هذا زمن الفتنة في العراق. ذلك انه اذا كان الاحتلال من الكبائر، فان إحياء الطائفية وإذكاء نارها هو أم الكبائر بامتياز. فالاحتلال يذل المجتمع لا ريب، لكنه قد يبقي على تماسكه ويعزز وشائجه بحكم طبيعة التحدي المشترك. أما الطائفية فإنها تضيف إلى المذلة تلغيم المجتمع، وترشيحه للتمزق وتقطيع الأوصال. لذلك فانه اذا كان الدكتور علي الوردي - اكبر علماء الاجتماع العراقيين - قد وصف الاحتلال البريطاني بأنه "زمن السقوط"، فإننا لا نتردد في وصف زمن الاحتلال الأمريكي بأنه "زمن الفتنة"، التي يعرف الجميع جزاء من يستحضرها ويوقظها! (1) "اللبننة" سبقت "العرقنة" في الوضع المستجد. والمقصود باللبننة هو اعتماد التمثيل الطائفي والعرقي أسلوباً في الحكم والإدارة، كما هو الحاصل في لبنان الذي كلفته الطائفية الكثير. وهو الأساس الذي انبنى عليه العراق "الجديد" وتشكل بمقتضاه مجلس الحكم. أما المقصود "بالعرقنة" فهو ذلك الشعار الذي رفع مؤخراً، بعد اشتداد هجمات المقاومة على الجنود الأمريكيين "وحلفائهم"، واتجاه سلطة الاحتلال إلى الإسراع بتشكيل قوات أمن عراقية لحماية القوات الأجنبية، و لكي تتصدى هي للمقاومة، بحيث يصبح الاشتباك عراقياً عراقياً، وليس عراقياً أمريكياً. المدهش في الأمر أن الإدارة الأمريكية ما برحت تعلن عن سلامة قصدها وبراءته في العراق، ولايزال المتحدثون باسمها "يطنطنون" بهتافات بناء الديمقراطية ودعمها هناك (لاحظ أن شعار بناء الديمقراطية رفع بعد انكشاف أكذوبة تجريد النظام من أسلحة الدمار الشامل) - هذه الإدارة نفسها هي التي تبنت الطرح الطائفي والعرقي الذي يهدر ابسط قواعد الممارسة الديمقراطية، من حيث انه يلغي او يؤخر أولوية فكرة المواطنة ويقدم عليها الهوية الطائفية. بحيث لم يعد المواطن عراقياً أولاً ثم سنِّياً أو شيعياً او كردياً ثانياً، وإنما صارت طائفته في المقدمة ثم عراقيته بعد ذلك. لم يتعامل الأمريكيون مع العراق كدولة واحدة او شعب واحد، ولكنهم تعاملوا معه باعتباره عدة كيانات متجاورة، وأعراق وطوائف شتى تساكنت على ارض العراق. كأن العراق مجرد "جغرافيا" بلا تاريخ. وتلك كارثة بكل المقاييس. لان هذه النظرة أحدثت انقلاباً في تصور الحاضر والمستقبل. ليس ذلك فحسب، وإنما من جرائها ملئت الساحة العراقية بحشد من الألغام المرشحة للانفجار في أي وقت، التي يتعذر نزعها في الأمد القريب. ورغم أن جهل الأمريكيين بالواقع العراقي وتخبطهم في التعامل معه وارد، وله شواهد بلا حصر. إلا أنني استبعد تماماً أن يكون احياؤهم للطائفية مرجعه مجرد الجهل، وإنما هو فعل سياسي - فاضح ان شئت الصراحة - تم عمداً ومع سبق الإصرار. ذلك أن المدخل الطائفي يضعف الجميع، الوطن والطوائف نفسها، وبالتالي فانه يدفع كل طائفة إلى محاولة الاستقواء بقوى خارجية للاحتماء بها في مواجهة الطوائف الأخرى. وهو ما يحول الوجود الأمريكي في نهاية المطاف من احتلال مستهجن إلى ضرورة سياسية وحياتية بالنسبة للطوائف المختلفة. ومدرسة "فرِّق تسد" حاضرة بقوة في هذا السياق. ولست اشك في أن ثمة عنصراً آخر شجع الأمريكيين على الانحياز إلى التمثيل الطائفي، وهو انهم لم يكونوا ليطيقوا التمثيل السياسي، ببساطة لان القوى السياسية العراقية الحقيقية - وليست المصطنعة - رافضة للاحتلال وغير مستعدة للتعاون معه. (2) لا استبعد أن يكون الأمريكيون قد خدعوا بالمعلومات التي نقلها إليهم بعض "أصدقائهم" العراقيين المنفيين والمهاجرين الذين أعدتهم الولاياتالمتحدة واعتمدت عليهم في ترتيب الوضع الجديد. وهم الذين صوروا لهم أن الإشكال سيحل بمجرد سقوط النظام البعثي في بغداد، وان الناس بعد ذلك سيأخذونهم بالأحضان، ويفرشون الشوارع لهم بالورود والرياحين. وقد أثبتت الأحداث تهافت ذلك الادعاء. كما تبين أن إسقاط النظام كان الشق الأسهل في المهمة، وان المشاكل والتحديات الحقيقية بدأت بعد السقوط. لقد كنت أحد الذين سمعوا بآذانهم قبل سنوات في لندن وباريس ونيويورك أقاويل المهاجرين العراقيين والشائعات التي كان بعضهم يرددها طوال رحلة المنفى. وهي التي ركزت على أن النظام الحاكم في بغداد هيمن عليه "أهل السنة"، الذين "اختطفوا" الحكم واحتكروه منذ المرحلة العثمانية. وادعت أن الشيعة من ضحايا ذلك الاحتكار، رغم انهم يمثلون أغلبية كبيرة من السكان (وصل بها البعض إلى 85%). كما أن الأكراد كانوا بدورهم من بين الضحايا، فنالوا حظوظهم من البطش والقمع. المعارضون الذين تبنوا هذه المقولات وروجوا لها هم أنفسهم الذين تبنوا وأيدوا فكرة التمثيل الطائفي والعرقي في حكم العراق. ولا أستطيع أن احدد بالضبط ما اذا كانوا هم الذين نقلوا الفكرة إلى الأمريكيين أم العكس. لكن الثابت انها ظهرت إلى النور في الاجتماع الذي دعا إليه "المؤتمر الوطني العراقي"، الذي شكلته وعينت قيادته المخابرات المركزية الأمريكية. وتم في مدينة صلاح الدين الكردية عام 1992. هؤلاء المهاجرون أيضاً هم الذين روجوا لمقولة أن العراق مقسم إلى ثلاثة أقسام، أكراد في الشمال وسنة في الوسط وشيعة في الجنوب، واعتبروا أن تطبيق النظام الفيدرالي في البلاد هو افضل صيغة لضمان الاستقرار وعدم تقول أي فئة على أخرى. بدورها لقيت الفكرة تأييداً في مؤتمر أحزاب المعارضة الستة، الذي عقد في لندن قبل سنة من الغزو. وهذه الأحزاب هي: الحزبان الكرديان (طالبان وبرزاني) - المؤتمر الوطني - حركة الوفاق - المجلس الأعلى للثورة الإسلامية - (الحركة الملكية الدستورية اشترطت إجراء استفتاء لإقرار الفيدرالية). الشاهد أن الأمريكيين حين جاءوا إلى العراق كانت فكرة التمثيل الطائفي والعرقي مستقرة في أذهانهم، بدلاً من التمثيل السياسي. وكان "المتعاونون" معهم اغلبهم من الشخصيات الشيعية (الأكراد كانوا قد رتبوا أمورهم في وقت مبكر) وهؤلاء انطلقوا على أحسن الفروض من أن التدخل الأمريكي سيكون نهاية مظلومية الشيعة في العراق، وبداية طور جديد في تاريخهم يستردون في ظله مكانتهم التي تليق بهم على صعيد السلطة. وفي حدود علمي فان تلك الحجة هي التي أقنعت السيد محمد باقر الحكيم رحمه الله، بان يوفد من يمثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية للمشاركة في مؤتمر لندن، بعد أن كان متردداً في ذلك بسبب عدة تحفظات سياسية. وكان الذي تولى إقناعه هو السيد احمد جلبي رئيس المؤتمر العراقي زاره عدة مرات في طهران لهذا الغرض. اذا جاز لي أن ألخص، فلعلي أن أقول: إن الأكراد كانوا الأكثر إلحاحا على الفيدرالية، لان ذلك سيعزز موقفهم في ظل المكاسب التي حققوها على صعيد الحكم الذاتي بعد انسحاب الجيش العراقي من الكويت عام 92 وخضوعهم لما يشبه الحماية الأمريكية منذئذ. أما الشخصيات الشيعية المهاجرة - لا أعمم على الشيعة بالمطلق - فهي التي كانت اكثر إلحاحاً على الطائفية بمظنة أنها سترد إليهم مكانة افتقدوها في الدولة العراقية الحديثة. أما الأمريكيون فقد لقيت الأطروحتان هوى لديهم للأسباب التي سبق ذكرها، ولم يكن لهم سوى مطلباً واحداً إضافياً على ركائز ومنطلقات العراق الجديد، تمثل في تبني "العلمانية". حيث رأوا أنها ستكون بمثابة خط احمر يكبح تطلعات الشيعة - بافتراض أغلبيتهم - ويقطع الطريق على من "تسول له نفسه" يوماً ما إقامة نظام يستلهم التجربة الإيرانية. (3) خلال شهري يوليو وأغسطس الماضيين قامت السيدة رند رحيم فرانكي - عراقية تحمل الجنسية الأمريكية - بأربع زيارات للعراق، بوصفها مديرة لمؤسسة أمريكية معنية بأمر العراق (عراق فاونديشن). غير أن هذه ليست صفتها الوحيدة، وإنما هي أيضاً عضو في "المؤتمر الوطني العراقي" الذي يرأسه الدكتور احمد جلبي، وله علاقاته الخاصة مع الإدارة الأمريكية. (مؤخراً اكتسبت السيدة رند رحيم صفة ثالثة، حيث عينت رئيسة للبعثة الدبلوماسية العراقية لدى الولاياتالمتحدة) - في ضوء زيارتها تلك كتبت السيدة رند تقريراً، عن الأوضاع في العراق. يعد شهادة مهمة. أولاً لأنه صادر من داخل النخبة الأمريكية وليس من خارجها، وثانياً لأنه انطلق من تأييد الوجود الأمريكي، لكنه سجل عدة تحفظات على ممارساته، انصبت في جانب منها على فكرة التمثيل الطائفي والعرقي. وقد نشرت مجلة "المستقبل العربي"، الشهرية اللبنانية نص ذلك التقرير في عدد أول نوفمبر الماضي. في الموضوع الذي نحن بصدده ذكر التقرير ما يلي: حينما عينت سلطة التحالف المؤقتة مجلس الحكم (25 عضواً) وتبنت التمثيل النسبي الطائفي والعرقي، بدلاً من التمثيل السياسي، شغل الشيعة نسبة 50% + واحد أي 13 مقعداً وشغل العرب السنة والأكراد 20%، او 5 مقاعد لممثلين عن كل منهما، ومنح كل من المسيحيين والتركمان مقعداً. وقد اوجد هذا التقسيم أوضاعاً شاذة مثيرة للاهتمام، مثل إدخال زعيم شيوعي ضمن ممثلي الشيعة (اثنان من ممثلي السنة من الشيوعيين السابقين).. وقد تكرر التقسيم العرقي والطائفي في تركيب الوزارات واللجنة التحضيرية للدستور، ولا شك في انه سينتشر إلى المراتب الأدنى للحكومة. وهي تعلق على هذا المشهد قالت: ان نظاماً للحصص قائماً على الطائفية والعرق يقوض الأمل بإنجاز مواطنة عراقية عامة، بتأكيد الهوية الطائفية والولاء على حساب الهوية العراقية. وخلال سنوات حكمه الخمس والثلاثين، بالأخص منذ عقد الثمانينيات نجح صدام في تجزئة المجتمع العراقي إلى هوياته المكونة، وفي قمع الطوائف المختلفة بصورة متناوبة. وهكذا ارتد العراقيون إلى ولاءاتهم الأولية: طائفتهم، عرقهم، قبيلتهم، مدينتهم. والآن فإذا أراد أي فرد أن ينخرط في العملية السياسية، فيتعين عليه أولا أن يعلن عن هوية عرقية او طائفية او على الأقل قبلية، وان يلعب الورقة العرقية والطائفية. حيث يعد الإعلان عن "عراقية" المرء كافياً، وإنما على المرء أن "يعلن" عن هوية طائفية. وهذا يضع العراق تماماً على طريق اللبننة، وهو احتمال يحمل في طياته بذور أخطاء مستقبلية جسيمة على العراق. (ملحوظة: بسبب الخلاف الطائفي حول الحقائب الوزارية الغي منصب وزير الأوقاف، حيث لم يتفق على هوية شاغلها، وهل يكون سنياً أم شيعياً). (4) حين تسللت جرثومة التقسيم الطائفي فإنها لم تقتصر على مجلس الحكم، وإنما تجلت مؤشرات الوباء الذي استصحبه في مواقع أخرى. في هذا الصدد ذكر التقرير الأمريكي انه: من اجل تكرار نظام الحصص في تشكيل مجلس الحكم تمت زيادة عدد الوزارات إلى 25. وقد أتاح هذا أيضاً لكل عضو في مجلس الحكم أن يعين أحد الموالين في مركز وزاري... ومن بين الوزارات الخمس والعشرين وصفت أربع بأنها وزارات "سيادية": الداخلية، والشئون الخارجية، والنفط، والمالية. وقد خصصت اثنتان منها للشيعة، وواحدة للأكراد وواحدة للسنة. لهذا، فانه اذا تبين - على سبيل المثال - أن مسيحياً هو المرشح الأكثر تأهيلاً لوزارة المالية (وهي واحدة من الوزارات السيادية) سيكون من المستحيل تعيينه (ويتناقض هذا تناقضاً صارخاً ومثيراً للسخرية مع الوزارة الأولى في العراق في أوائل عشرينيات القرن الماضي، حينما كان أول وزير للمالية يهودياً عراقياً). وقد دار لغط كثير حول من يحصل في مجلس الحكم على أية وزارة، وبينما تعتبر المساومات والحلول الوسط جزءاً لا يتجزأ من الديمقراطية، فان هذه كانت مساومة على مخصصات ومناصب عرقية وطائفية. بالمثل، فان اللجنة التحضيرية للجمعية التأسيسية مؤلفة أيضاً من 25 عراقياً (كلهم رجال) عينهم مجلس الحكم، وهو يكرر التقسيم العرقي أيضاً. ونظراً لان العملية الدستورية والدستور نفسه سيكونان نسيج التطور والاتجاه السياسيين لمستقبل العراق، فان تركيب الهيئات التي تتعامل مع الدستور يغدو أمراً اكثر حرجاً حتى من تركيب الوزارات. في تقييم هذا المشهد خلص التقرير إلى أن الأساس الطائفي والعرقي للعملية السياسية في العراق وتسيّد نظام الزبائنية يتناقضان مع إقامة ديمقراطية في عراق قائم على مواطنة عراقية عامة ومتساوية. وكما في لبنان، فانه يمهد الطريق لانقسام في المستقبل ولتدخل قوى خارجية، وهذان خطران يهددان العراق الذي لا يزال مستهدفاً وغير مهيأ لمواجهتهما. والأمر كذلك فان العملية الدستورية الآخذة بالتشكل سترسخ - على الأرجح - الطبيعة المختلة لهذه العملية السياسية. وما لم يتم التصدي لهذا التيار بظهور أحزاب سياسية وطنية يمكن الاعتراف بها، خاصة من جانب الوسط الديمقراطي، تكون الآفاق محدودة امام ديمقراطية حقيقية.- انتهى الاقتباس. (5) بعض الأمريكيين ذهبوا بسيناريو المشروع الطائفي إلى آخره، وطرحوا فكرة تقسيم العراق إلى ثلاث دول: سنية وشيعية وكردية. والفكرة ليست جديدة، ولكنها ظهرت إلى الوجود بشكل ملموس بعد حرب الخليج الثانية (1991م)، حيث خرجت أنباء من واشنطون عن تشكيل لجنة من بعض الأمريكيين والحقوقيين العراقيين المهاجرين، طرح للبحث أمامها احتمالات، تقسيم العراق بين الفئات الثلاث او اعتماد النظام الفيدرالي في البلاد بحيث يكون لكل واحدة من المحافظاتالعراقية ال 18 مجلسها المحلي المنتخب ونظامها الخاص، بينما يتراجع دور السلطة المركزية في بغداد، التي يدير دفة الأمور فيها مجلس رئاسي يضم ثلاثة أشخاص يتناوبون على المنصب أحدهم سني والثاني شيعي والثالث كردي. غير أن المشروعين استبعدا وقتذاك، بعدما بدا أن تنفيذهما متعذر من الناحية العملية. او هكذا قيل على الأقل. الآن ندرك أن الفكرة نامت فقط ولم تمت. إذ اطل شبحها بطريقة غير مباشرة حين ظهرت في الصورة وعلى شاشات التليفزيون صور أول اجتماع لمجلس الحكم الذي عينه الأمريكيون، واكثر ما لفت الانتباه وأثار الدهشة في الصور ظهور خريطة للعراق علقت على أحد الجدران في صدارة القاعة، قسمت البلد إلى ثلاثة أقسام بألوان مختلفة. فالمنطقة ذات الأغلبية الكردية صبغت باللون الأحمر، ومنطقة الوسط التي يتركز فيها اغلب أهل السنّة ظهرت بلون ابيض، أما الجنوب حيث الأغلبية الشيعية فقد صبغ باللون الأخضر. أزعجت الخريطة كثيرين، وكان وقعها لدى الرأي العام مفاجئاً وصادماً (لاحظ الصدى) - وبلغ الأمر مسامع "أولي الأمر"، فرفعت من على الجدار في هدوء، واستبدلت بخريطة عادية غير ملونة لتهدئة الخواطر وامتصاص الغضب. غير أن صحيفة "نيويورك تايمز" خرجت علينا بمقال (في 25/11) جاء مثيراً من ناحيتين. الأولى انه قدم اقتراحاً مفصلاً في شأن تقسيم العراق إلى ثلاث دول او دويلات، والثانية أن كاتبه رجل معتدل ورصين، غير محسوب على جناح المتطرفين والمهووسين في الولاياتالمتحدة. هو ليزلي جيلب (كان محرراً لصحيفة التايمز وهو الآن رئيس فخري لمجلس العلاقات الخارجية)، ودلالة هذه النقطة الثانية مهمة، من حيث أنها تعني أن تقسيم العراق اصبح يلقى تأييداً متزايداً في واشنطون، وان الفكرة أصبحت تجذب أنصارا بين العقلاء وليس الغلاة وحدهم، الأمر الذي يفتح الباب لإمكانية أخذها على محمل الجد، ومن ثم إدخالها طور التنفيذ في طور لاحق. عنوان المقال المنشور يقول صراحة :ان الدول الثلاث هي الحل. وفيه اعتبر جيلب أن العراق الموحد يمثل خللاً تاريخياً، وان الالتزام الأمريكي بتلك الوحدة يعد خطأ جسيماً، لان ذلك البلد في رأيه كيان مصطنع. تشكل من توحيد ثلاثة كيانات مختلفة عرقياً وطائفياً. إزاء ذلك فانه أعتبر أن الاستراتيجية الوحيدة القابلة للحياة في العراق ينبغي أن تقوم على تصحيح الخلل التاريخي، وإطلاق سراح الكيانات الثلاثة (السنة والشيعة والأكراد). وهذه الاستراتيجية تبدأ بإضعاف السنة وتقوية الأكراد والشيعة، ومراقبة ردود أفعال الأولين، التي في ضوئها تتحدد الخطوة التالية. السيناريو الذي أقترحه يقوم على إعطاء الشيعة والأكراد حكماً ذاتياً، مع رسم حدود للمنطقة التي يشغلها كل منهما تمهيدا لإقامة الدولة. ثم تركيز الاهتمام على هاتين المنطقتين النفطيتين بتوجيه نفقات إعادة الإعمار إليهما وترتيب أجواء انتخابات ديمقراطية فيهما. بالتوازي مع ذلك تسحب القوات الأمريكية من المثلث السني وتدعى الأممالمتحدة لكي تقوم بدور اكبر في إدارته، علماً بأن منطقة السنة ستصبح في ظل هذا الوضع بمثابة "جار فقير" للشيعة والأكراد الأغنياء، الذين يتقلبون في الثروة النفطية. صحيح أن ذلك مجرد سيناريو متخيل ومفترض، لكن التجربة علمتنا أن الكثير مما كان حلماً متخيلاً اصبح من حقائق اليوم (اسرائيل مثلاً). إلى أي مدى تصح تلك الدعاوى والشائعات التي تحاول رسم خرائط الحاضر والمستقبل في العراق؟ - في الأسبوع القادم نجيب عن السؤال بإذن الله.