوم لتيار مقتدى الصدر لانخراطه في العملية السياسية، وإن تكن له مبرراته الآنية في اللحظة الراهنة، فإنه غير وارد على المدى الطويل لصالح الوحدة الوطنية في العراق وصالح وحدة الكيان العراقي في الصميم. ولعل حث آية الله علي السيستاني الناخبين العراقيين على تسجيل اسمائهم للإنتخابات، هو المؤشر المشجع على إمكانية استيعاب مرجعياتنا الدينية للديمقراطية بمفاهيمها المكتملة، مع الحرص على تميز وظيفة السياسة عن غايات الدين وهو ما يجب أن يدركه الوعي الإسلامي العام وسنعود إليه في بحث مقبل. أياً كان فإن ذلك مما يحدو المخلصين، سنة وشيعة، للتطلع إلى قيام تعايش خلاق ومتحضر بين مدرسة التشيع في ايران الاسلامية وتيارات التشيع المتحرر في العالم العربي وفي طليعته النجف الأشرف. فهذا لن يمثل فقط انتصاراً للتسامح والحرية والابداع الفكري الاجتهادي لدى شيعة الاسلام وإنما لدى شعوبه قاطبة، هكذا نشعر باخلاص من البحرين، في قلب الخليج، في ظل مشروعنا الإصلاحي، الذي قارب، بحرص ملكها المصلح، بين كل مدارس الاجتهاد الإسلامي من دون تمييز... وذلك هو الاختبار، وتلك هي القوة "النووية" التي لن يستطيع حظرها مجلس الأمن ولا قواه الكبرى ولا أي "استكبار" عالمي سواء على ايران الإسلامية أو اخوتها من المسلمين كافة... ولله الأمر من قبل ومن بعد. * كاتب ومفكر من البحرين.