دعوة السيد عبدالعزيز الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، لتكوين فيدرالية تضم تسع محافظات شيعية في جنوب ووسط العراق، عشية مناقشات مسودة الدستور العراقي الجديد، وخطاب السيد هادي العامري أمين منظمة بدر الشيعية العسكرية، الذي برر فيه مثل هذه الفيدرالية.. ينقل مسألة الحديث عن مخاوف تقسيم العراق إلى كانتونات طائفية من مستوى الهاجس إلى مستوى الدعوة.. ومن مستوى القلق من الإعلان عن تلك الرغبة الدفينة إلى مستوى العمل لها علانية.. وممن؟ من قوى تُشارك اليوم في صُنع مستقبل العراق. وكونها الدعوة تصدر عن سياسي وقيادي مثل السيد عبدالعزيز الحكيم، لا يعني انها قد تعبر فقط عن رؤية السيد الحكيم أو منظمة بدر التابعة للمجلس الذي يرأسه الحكيم.. إن الدلائل ما زالت تُشير أمام هذا الصمت الذي لزمته القوى السياسية والدينية الشيعية في العراق وعلى رأسها آية الله السيستاني انها ربما كانت تخويلاً بالنيابة للحكيم ليعبر عن رغبة شيعية دفينة تجد اليوم في الدستور الوليد الذي تناقش مسودته الجمعية الوطنية هذه الأيام فرصة لتثبيت مشروع فدرلة العراق، إنه تعبير شئنا أم ابينا عن توجه في غاية الخطورة يستهدف ما هو ابعد من فيدرالية، ويتجاوز مفهوم اللامركزية الإدارية إلى مستوى الإقرار بمشروعية التقسيم الفيدرالي/الطائفي والعرقي. هل كانت أحلامنا بعراق حر وموحد وديمقراطي ضرباً من الاستغراق في الوهم اللذيذ؟ هل قدر لعراق يخرج من حصار نظام ديكتاتوري عشائري وعصبوي، ليقع في حصار ميليشيات وطوائف واثنيات كلها تعمل على استغلال الوضع الحرج في عراق اليوم وكلها تتسابق على إقرار مسودة دستور ظاهره الرحمة وباطنه الإقرار الدستوري بحق تلك الطوائف بالفيدرالية/الانعزالية، وتوزيع الثروة والنفوذ تمهيداً لسيناريوهات التقسيم الذي كان محرماً مجرد الحديث عن هاجسه، فإذا هو اليوم أمرٌ واقع تحت ذرائع الفيدرالية وحماية حقوق الطائفة ورفع الظلم التاريخي عنها وقطع الطريق على وجه استبداد جديد!! انها انتكاسة الطوائف لتبحث عن وجهها في كانتونات اثنية وعرقية ومذهبية.. وما يستتبعها من صراعات قادمة.. أين ذهبت إذن فكرة العراق الديمقراطي الموحد بعد عملية الاقتراع التي قدمت الائتلاف الشيعي كشريك أساسي وقوي في إقرار مستقبل العراق.. هل سنترحم بعد إقرار سيناريوهات الفيدرالية الطائفية والاثنية والمذهبية على حكم العراق البائد!!.. وهل قدر العراق أن يخرج من قبضة دكتاتور ليقع ممزقاً في قبضة الطوائف والملالي الذين يتوسلون وجه المحرومين من أبناء الطائفة أو أولئك الشعبويين من غير العرب الكارهين اليوم والمناوئين لوجه العراق العروبي. ما هي القوى اليوم التي تحدد مصير العراق؟، تنطوي على إجابة هذا السؤال كثيرٌ من الأسئلة المعلقة هو هوية العراق وشكل الكيان ومستقبله، وليس العراق فحسب بل المنطقة برمتها.. علو صوت الطائفة والأقليات في المنطقة يفسر هذا التوجه الذي يخشاه أي وحدوي أو وطني يتطلع إلى كيانات أكثر إنسانية وأكثر اقتراباً من شكل الدولة الديمقراطية الحديثة، لكن أمام خيارات الكانتونات الطائفية والمذهبية والعرقية والنزعة الشعوبية الكارهة للعروبة والمناوئة لها.. حتماً سيقف إلى جانب كيانات القبضة المركزية وحتماً سيختار أخف الضررين، فضرر الدكتاتورية والاستبداد أرحم من ضرر التقسيم والتشرذم والاحتراب.. الأولى تتفكك تدريجياً لصالح حركة التاريخ التي تقاوم الاستبداد والاستحواذ وهي حركة متقدمة مهما بلغت الممانعة، والأخرى تتدرع تاريخياً بمستقبل الطائفة والعرق وتخلق لها علاقات حماية وانتداب دولية تجعل إعادة صهر الشعوب في المنطقة في كيانات اوسع ولها قابلية الحياة اصعب بكثير من محاولة تفكيك دعائم الاستبداد. ولذلك على الذين يراهنون على التغيير عن طريق التفكيك أن يدركوا انهم بهذا يساهمون في إدخال المنطقة إلى دويلات الطوائف والقبائل والاثنيات.. وانهم يخلقون كانتونات مناوئة لبعضها، ولديها كامل الاستعداد للتحالف مع كل أعداء الكيانات الكبرى لصالح كيانات الطوائف.. انها سياسة تقسيم المقسم تاريخياً، وتفتيت المجزء منذ الحرب العالمية الأولى.. انها خنادق في جسد أمة كانت تراهن يوماً على الوحدة الكبرى، فإذا بها اليوم تتفتت من كيانات التقسيم لصالح كيانات الطائفة والأعراق وتحت حراب الحماية الدولية وهيمنتها ولصالح مشروعها. إن هذا القلق على مستقبل العراق له ما يبرره أمام هذه الدعاوى التي تحرك شعور الغبن الطائفي والمذهبي والعرقي، كان الحديث عن مشكلة كردية ترفض الوجه العربي أو الإسلامي للعراق وتصر على تقسيم الثروة. واقتطاع منطقة كركوك الغنية بالنفط، وتحافظ على جسدها العسكري الممثل بالبشمركة، وتصر على استغلال وضع العرب المشتت والضعيف وتستقوي بالعامل الخارجي.. وإذا بنا أمام دعوات قيادات تُشارك في السلطة العراقية اليوم لا تتورع أن تطرح مشروع الفيدرالية بحجة حماية الشيعة العراقيين المستضعفين وكأن العراق لم يكن مشروعاً للاستضعاف بكل طوائفه وكأن العرب الشيعة والسنة لم يذوقوا من جور النظام السابق وكأن ثمة فروقاً طبقية تجعل وحدة العراق التراب والوطن رهناً بفيدرالية تخفي تحتها أهدافاً بعيدة المدى ولن تكون في نهاية المطاف سوى قميص عثمان الذي تتوسله الطوائف ليقرر شكل عراق ما بعد الفيدرالية. القوى الفاعلة في عراق اليوم أصبحت خريطتها أكثر وضوحاً، الولاياتالمتحدةالأمريكية التي لم يكن سقف توقعاتها لعراق حر وديمقراطي وموحد سوى وهم وخيال وقع الكثيرون في شركه، ولا يمكن فهم دعوة الحكيم للفيدرالية في الجنوب والوسط الشيعي سوى من خلال فهم علاقة إيران بتطورات المشهد العراقي، وإذا كان يمكن قراءة هذه التطورات كنوع من التحالف مع إيران لتخفيف ضغوط الولاياتالمتحدة عليها بسبب مضي إيران في مشروعها النووي بما يشبه التهديد المبطن بقدرة القوى الشيعية في الجنوب والوسط على اربكاك المشروع الأمريكي في العراق الذي تعطلت الكثير من تفاصيله بسبب المقاومة المستعرة في المثلث السني وأصبحت حجم توقعاتها لمنجزاتها في العراق أقل بكثير من المتوقع - كما تصرح اليوم - لكن هذا النوع من التحليل يتجاوز بضعة مؤشرات تذهب إلى أن المعلن على السطح الإعلامي يخفي تناقضات في العلاقة الإيرانية - الأمريكية، فلا يوجد دليلٌ واحد على ممانعة إيرانية لمشروع أمريكا في العراق وظلت القوى السياسية الشيعية الفاعلة والمؤثرة في المشهد العراقي تعمل على تحقيق تفاصيل هذا المشروع منذ كان حبراً على ورق وخططا في أروقة البنتاغون والخارجية الأمريكية ولم تقف إيران من عملية التغيير في أفغانستان أو العراق موقف الحياد، بل إن الدعم اللوجستي الذي قدمته لهاتين العمليتين الكبيريتين يصل إلى حد التنسيق.. وكل الجعجة الإعلامية المناوئة للمشروع الإيراني تحيطها كثيرٌ من الشكوك وتجعل من الوهم يصور أن مشروع التغيير في إيران هو هدف أمريكي مرتقب. كان لإيران مصلحة في إزاحة نظام طالبان وإسقاط نظام صدام حسين، لكن موقف إيران من العملية السياسية في العراق اليوم أصبحت مكشوفة، ورسالة الحكيم تعني الكثير، فهي ليست مجرد دعوة فيدرالية لتسع محافظات من الجنوب والوسط تقطنها الغالبية الشيعية لاستنقاذ محروميها.. انها مؤشر أيضاً على إمكانية إقامة تحالف بين هذه الفيدرالية وإيران المذهبية.. انها أيضاً إشارة تحمل دلالات أن ما عجزت إيران الخمينية عن تصديره ساهمت الولاياتالمتحدةالأمريكية بغزوها للعراق في تحقيقه.. وهي أيضاً تحمل دلالات على أن مجهود مقاومة الإرهاب في العراق أو ما سمي إرهاباً يحمل تخويلاً مفيداً لقادة الفصائل الشيعية فهو يعطيها مبرراً لحماية الجنوب والوسط ذي الأكثرية الشيعية من ويلات هذا العجز في مقاومته عبر التدرع بفكره الفيدرالي. هل كانت فيدرالية الطوائف والاثنيات العرقية هي مخطط أم نتيجة؟ الواضح اليوم أن العملية الانتخابية التي تشكلت على أثرها الجمعية الوطنية، والتي هلل العالم لشفافيتها والتي شارك فيها بكثافة 8 ملايين ناخب، هي كانت تعبيرٌ عن توجه كتل سياسية مؤثرة في المشهد العراقي، فالمجموع الكردي يُدرك أن هذه المشاركة كانت حاسمة في المرحلة التي تليها وهي إقرار الدستور - الوثيقة الرسمية والمعترف بها دولياً والتي تعطي لكردستان شبه المستقلة صفة الاعتراف الدولي وإن بقي سياسياً ضمن مكونات العراق المثخن - والكتلة الشيعية تُدرك حتماً انها مرحلة مهمة ونافذة لإقرار مشروعها.. أي أن العملية الديمقراطية التي بدأت بالانتخابات التي لا يشك في تغييرها عن حجم الكتل المشاركة فيها، ليس بالضرورة أن تكون هدفاً نهائياً لموجهات الناخب، وهي موجهات عاطفية بالدرجة الأولى تتوسل وجه الطائفة أو العرق والمظلومية التاريخية التي أصابتها ليس فقط من نظام صدام حسين بل وتنسحب عن فترة الحكم السني للعراق.. فالمشاركة الواسعة في العملية الانتخابية كانت تقوم على دعامتين، في المنطقة الكردية عبر ضخ حُلم المشروع الكردي المستقل الذي تتأسس ملامحه عبر إقرار دستور مبكر يعطي للاكراد الحق في التمتع بكل ميزات الاستقلال ومعترف فيه دولياً، ومن جهة أخرى كانت المرجعية الشيعية الممثلة بآية الله السيستاني المؤثر الأكبر في حشد الكتل البشرية من أبناء الطائفة لاقتطاع نصيب يجعلها الشريك الأكبر في السلطة ومن ثمَّ في إقرار الدستور العراقي الجديد. ومن المقلق حقاً أن يكون الدعم الكبير الذي شهدته العملية الانتخابية التي جاءت بالجمعية الوطنية العراقية هو الوسيلة القانونية لإضفاء المشروعية على دستور الفيدراليات، وأمام علو صوت مشروع فيدراليات الأعراق والاثنيات والطوائف تصبح الديمقراطية الحقيقية التي تصهر كل تلك الاثنيات في جسد عراق واحد حُلماً بعيد المنال. ما زال المشهد العراقي يحبل بالكثير ويلد المفاجآت.