حينما اصدر برنارد لويس كتابه المرجعي الضخم "الشرق الاوسط: الفا سنة من التاريخ - من صعود المسيحية الى يومنا الحالي"، خال كثيرون ان المؤرخ والمستشرق الكبير توّج حياته بهذا العمل. لكنه بعد ذلك عاد، هو المولود في 1916، فأصدر كراساً عن "مستقبل الشرق الاوسط" ومحاضرة عن العنصرية. وها هو يفاجئنا بكتاب جديد عنوانه "الهويات المتعددة للشرق الأوسط" وايدنفيلد ونيكلسون هو اعداد على كثير من التصرف لثلاث ورقات كان قد كتبها وألقاها ما بين 1989 و1995. والفكرة الاساس، هنا، ان كل وجود اجتماعي وجود تعددي. فهاهي المملكة المتحدة، مثلا، تضج بالهويات الانكليزية والويلزية والاسكتلندية والايرلندية، ناهيك عن هويات الجماعات الاثنية والقومية الوافدة في العقود الماضية. والشيء نفسه يمكن قوله عن اميركا وروسيا وفرنسا واسبانيا وغيرها. ولا يشذ الشرق الاوسط، الذي منحه "الغرب" تسميته، عن هذا التعميم. لكن ما تظهره السجلات التاريخية والادبية ان الفوارق الاقتصادية والاجتماعية، العمرية والجندرية، لم تكن هي المعايير التي رأى اهل الشرق الاوسط الى هوياتهم من خلالها. فحتى الآن ظل الخط الذي يفصلهم عن الآخر يستمد تعريفه من معايير اشد تقليدية. وما دام ان المعايير الحديثة مجلوبة من لغة وثقافة اخريين، مثلها مثل تسمية "الشرق الاوسط"، فحري أن يُبدأ تعريف القارىء الغربي بالشرق الاوسط بتعريف الكلمات في سياقها هذا. فالجنسية والمواطنية، والقومية والوطنية، كلمات جديدة في منطقتنا استخدمها الشرق الاوسطيون لتعيين تصورات جديدة. لكن الامة والشعب والبلد والجماعة والدولة، كلمات قديمة، وفي استجلابها امست كلماتٍ غير مستقرة، ومن ثم ذات طاقة انفجارية ملحوظة. وبما يجعل الامور اشد تعقيدا، فان الشيء نفسه قد يصح حتى على اسماء كيانات اثنية ووطنية وطائفية معينة. ذاك ان الفرد الغربي الحديث والمعلمن يجد صعوبة قصوى في فهم ثقافة يلعب الانتماء الى دين او طائفة دينية، الدورَ الاساسي في تحديد هويتها، بينما تتراجع فيها ادوار الجنسية والمواطنية. بقي الشرق الاوسط ما يزيد على قرن خاضعاً لتأثير أوروبا، وهو تأثير تحول من النفوذ الى السيطرة فإلى النفوذ ثانيةً بعد انتهاء الاستعمار. وخلال الحقبة هذه تأثرت شعوبه، المسلمون فيها وغير المسلمين، تأثراً عميقاً بالأفكار الغربية عن حق تقرير المصير الوطني. بيد انه حتى الآن لا تزال الروابط والعصبيات والولاءات القديمة عنصراً بالغ القوة، واحياناً مُحدِداً. وهذا ما لا يقتصر على البلدان المسلمة اذ يشمل، الى هذه الدرجة او تلك، بلداناً غير مسلمة سبق ان ضوتها السلطنة العثمانية. فاليونان، مثلا، وهي اليوم عضو في الاتحاد الاوروبي، اصطدمت بالسلطات الاوروبية في بروكسيل بسبب سطر في بطاقة الهوية اليونانية ينص على الدين. اما المَثل الاشد تراجيدية بما لا يُقاس، فهو الذي تقدمه يوغوسلافيا السابقة. وبالتأكيد لا تستطيع الترمينولوجيا الغربية أن تصف، كي لا نقول: تشرح، صراعات الشرق الاوسط هذه. فكيف وان احتدام النزاعات ونشأة الدول وتفاقم العصبيات، ضاعفت التحديات المطروحة على اللغة: فصلاح الدين ظل لفترة قصيرة خلت بطلاً للمسلمين جميعا، يتباهون كلهم بانتصاراته. لكن هذا لم يعد كافيا في ازمنة احدث عهدا، اذ زعم الاتراك انه منهم وهو ما زعمه ايضا العرب لولادته في العراق، علما ان القائد الايوبي كان أساساً سليل عائلة كردية. وبين وفادات عدة وفد الى الشرق الاوسط، في القرن التاسع عشر، مفهومان اوروبيان، اولهما "الوطنية" حيث غدت الهوية والولاء يُعرّفان ببلد بعينه، والثاني "القومية" الذي ينيط التعريف باللغة والأصل الاثني. وعلى عكس اوروبا الغربية، لكنْ بما يشبه أوروبا الوسطى، تعارض التعريفان الوطني والقومي اكثر بكثير مما تجانسا. والمفهومان هذان كانا غريبين الا انهما، وبالاخص الثاني، خلّفا تأثيرات هائلة: فالوطنية وقعت اولاً على تركيا وعلى سلطنتها بصفتها كياناً واحداً، لكنها لم تزدهر الا بعد ان انهارت السلطنة وتفرّعت دولاً فاختصّت بها الجمهورية التركية الوليدة. اما القومية فنمت خصوصاً بين معارضي السلطنة، لا سيما منهم المسيحيين. وبدوره فالارتداد عن هذه المفاهيم الى هوية سياسية اسلامية جامعة، ليس جديداً. فكثيرا ما رعى مثلَ هذه الدعوات سلاطين وحكام، اهمهم عبدالحميد. غير ان الصيغة الراهنة تتلوّن بلون راديكالي يعجز فعليا عن التخلص مما يدعو الى نبذه. والحق ان النبرة الاصولية كثيرا ما تكون شكلا خاصا في التعبير عما سماه آخرون قوميةً او وطنية. يبقى ان الدين ظل الموضوع المركزي. ومنطقة الاديان التوحيدية الثلاثة التي يسودها الاسلام وثقافته، تعيش تماثلات لم تعرفها منذ زمن طويل منطقة اخرى من العالم. فهناك الآن روابط مؤسسية ورسمية بين دول العالم الاسلامي باسم الاسلام لا مثيل لها بين الدول المسيحية باسم المسيحية، او بين الدول البوذية باسم البوذية. واذا ما تنازعت اليونان وروسيا الارثوذكسيتان، او اسبانيا وايطاليا الكاثوليكيتان، فان الارثوذكسية والكاثوليكية لا تُستلهمان ولا يُذكّر بهما في سياق المصالحات. فالاسلام في عهد الرسول، انتصر وحكم، كما ضم القرآن أوامر ونواهي تخص الحياة الزمنية والسياسة. واذا تشابه في هذا كتاب المسلمين مع العهد القديم، غير ان التجربة المسيحية - الغربية اختلفت كلياً، حيث يُعطى "ما لله لله وما لقيصر لقيصر". ثم ان المسيحية صعدت عقب انهيار امبراطورية روما، بينما الاسلام صعد في سياق ولادةٍ امبراطورية. هكذا، وبانتقالهم الى السلطة التي سبق ان عانوا عذاباتها، ورث المسيحيون الدولة التي انهارت، الشيء الذي عكسته لاحقاً نظريات غير انتصارية كالتي صاغها القديس اوغسطين وآخرون اعتبروا ان الدولة أقل الشرور. وفي المقابل فان العمل التأسيسي الذي باشره الاسلام صبغ الدولة، وهي دولة الاسلام، بصبغة المقدس. هكذا يصعب النظر الى العالم مقسوما الى دول ويسهل النظر اليه مقسوما الى اديان. واذا كان يصعب التمييز بين مجتمع مدني ودولة مؤمنين، ويصعب، بالتالي، تحديد مناطق عازلة وفاصلة، فان من الصعب ايضاً عدم الطعن بالدولة، كي لا نقول تمجيدها حين لا تكون دولة مؤمنين. واذا دفعت باكستان هذه النظرة الى حدود الكلام على "قنبلة نووية اسلامية"، فان "الخيانة" في السياسة لم تنفصل عن "المروق" في الدين. على ان التعميم وحده هو الذي يقضي بالكلام على اسلام واحد او مسيحية واحدة. لكن الملاحظ ان الراديكاليين هم اكثر من يدلّون الى تنوّعات الأديان فيما هم يؤكدون على واحديتها. وتجربة ايران دليل صريح. ففي عالم الاسلام تعدد سني - شيعي، فضلا عن عديد المذاهب والفرق، ناهيك عن الانقسامات التي تمليها الثقافات الشعبية والبلدان الجديدة. والى جانب مسلمي الشرق الاوسط ثمة اقليات مسيحية واسعة شديدة التعدد بدورها، واقليات يهودية متعددة ثقافيا وإن لم تكن متعددة دينياً. وفي الحالات كافة ادى النزاع على فلسطين الى ضمور اليهودية العربية، فيما لا تنم الحال العام للمسيحيين عما يبشر بتعزيز التعددية. ومن دون ان يؤدي بالضرورة الى انفراج، فان اسرائيل تتجه الى مزيد من الشرقية التي تجمعها بجوارها العربي والمسلم. لكن لما كان اليهود يشبهون المسلمين لجهة علاقتهم بالسلطة السياسية واتصاف سجالاتهم السياسية بالطابع النظري البحت تبعا لانفصالهم المديد عن اعمال السلطة، جاز الافتراض انهم، مثلهم مثل المسلمين، معرّضون لامتحان من طبيعة مسيحية مفاده: فصل الدولة عن الكنيسة. بيد ان الهوية في الشرق الاوسط لا تزال ذكرية الى حد بعيد. فهي، اولا واساسا، هوية الذكور اكانوا اغنياء او فقراء، ومن هذا الدين او ذاك. الا ان المنطقة في تاريخها القديم عرفت نساء كثيرات أُدرِجن في مصاف الامهات ذوات الامومة الجامعة، كسميراميس ونفرتيتي وزنوبيا، او كسيدات التوراة ديبورا وروث واسثر. وفي التاريخ الاسلامي لم يطرأ التغير الكبير الاول، بما فيه من دلالات جنسية وعرقية، الا مع العهد العباسي. ففيما كانت والدة آخر الخلفاء الامويين عبدة، كانت ام الخليفة العباسي الاول سيدة عربية. ومذّاك راحت تتشكل "مؤسسة" الحريم وتغدو هي القاعدة، وامست امهات السلاطين محظيات عبدات. وفي الحالات جميعاً، عمل اختلاط الزيجات وتعدد الزوجات حائلاً دون تشكّل هويات عنصرية مغلقة. بيد ان ضعف العنصرية لم يحل دون استخدام مصطلحاتها في التراشق السياسي، فاصبحت تهمتا "نازي" و"عنصري" من اشهر اشكال التشهير. واذا شذّت اللاسامية عن ان تكون تهمة، الا ان اللاسامية العربية ليست عرقية بالمعنى الاوروبي على رغم استعارتها رموزا وصورا وتعابير من اللاسامية الاوروبية. فالنزاع الذي عبرت منه التأثيرات النازية الى العالم العربي كان موضوعه الأرض، لا الخرافة على ما كانت حال اللاسامية الاوروبية. وقد حققت النظريات العرقية للنازية، في تركيا، اختراقا صغيرا، لتحقق في ايران اختراقا اكبر، هي البلد الذي يُعتبر اسمه أصل كلمة "آري". على ان الشرق الأوسط، على عكس اقاليم الحضارة القديمة الاخرى، عج دائماً باللغات، وإن كانت الوفادات الحضارية والدينية الأعرض، من هيلينية ورومانية ومسيحية واسلامية، تحجب الوجه اللغوي المتعدد. وقد نجحت الآرامية والقبطية، والى حد العبرية، في الاستمرار على هوامش العربية التي غدت في هذه المنطقة ما غدته اللاتينية في أوروبا. غير أن الأخيرة تفرّعت عامياتٍ قُيّض لها أن تصير لغات وهو ما لم يُكتب مثيله لمثيلاتها. والحال ان كلمة "عربية" ظلت النعت الذي يعيّن الكلاسيكية العربية في سائر أطوارها كما يعيّن اللهجات على تنوعها. وفي سائر العالم الاسلامي تمكنت لغات من البقاء على قيد الحياة تترجّح بين الأمازيغية البربرية غرباً والايرانية الفارسية شرقاً. لكن العربية، ولأسباب تتعلق بالدين والثقافة، ظلت مصدر الفقه والتشريع والمفاهيم في معظم هذه اللغات - الثقافات. ولئن عاشت العربية لغةً للدين والقانون، والفارسيةُ للحب وعاديات الحياة، فان التركية اتسمت بكونها لغة القرار والحكم والسيطرة، اي لغة الديوان والبيروقراطية. لكن لئن عبرت النزاعات السياسية والجماعية عن نفسها باللغة في احيان كثيرة، وهو ما بلغ اقصاه في التتريك التركي، فان كلمة "وطن" بالعربية تعني مكان الانتساب، قريةً كانت او بلدةً، اكثر مما تعني البلد بأي معنى حديث. والعواطف حيال الوطن، كما خلّفها لنا التراث، لا تنطوي بالضرورة على دلالات سياسية. فهذه الاخيرة، بما فيها الموت فداء الوطن، هي من محمولات الثورة الفرنسية ومن تأثيراتها. وبالمعنى نفسه ففي مقابل حكم بلد كفرنسا او انكلترا، عرفت التجربة الاسلامية الامارة والرئاسة والمُلك على جماعة المؤمنين الذين يفيضون عن وطن وامة بالمعنى الغربي للمصطلحين. واذا ما نظرنا بمزيد من الدقة، وقارنا بين الخريطتين السياسيتين لاوروبا والشرق الاوسط، تبينت لنا فوارق مهمة. فبين الدول ال25 التي تتشكل منها اوروبا، سمة مشتركة لا تشذ عنها الا قبضة من الدول الصغرى كبلجيكا وسويسرا وقبرص. والسمة أن اسم البلد او الامة هو ايضا اسم المجموعة الاثنية السائدة فيه واحيانا الوحيدة. لكنه ايضا كثيرا ما يكون اسم اللغة المستخدمة في ذاك البلد، واحيانا فيه وحده. واذا كانت تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا استثناءين ملحوظين، طالما حملا اسمين حديثين لكيانات وطنية وثقافية قديمة، فاولاهما تعرضت لتقسيم هادىء والثانية لحرب تقسيمية. هذا المُركّب الاوروبي، الاثني والترابي واللغوي، وجد لقرون عدة. وبعض البلدان، كانكلترا وفرنسا والسويد واسبانيا، احرزت وحدتها الوطنية وسيادتها قبل قرون. لكن حتى البلدان الكثيرة التي لم تصبح في وقت مبكر دولا سيدة، كانت لديها اسماء ولغات وثقافات وحس قوي بالهوية الترابية والسعي الى اهداف وطنية. على ان المظهر الذي استقر عليه الشرق الاوسط، بعد تقلبات الاحتلالات والاستعمارات والاستقلالات، خادع قليلاً من منظور التساوي مع الدولة الاوروبية. فمن بين دوله اليوم هناك ثلاث فقط يصح فيها التضافر الاوروبي بين الأمة والبلد واللغة: جمهورية تركيا التي يقطنها اتراك يتكلمون التركية، والعربية السعودية التي يقطنها عرب يتكلمون العربية، وايران التي يقطنها ايرانيون يتكلمون الايرانية. غير ان الخلاف الآخر مصدره ان دول الغرب كانت في التاريخ على صورة اقرب الى ما هي عليه اليوم من مثيلاتها في الشرق الاوسط. يصح هذا حتى في البلدان التي لم تحقق وحداتها الوطنية، او استقلالاتها، الا متأخرة كألمانيا وايطاليا وبولندا. وبينما استُمدت اسماء البلدان الغربية من لغاتها، استُمد معظم اسماء بلدان الشرق الاوسط من عمليات اعادة تركيب واعادة صوغ للاسماء القديمة التي يجوز الاجتهاد في امرها. واذا انطبق هذا على اسماء ليبيا وفلسطين، فاننا نجدنا حيال اسماء اخرى لأمكنة تم تعميمها وطنياً: فلبنان جبل، والاردن نهر. ولئن ظهر، في هذا، شيء من الشبه باميركا، فمنطقة الشرق الاوسط تختلف لجهة انطوائها على ما لا يحصى من حضارات قديمة سابقة على الاسلام. مع هذا فهي حضارات ميتة او شبه ميتة او يراد تمويتها. وهي، من ناحية اخرى، منطقة حافلة بكمٍّ هائل من المنافسات والنزاعات بين مدينة واخرى، او بلدة وبلدة، او قرية وقرية. وهذا يمتد من منافسات اصفهان وشيراز، ودمشق وحلب، الى التشكيلين الاردني والفلسطيني في المملكة الاردنية. ومن ناحية ثانية، اذا ما تم، مع وفادة الغرب وبعثاته ومدارسه ومعلميه، شيء من التعرف الى المواضي القديمة للمنطقة، وهو ما لعب فيه متعلمو الاقليات دورا ملحوظا، فان المشهد بكامله تغير. ذاك ان مصر، مثلا، التي كانت تلي تركيا في انفتاحها على الغرب، انكمشت وانعزلت وصارت تنظر بعداء الى الغرب والى تاريخها القديم على السواء. والشيء نفسه يصح في ايران، فيما استخدم العراقُ التاريخَ القديم بما يتلاءم مع السياسات الحالية لحاكمه صدام حسين. وقصارى القول ان عدداً من التعريفات الذاتية وجدت دائماً، ولو شاب وجودَها قدر من العداء والتضارب في هذه الفترة او تلك. ففي وسع المرء ان يعرّف نفسه، تعريفاً يخاله غير منقوص، ببلدته او منطقته او بلده او قوميته او دينه واحياناً مذهبه. واذا تصارعت المواضي الكثيرة لبلد واحد في ما بينها، فقد امكن ايضاً ودائماً ان ينشأ صراع بلدين على ماض واحد، كما كانت حال ايرانوالعراق ابان حربهما. بيد ان الدولة التي تكتسب مزيدا من القوة في بلدان المنطقة جميعاً، هي التي يناط بها احداث درجات ابعد من التوحيد، لا سيما في ظل اللبس الذي لا يزال يحيط بكلمات "أمة" و"قومية" و"جماعة" و"ملّة" واستخداماتها، لا بل بكلمات "عرب" و"فرس" و"تُرك" وغيرها. لكن الدولة، وكما يثبت عدد من التجارب، لم تنجح تماماً في ان تستبعد نهائياً احتمالات التمزق والاحتراب الاهلي. غير ان الكلام على الدول لا يكتمل الا بالكلام على الرموز أعلاماً وأناشيد وغير ذلك. فعالمنا المعاصر مليء برموز الهوية، البصري منها والسمعي. واذا كانت رموز الدول قديمة في الغرب، فان بلدان الشرق الاوسط استكملت رموز دولها الا انها بدت اكثر تضميناً، من مثيلتها الغربية، للموروثات التراثية. وتحتل التقاليد الدينية - الثقافية موقعها في التأسيس العميق، والخفي غالباً، للمجتمعات والدول. وكما يجوز، في الغرب، الكلام على تقليد يهودي - مسيحي، يجوز في الشرق الكلام على تقليد يهودي - مسلم مصدراه التعويل على التشريع والالتزام الصارم بوحدانية الله. كذلك يجوز الحديث عن تقليد مسيحي - مسلم مصادره في الوحي والخلاص وعالمية الدعوة. وهذا لئن لم يحل، بطبيعة الحال، دون حروب الاديان الا ان المُلاحظ ان العالم الاسلامي الذي كان الأكثر تسامحاً في ما مضى، والذي كانت تقصده هجرات المضطهَدين في الغرب، أضحى أرضا تنطلق منها الهجرات الى البلدان الغربية التي اعتنقت ثقافة التسامح. وهذا التسامح الذي يعرّفه ويحدّه القانون، يضمن للمستفيدين منه الممارسة الحرة لاديانهم ودرجة بعيدة من الاستقلالية في تصريف امورهم الشخصية. ولئن تردّت اوضاع الاقليات واوضاع المجتمعات جميعاً تبعاً لتردي التسامح، فهذا لا يلغي خلو الحضارة الاسلامية من ظاهرة الهرطقة بالمعنى الذي عرفته، وقمعته، الحضارة المسيحية. فهذه الاخيرة لازمها انشقاق الكنيستين اليونانية والرومانية، وسلطتاهما المؤسسيتان ممن لم يبلغ اليهما انشقاق المذاهب والفرق الاسلامية، بما في ذلك السجال السني - الشيعي. ففي الاسلام، وفي معزل عن استثناءات قليلة، لم يحتل التكفير او القمع المؤسسي الرقعة التي احتلاها في المسيحية. فاذا قورن الانشقاق الكاثوليكي - البروتستانتي بمثيله السني - الشيعي بدا الثاني اشد ارتباطاً بسؤال: الحكم لمن؟، والاول اكثر ارتباطاً بقوى وبرامج ومواقف وتأويلات وطرق اشتغال مؤسسي آسرة تماماً للبشر. وبالجملة كان العالم الاسلامي سابقاً على اوروبا حتى القرن السابع عشر، ومذاك شرع يتحسن ببطء وتدريج وضع غير المسيحيين في العالم المسيحي، وشرع يسوء وضع الذميين في العالم الاسلامي. فحين انهارت السلطنة العثمانية بقيت المسائل التي علّقتها ماثلة ومحتقنة. وفي ما بين الثورة الجمهورية التركية في الربع الاول من القرن والثورة الاسلامية الايرانية في ربعه الرابع، تتململ الهويات الكثيرة وتتصارع وتتجانس، تاركةً لبرنارد لويس ان يصفها ويصف رقصة تناقضاتها بثقافته الموسوعية ولغته الرشيقة، انما ايضاً بقدر من التثبّت في التاريخ وقدر آخر من الاغفالات والتعاطفات مما يوشّي اطراف نصّه المهم والجميل ويسيء اليه قليلاً. * كاتب ومعلّق لبناني.