Anne-Marie Thiesse. La Creation des Identites Nationales. خلق الهويات القومية. Seuil, Paris. 2001. 312 pages. قد لا يكون هناك من شيء أهم من خلق الهويات القومية. وهذه المفارقة ليست مما يستهان به، اذ ان فرادة كل هوية قومية اتُخذت ذريعة لمواجهات دامية جعلت من القارة الاوروبية القارة الاكثر حروباً في القرن التاسع عشر وفي النصف الاول من القرن العشرين. ولكن رغم دعوى الفرادة هذه، فان جميع قوميات اوروبا بلا استثناء انبثقت من قالب واحد وتقيدت في "فبركتها" بنموذج واحد. وقد تبدو كلمة "فبركة" هنا مغالى فيها. فميثولوجيا ولادة الهويات القومية تؤكد جميعاً على ان مخاضها طبيعي وتحجب عن لوعي تماماً الصفة الاصطناعية بل القيصرية احياناً، لهذا المخاص. والواقع ان الامم الحديثة وذلك هو شأن جميع أمم أوروبا بلا استثناء قد تكونت او كُوّنت بالاحرى، على نحو مغاير لما يرويه تاريخها الرسمي. فأصولها الاولى لا تمتد في غياهب الزمن، وجذورها لا تضرب في تلك الحقب الغامضة والبطولية التي تتغنى بها الفصول الاولى من التواريخ القومية. فالساعة الحقيقية لميلاد امة من الامم انما تتحدد بتلك اللحظة التي تقرر فيها حفنه من الافراد انها موجودة. وتشرع بإقامة البراهين على ذلك. والامثلة الاولى على مثل هذه التمخضات لا تعود الى ابعد من القرن الثامن عشر: فما من امة بالمعنى الحديث للكلمة، اي بالمعنى السياسي، سابقة على هذا التاريخ. والحق ان فكرة الامة بالذات تندرج في سياق ثورة ايديولوجية، او "قطيعة" كما بات يقال اليوم. فحتى القرن الثامن عشر كان التاريخ "فطرياً" ان جاز التعبير: تاريخ سلالات ملكية او او عسكرية في حال مواجهة دائمة. وكانت حدود الدول ترسمها تقلبات الحروب والتحالفات، وكانت قيد تحول دائم لا يأخذ في الاعتبار اي عامل من العوامل المزعومة للوحدات القومية: اللغة او الدين او العرق او التراث المشترك. ولكن فكرة الامة اقترنت مع فلسفة سياسية قطعت مع التصور الفطري للتاريخ وقالت بتصور تدخلي او ارادوي. ولهذا قد يكون تعريف رينان للامة هو الاكثر مطابقة للواقع لأنه ضرب صفحاً عن سائر العوامل الفطرية من لغة او عرق او دين ليؤكد على الجانب الارادوي المحض. فالامة، كما قال في محاضرته المشهورة "ما الامة؟" التي القاها في مدرج جامعة السوربون في 11 آذار مارس 1882، هي بمثابة "استفتاء يومي" على جودها. ولئن اعطى الاعتبار الاول في وجود الامة للتراث المشترك، فلأن حضور هذا التراث انما هو في الذاكرة، والذاكرة ليست ملكة سلبية خالصة: فهي تصنع التراث الذي صنعها، او على الاقل تصنع الانتماء اليه. ذلك ان الاسلاف لم يحرروا اية وصية برسم الاخلاف، بل الاحفاد هم الذين يكتبون وصية الاجداد اليهم، وهم الذين ينمّون انفسهم بإرادتهم الى التراث الذي يتصورون انهم ينتمون اليه بالفطرة. وانما بهذا المعنى قال عالم الاجتماع الاسكندينافي الاصل، اورفار لوفغرن، بعبارة شبه استفزازية: ان الهوية القومية هي اشبه ما يكون بمنتوجات معامل "ايكيا" IKEA للاثاث المعلّب والتي تحمل دوماً هذا الشعار: "ركّبه بنفسك" do it yourself. ولقد غدت معلومة اليوم ما هي العناصر التي تتركب منها الامة: التاريخ المشترك الذي يضمن الاستمرارية مع الاسلاف والآباء المؤسسين، سلالة من الابطال الحاملين للفضائل القومية، لغة تتلخص فيها روح الامة، فنون شعبية عريقة في القدم ورموز مستحدثة نشيد وعلم قوميان، وكذلك، وفي اغلب الاحوال، مطبخ قومي مميز. والحال انه بدءاً من هذه العناصر المتماثلة يمكن، وفقاً لنظام "ايكيا" لبناء الهويات القومية، الانتهاء الى تركيب فرادات قومية متمايزة الى حد التعادي والاقتتال. علماً بأن الحروب قد تمثل بحد ذاتها عاملاً "تركيبياً": أفما كان نابليون يقول: اعطني عدواً قومياً اعطك امة؟ ولئن يكن هناك شبه اجماع لدى المنظّرين القوميين، كما لدى علماء اجتماع نشوء الامم، على ان العامل الاول في بناء الهويات القومية هو اللغة، فان ما لا ينبغي ان يغيب عن الاذهان هو ان اللغة القومية نفسها واقعة ارادية وصناعية، وليست بحال من الاحوال فطرية. وصحيح ان هناك لغات تكونت قبل تكوين الامم، ومثالها الفرنسية التي سبقت الامة الفرنسية بالظهور بعدة قرون، ولكن اللغة الام شيء واللغة القومية شيء آخر. وبالاحالة الى مثال الفرنسية ايضاً، فان هذه للغة لم تشرع بالتحول الى لغة قومية الا ابتداء من القرن الثامن عشر. فالى حين قيام الثورة الفرنسية عام 1789 كانت الفرنسية هي لغة باريس وضواحيها حصراً الإيل دو فرانس وكانت شرائح واسعة من سكان فرنسا لا تتكلمها او لا تتكلمها الا بصفة ثانوية. وكان ذلك يصدق ولا يزال الى اليوم جزئياً على البريتانيين والفلاندريين والاوكسيتانيين والالزاسيين والالبيين والباسكيين والكورسيكيين. ولئن توحدت الفرنسية في نهاية المطاف وفرضت هيمنتها كلغة قومية فانما ذلك حصراً بفضل تعميم التعليم والمدرسة القومية العامة، كما بفضل الصحافة والتلفزيون لاحقاً. وما يصدق على الفرنسية يصدق على الايطالية التي ما كان يتكلم بها لدى تحقيق الوحدة القومية الايطالية في اواسط القرن التاسع عشر سوى عشر سكان ايطاليا. ولئن تكن فرنساوايطاليا والمانيا تقدم امثلة كلاسيكية على البناء الارادي للغة قومية ابتداء من اللغة الفطرية او من اللغة الام لبعض المقاطعات او لبعض التشكيلات السكانية الاثنية التي لعبت دوراً مركزيا في تمخض الهوية القومية المعنية، فان التاريخ الاوروبي يقدم ايضاً امثلة لا تقل معيارية على بناء إرادي للغة القومية، بناءٍ لاحق وليس سابقاً على بناء الهوية القوية نفسها. والمثال الكلاسيكي تقدمه في هذا المجال النروج. فقد ارتقت النروج الى مصاف الامة قبل ان تحوز شرط اللغة القومية، او حتى الدولة القومية. فعلى مدى قرون ثلاثة، من 1523 الى 1814، كانت النروج واقعة تحت سيطرة الدانمركيين، ولكن في اعقاب الحروب النابوليونية ارغم برنادوت الدانمرك على التخلي عن سيادتها على النروج لصالح السويد التي نصب نفسه ملكاً عليها بعد انقلابه على نابليون - باسم شارل الرابع عشر. وتلافياً لهذا التحول في السيادة عمدت الدانمرك على سبيل المناورة في ربع الساعة الاخير، الى حبو النروج بدستور ليبرالي للغاية بهدف احراج الحاكم السويدي الجديد الذي تحول بين عشية وضحاها من ضابط فرنسي نابوليوني الى وريث لعرش السويد. وانما ابتداء من ذلك الدستور الليبرالي، ومن الجمعية الوطنية التي انتخبت على اساسه، راح النروجيون يؤسسون انفسهم في هوية قومية مستقلة عن الجارين القوميين: الدانمرك والسويد. والحال ان النخب المثقفة النروجية ما كانت تتكلم النروجية التي لم يكن لها وجود اصلاً بل الدانمركية لغة الحاكم السابق والادارة الجديدة. وفي مسعاها الى تكريس لغة قومية خاصة اتجه تفكير الانتلجنسيا النروجية في بادئ الامر الى لغة سكان العاصمة، اوسلو، الذين كانوا يتكلمون بلهجة مميزة هي خليط من الدانمركية والنروجية. ولكن وجد بين المثقفين النروجيين من لاحظ ان لغة سكان العاصمة تلك هي نفسها لغة اجنبية فرضت على النروج من قبل الحاكم الدانمركي. ولذا اقترحوا العودة بدلاً منها الى لغة شعبية اكثر عراقة واكثر اصالة معاً هي لغة سكان الريف التي بقيت بريئة من "لوثة الاجنبي". وعلى هذا النحو سارع المثقفون "الوطنيون" الى احياء التراث الشعبي الشفهي والى نشر مجموعات من الحكايات الفولكلورية باللغة الفلاحية. وفي الاربعينات من القرن التاسع عشر عمد ايفار آسن، بتشجيع وتمويل من الاكاديمية العلمية لمدينة بروندايم العاصمة القديمة لملوك النروج، الى انشاء لغة قومية جديدة بدءاً من اللهجات الفلاحية. وفي الخمسينات وضع المؤرخ بيتر مونخ قواعد اشتقاقية لتلك اللغة الجديدة، واتبعها آسن نفسه بنحو وبمعجم خاصين. وعلى هذا النحو تكرست في النروج ازدواجية لغوية عضال ما بين لغة الماضي ولغة الارياف، وسرعان ما تلبست هذه الثنائية طابع الصراع السياسي ما بين اليساريين انصار اللغة الفلاحية "الاصيلة" والبورجوازيين، انصار لغة العاصمة "الهجينة". وعلى الاثر رأت النور اطروحة جديدة تقول باقتسام الامة النروجية نفسها الى امتين: امة اصيلة يتألف منها شعب الارياف، وامة اجنبية تتألف منها الطبقة الحاكمة. وفي محاولة لرأب هذا الصدع القومي عمدت السلطات في 1885 الى تكريس اللغتين كلتيهما قوميتين، ثم استصدرت في 1907 مرسوماً يقضي بضرورة تدريس اللغتين كلتيهما في المرحلة الثانوية. وفي الوقت نفسه اصدر البرلمان النروجي منذ ان انفصلت النروج عن السويد وبصورة نهائية عام 1905، عدة مراسيم في اعوام 1907 و1913 و1923 و1936 على التوالي تقضي باصلاح الكتابة الابجدية للغة سكان العاصمة التي صارت هي لغة الكتابة بالمقابلة مع لغة سكان الارياف التي بقيت شفهية. وقد كان الهدف من تلك الاصلاحات الابجدية المتتالية تحرير النروجية الكتابية من كل اثر من الدانمركية، لغة "المستعمر" السابق. ويبدو أن هذه اللغة هي قيد الانتصار اليوم، لأن الاستفتاءات تشير الى ان ثلاثة ارباع سكان النروج يؤيدون الدمج النهائي للغتين، وثلاثة ارباعهم ايضاً يؤيدون هذا الدمج على اساس اللغة المكتوبة، اي لغة العمران الحضري.