لا يجتمع عربيان إلا ويكون ثالثهما سؤال حائر معلق في سماء المجهول، وهو: أي مستقبل للعراق؟ وبعده تكر سبحة الأسئلة المعقدة: هل سيبقى العراق موحداً؟ هل ستقع حروب أهلية وطائفية وعرقية؟ هل سينهض العراق من محنته ويبني دولة واستقراراً وأملاً لشعبه؟ هل سينسحب الأميركيون؟ هل ستستمر المقاومة وتتصاعد لتشمل قطاعات أوسع من الشعب العراقي بأطيافه وطوائفه كافة؟ هل سيحاكم صدام حسين أم سينتحر أو يصفى قبل محاكمته حتى لا يكشف الأسرار، وينكشف "المستور" والمخفي أعظم؟ هل ستمتد نيران العراق إلى دول الجوار لتحمل إليها مخاطر لا نهاية لها؟ وكيف ستتصرف هذه الدول قبل فوات الأوان؟ هل هناك من مخرج أو حتى بصيص أمل؟ وما هي مسؤوليات العراقيين والعرب ودول الجوار بالذات في انقاذ العراق واطفاء لهيب نيرانه الحارقة؟ وهل المطلوب أن "يحلق" العرب ذقونهم ورؤوسهم وربما عقولهم قبل أن "يحلق" لهم الآخرون؟ وهل صحيح أن عليهم أن لا يخجلوا من "استقدام" القوات الأميركية ل"تقيم" في أراضيهم... ربما إلى الأبد؟!! هذه الأسئلة المحيرة تعبر عن بعض ما يحمله العراقيون بصورة خاصة والعرب عموماً من هموم ناجمة عن تطورات العراق وانعكاساتها ومخاوفهم من مخاطرها وقلقهم ليس على مستقبله فحسب، بل على مجمل الوضع العربي، مجموعات ودولاً وشعوباً، وهي أسئلة مشروعة في ظل الغموض الذي يكتنف الأحداث ويغلف الموقف الأميركي المضطرب والمشوش وانقسام أبناء الشعب العراقي حول شكل المرحلة المقبلة وصورة المستقبل وأسئلته المرتبطة به وكأنها أحجية صعبة الحل أو أمثولة من دروس الصحافة المبدئية الأولية التي تستوجب تدبيج مقدمة تتضمن أجوبة محددة حول كيف وأين ومتى. وهناك مثل ألماني يقول إن الحروب تخلف وراءها ثلاثة جيوش: العاجزين والباكين والسارقين! وأضيف عليها جيوش المستغلين والعملاء وأصحاب المصالح والانتهازيين ودعاة الفتن وإثارة النعرات الطائفية والعنصرية وقواها التي تتحالف في ما بينها لتشكل ميليشيات تسرق المشهد كله وتجيره لحسابها لتحتكر السلطة في المستقبل وتسيطر على البلاد والعباد. وقد تابعنا تداعيات ومراحل حروب عدة، وعشنا فصول بعضها كاملة مثل الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت بشرارة مفتعلة وتحولت إلى حروب عربية ودولية وطائفية ومذهبية واحتلال إسرائيلي وتحالف ميليشيات تحكمها قوانين شريعة الغاب حيث البقاء للأقوى والأشد شراسة وتعصباً وليس للأصلح والأطهر والأكثر وطنية. ولهذا يخشى الجميع على العراق ومستقبله ووحدته الوطنية في ظل وجود جيش الاحتلال الأجنبي وعدم وضوح الرؤية ومحاولة زرع بذور الفتن بعد عقود من الديكتاتورية والظلم والحروب الطاحنة التي دمرت البشر والحجر والحصار الذي دام أكثر من عشر سنوات وانتهى بحرب اسقطت النظام وتركت الشعب حائراً بلا قيادة ولا حكومة ولا جيش وطني يحميه ولا أجهزة تكفل له الأمن والأمان. ولو نظرنا إلى الواقع المزري الحالي لأدركنا بأنه ما من أحد، حتى الرئيس جورج بوش والمجموعة التي حرضته على غزو العراق، يملك القدرة على الأسئلة المطروحة أو يجزم في أمر ما، أو يحسم مشكلة قائمة، فكل شيء ممكن وكل الاحتمالات وارد ولهذا يصعب على المحلل والمتابع للمشهد العراقي أن يجيب على هذه الأسئلة، إلا أنه يمكن فتح نافذة صغيرة في جدار الغموض لملامسة الواقع وتحديد الإمكانات والتوقعات، على رغم أن بعضها يبدو في حكم المؤكد وفق معطيات القضايا الرئيسة المطروحة والمثيرة للجدل، وهي على الشكل التالي: 1- دور العراق: يمكن القول، إن لم يكن الجزم، بأن العراق القديم قد انتهى ولن يعود إلى ما كان عليه دوراً ومكانة ونفوذاً وقدرة على التأثير في أمور كثيرة كان يلعب فيها دوراً رئيسياً مثل السياسة النفطية داخل "أوبك" وتحديد معدلات الانتاج والأسعار والسياسة العربية بشكل عام، ولا سيما الصراع العربي - الإسرائيلي. ولا يعني هذا أن دور العراق في عهد الرئيس المعتقل صدام حسين كان مثالياً أو ايجابياً أو فعالاً في هذا الصراع، أو في السياسة العربية، فالعكس هو الصحيح في أحيان كثيرة عندما شق الصف العربي وأحدث شرخاً قبل غزو الكويت وبعده وعندما أضعف الموقف العربي بفتح جبهة بعيدة عن فلسطين في حربه مع إيران، أو في تهديد أمن بعض الدول مثل سورية ولبنان، وفي احراق الثروات العربية نتيجة لهذه السياسات الخرقاء. لكن المقصود هو العراق الشعب والجيش والقدرات والإمكانات الهائلة التي كان يمكن أن يقدمها لأشقائه وللقضية الفلسطينية وللأمن القومي العربي. والمقصود أيضاً: العراق التاريخ والجغرافيا والحضارة الذي كان الظهير القوي والسند المؤثر والخزان الاحتياطي للعرب والمسلمين والدرع الواقي عبر عصور التاريخ، وقد دافع عن قضايا أمته وحمى ظهيرها وشارك في صد هجمات الفرس والروم والتتار والصليبيين، وفيه عاصمة الخلافة الإسلامية والحضارة لقرون عابرة. والواقع الملموس يدفعنا للتخوف على مستقبل هذا الدور وفي الأفق ملامح قرار مشبوه بإلغائه ليس على صعيد الدولة فحسب، بل على صعيد الشعب الذي يتكالب كل محرض ومغرض عليه لإثارة نقمته على العرب والعروبة والترويج لانعزالية بغيضة لم يعرفها هذا الشعب، ولم نعرف عنه سوى الشهامة والوفاء والايمان بدينه وأمته وقضاياها. وربما يحتاج الوقت لمقال آخر حول هذه النقطة، لأن المؤامرة واضحة منذ انتصار العرب في حرب السادس من تشرين الأول اكتوبر ومشاركة العراق فيها وسعيه للحصول على أسلحة نووية. يومها جاء السيئ الذكر هنري كيسنجر ومعه خطة تفتيت العرب وضرب "أوبك" وعزل مصر ثم العراق للاستفراد بالفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، وهذا ما حدث بعد اغتيال الملك فيصل واشعال فتيل الحرب الأهلية اللبنانية بهدف إقامة دويلات طائفية وعرقية حتى تكون لإسرائيل اليد العليا في المنطقة وتملك المسوغات الشرعية والقانونية لوجودها، ثم كرت سبحة الأحداث من كامب ديفيد إلى الحرب الإيرانية - العراقية بعد نسف المفاعل النووي العراقي، ثم غزو الكويت وما نجم عنه وصولاً إلى غزو العراق بحجة تحريره. وعلى رغم أن النظام العراقي يتحمل مسؤوليته كاملة في تنفيذ هذه المؤامرة، وتطوع بعض العرب ليكونوا أدوات طيعة، ومع الاعتراف بفشل جزئي لبعض فصولها، لا سيما في لبنان الذي حافظ على وحدته ونجا من محرقة التقسيم وحرر أراضيه من رجس الاحتلال الإسرائيلي، فإن فصولاً أخرى نشهدها في العراق هذه الأيام ولن تكتمل إلا بتنفيذ خطة توطين مئات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين على أراضيه لرفع الضغط عن إسرائيل. 2- الاحتلال العسكري الأميركي: كل الدلائل يشير إلى أن القوات العسكرية الأميركية لن تنسحب من العراق في القريب العاجل، ودوامة الحديث عن رفض تسليم السلطة للعراقيين قبل الانتخابات العامة تثبت ذلك، إضافة إلى الإعلانات المتكررة بأن الانسحاب لن يتم حتى بعد تسليم السلطة بحجة أن على القوات الأميركية تنفيذ المهمات التي أوكلت إليها كاملة. وهناك شبه جزم بأن الولاياتالمتحدة لن تنهي وجودها العسكري في العراق مهما حدث، وان الانسحابات، إن تمت، لن تشمل سوى المدن، لينتهي الأمر بالتمركز في 3 قواعد عسكرية دائمة في الشمال والجنوب والوسط بعد أن يتم الضغط على الحكومة القادمة لإرغامها على توقيع معاهدة تبيح المحظورات. 3- المقاومة: تتراوح المقاومة المسلحة للوجود العسكري الأميركي بين تصعيد وتهدئة وبين كر وفر. ولا شك أن أسر صدام حسين قد قطع بعض أوصالها وينتظر أن تبذل جهود لإخمادها تدريجاً، إلا أن المعلومات الواردة من العراق تتحدث عن جهات وأطراف عدة تشارك في هذه المقاومة لأهداف مختلفة، وأن التصعيد وارد جداً وقد يأخذ أشكالاً أشد عنفاً وضراوة إذا استمر التدهور الأمني والمعيشي وتكرس الغبن اللاحق بالسنّة والعشائر دوراً وقدرة ووطنية كانت على الدوام مثالاً للتضحية والوفاء. والسيناريو الأسوأ بالنسبة إلى الأميركيين يتمثل في امتداد المقاومة لتشمل المناطق الشيعية التي آثرت المهادنة واستخدام النضال السلمي وتجنب المقاومة المسلحة بناء على فتاوى ونصائح من مراجعها الدينية. فإذا وقع هذا المحظور، وهو غير مستبعد، فإن المستنقع العراقي سيتحول إلى جحيم بالنسبة إلى الأميركيين تمتد تداعياته إلى الخارج. 4- وحدة العراق: المخاوف كثيرة ومتشعبة، من مؤامرة لتفتيت العراق وتقسيمه إلى دويلات متناحرة بعد اعتماد سياسة "فرق تسد". وقد غذت قوات التحالف عن عمد أو عن جهل وغباء النعرات والغرائز وقسمت الغنائم أو فتاتها في الحكومة ومجلس الحكم الانتقالي على أسس طائفية بغيضة وليس على أسس مقاييس الكفاءة والتمثيل. وعلى رغم أن أي عراقي يسأل عن احتمالات وقوع حرب أهلية ينفي بشدة ويؤكد أن الصراع الطائفي ممنوع من الصرف في القاموس العراقي، فإن هناك الكثير من المؤشرات التي تغذي هذه المخاوف ليس بين الشيعة والسنّة فحسب، بل بين الشيعة والشيعة بعد أن تعددت المرجعيات وتزايدت ظواهر الجماعات والميليشيات المتناحرة، وبين السنّة والسنّة والعرب والأكراد. وشهدنا أخيراً تجمعات ومهرجانات تحمل مسميات طائفية ومذهبية ومطالبات بإعطاء الحقوق للسنّة أو بتسليم الحكم للأكثرية الشيعية، أو بالإصرار على الفيديرالية والحفاظ على الوضع الخاص لكردستان العراق، وهو ما سيخلف تداعيات داخلية واقليمية عبرت عن جانب منه القمة السورية - التركية التي انعقدت قبل أسابيع، وأكدت تصميمها على مقاومة أي تهديد لوحدة العراق، فيما هددت تركيا بحمام دم إذا تم منح الأكراد سلطة السيطرة على الشمال. 5- الجيش والأمن: معروف لكل مطلع أن العراق يحتاج إلى قوة مركزية لضبط أوضاعه ولجهاز أمن يمنع التعديات ويحفظ وحدة البلاد. وكان الخطأ الأكبر للأميركيين إن لم يكن مقصوداً في حل الجيش و"فرط" أجهزة الأمن وترك البلاد والعباد بلا أمن ولا أمان ولا سياج، فعمت الفوضى وانتشرت الجرائم وعاش المواطن تحت هواجس الخوف والقلق على روحه وعرضه وماله. ولا يمكن توقع مستقبل آمن مزدهر للعراق إلا بتكوين جيش وطني قوي وأجهزة أمن تتكفل بحماية المواطن لا بقمعه وتعذيبه وتصفيته. 6- الانتخابات: الخلافات المتزايدة حول الانتخابات وموعدها وتفاصيلها تثبت أن وراء الأكمة ما وراءها، فالقضية ليست مجرد تحديد موعد لاجرائها، بل ضمان حجز مقاعد الريادة والسيطرة والأكثرية في النظام الجديد. فالأكراد يريدون الفيديرالية، والشيعة يصرون على اجرائها بسرعة لضمان حكم الأكثرية، والسنّة متخوفون من انهاء دورهم القيادي الذي مارسوه على الدوام وفي شتى العصور والعهود، والتركمان والأقليات المسيحية قلقون على مستقبلهم وكياناتهم في حال عدم حصولهم على ضمانات خاصة في المناطق التي يعيشون فيها. ويسعى الأكراد لضم مناطق سيطرتهم وفق الفيديرالية التي يسعون لفرضها، والتي قد تؤدي إلى تمهيد للانفصال. فالمرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني مصر على اجراء انتخابات فورية ونقل السلطة إلى حكومة منتخبة، فيما يؤكد الأميركيون أن الوقت غير كافٍ ويضيع مجلس الحكم، الذي لم يكتسب شرعية كاملة، بين داع للاستجابة ومطالب بالتريث ومحذر من أن تأجيل الانتخابات سيمد في أمد الاحتلال لأكثر من سنتين، مما دعا السياسي المخضرم عدنان الباجه جي إلى الدعوة لحل على أساس ما هو "متيسر" بحيث لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم، ويبقى موعد 30 حزيران يونيو هدفاً لعملية تسليم السلطة للعراقيين حسب التعهد الأميركي، على رغم الشكوك بجدواه. 7- الأوضاع المعيشية: كل ما أشرت إليه سابقاً لا قيمة له إن لم يتم حل المعضلة الاقتصادية وتأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة ولقمة العيش لغالبية الشعب العراقي. فالوضع صعب ومقلق ومتفجر وجذوره ممتدة منذ أكثر من 30 عاماً من الحروب والقمع والهدر والنهب والحصار، ثم الاحتلال وانهيار المرافق العامة. فلا مستقبل للعراق إلا بالتنمية الاقتصادية والبشرية وإعادة عجلة الانتاج إلى الدوران. فهناك أكثر من 60 في المئة من العاطلين عن العمل، بينهم جنود وضباط الجيش المنحل. وهناك أكثر من 3 ملايين مهاجر ومغترب ولاجئ عراقي في الخارج. والفقر كافر والجوع يعتبر مشروع فتنة وصاعق تفجير ثورة اجتماعية لن يتمكن أحد من اطفاء نيرانها. * كاتب وصحافي عربي.