في كتابه "أمه تواجه عصراً جديداً" الصادر في تونس عن دار البستان للنشر سلسلة أبعاد، 150 صفحة من القطع المتوسط، استجاب الشاذلي القليبي لطلب الناشر ايجاز سيرته الذاتية في بضعة أسطر، فكتب على الغلاف الأخير بخط يده "علّمتني ]المدرسة[ الصادقيّة اللغة العربية وثقافتها، وألهمتني "السوربون" الاعتزاز بتراث بلادي وأمتي، وأعطتني "الأستاذية" فرصة مزيد التعلّم. أما الإذاعة والإعلام فقد وجدت فيهما منفذاً الى الآخرين، وأما "الشؤون الثقافية" ]الوزارة[ فقد أعطتني وسائل عديدة لخدمة ثقافة تونس وتراثها. وأما "الأمانة العامة" ]لجامعة الدول العربية[ فمكّنتني من تجربة فريدة ألهمتني مدى بعد الشقة بين الواقع والأمل". ما بين الواقع والأمل أيضاً، تتحرك كتابة الشاذلي القليبي في طرح مواضيع الكتاب: رسالة الكاتب، الشعر العربي بين الأصالة والحداثة، رسالة المجامع اللغوية، الترابط بين النهضة الثقافية والنهضة الاقتصادية والاجتماعية، بعض الإشكاليات المتعلقة باللغة العربية، ثقافتنا العربية في خضمّ العولمة، هل نحن أمّة؟ واتحاد المغرب العربي. أول ملاحظة تتبادر الى الذهن أن مشاغل المؤلف تجعل كتابه من الكتب القليلة التي ما زالت تهتم، في تونس، بالهمّ القومي، ابتداء من اللغة العربية. وذلك من دون الاقتصار على طرح المواجهة، مباشرة بين الكيانات القطرية والعولمة، كما يحدث هذه الأيام. ولا شك أن ذلك راجع، بالأساس، الى نشأة المؤلف وتكوينه أولاً، والى مهامه الحساسة السابقة: اللغة العربية، الثقافة، المسؤولية القومية. بين الواقع والأمل، وربما بين "المرارة" والأمل، لا تخفي سطور الكتاب أسلوب الشاذلي القليبي في تقديم أفكاره باعتدال واضح، يغلب عليه الاستدراك الدائم "لئن... لكن..." والنظرة "الديبلوماسية" الى الأمر الواقع. ولن يكون الأمر كذلك في نظرته الى الشعر العربي الحديث، رغم استدراكاته الدائمة، كما سنرى بعد قليل. الالتزام والجبلة من عتبة "الالتزام" تبدأ افتتاحية الكتاب تحت عنوان "رسالة الكاتب" وفيها يتعرض المؤلف الى تطور فكرة الالتزام في الكتابة من المقاصد الدينية الى وظيفة الكتابة ذاتها. وسوف يصرّ على ذكر اسم جان بول سارتر، ونقله صوتيّاً عن الفرنسية، أي بحرف الصاد صارتر في أكثر من موضع، على رغم انتشار اسمه عربيّاً، وبالمناسبة نشير الى متانة الأسلوب الذي تأتي به لغة القليبي مع أخطاء قليلة تكررت في الكتاب مثل "تظافر" التي ترد بحرف "الظاء" مرة، وبحرف "الضاد" مرة أخرى ص 59 وكذلك "الدنياوية والأخراوية" ص 130، ولا حاجة للألف فيهما، وخصوصاً كلمة "حظيرة" التي كثيراً ما تكتب "بالضاد" في وسائل الإعلام التونسية المكتوبة والصحيح أنها تستلزم "الظاء". بعد التعرض الى الالتزام كما جاء عند سارتر، يتوصل المؤلف الى أفول تلك الفكرة وعودة التقييم بالمعايير الفنية والفكرية "دون لزوم ما لا يلزم من نضال في سبيل مذهب أو قضايا أو قيم معينة". فمادا تبقى من رسالة الكاتب؟ يرى القليبي أن الكاتب لا يزال يحمل رسالة "لكن القدرة على أداء هذه الرسالة غير منوطة باختيار الكاتب، فهو مسخّر بجبلته لنوع من الأدب دون غيره غالباً. وهذه الجبلة هي التي تتحكم في ما له من مواهب وقدرات"، ويضيف تمييزاً ما بين نوعين من الكتابة: "فبعض الكتّاب ملهمون الى ما يفيد الناس وبعضهم مدفوع الى ما ليس منه جدوى سوى الفن والجمال والإبداع"، وكأن هذا النوع من الكتابة الإبداعية "لا يفيد الناس" وليس له نفع استراتيجي وحضاري خصوصاً وأن المؤلف سوف يربط في ما بعد بين النهضة الثقافية والنهضة الاقتصادية والاجتماعية. ولعلّه عمد الى هذا الفصل والتمييز ليبرهن على أن الالتزام القسري، ولا سيما الالتزام السياسي الإرادي، كثيراً ما يأتي بعكس "جبلّة" الكاتب فيقضي على أدبه. ويستشهد القليبي في هذا المجال بكتابات سارتر الأدبية التي يرى أنها "قد طواها النسيان" مقارنة ببلزاك وهوغو وغيرهما. ويخلص الى القول بأنه "ليس للكاتب أن يعطي أولوية لعنصر الالتزام على قوى الإلهام، فيطغى عليه التكلّف ويغيب عنه ما به يكون البيان سحراً". الشعر العربي ان مفردات مثل "بيان" و"جبلّة" و"إلهام" و"سحر" و"قريحة" سوف تهيىء مدخلاً لفصل آخر عن "الشعر العربي بين الأصالة والحداثة" لتبيّن منطلقات الشاذلي القليبي و"مراوحاته" الأدبية. فهو يتحدث عن الشعر العربي ضمن اشكاليتين: التخلي عن عمود الشعر، والتأثر بالترجمة، أي بالثقافات الغالبة كما يوردها مستأنساً برأي ابن خلدون في غير موضع. فبالنسبة الى "هؤلاء الذين تمرّدوا على الشعر العمودي ونبذوا بحور الخليل، غاب عنهم أن الشعر، ليكون في القمة من الأدب الإنساني، لا بد أن يكون ابداعاً غير مسبوق، وتعبيراً عن تجارب نابعة من أعماق النفس" كما غاب عنهم أن غيرنا من الأمم، ليهتموا بإنتاجنا الأدبي عامة والشعري خاصة، ينبغي أن يجدوا فيه منحى طريفاً واضافة الى ما عندهم، ولا تغرنا كثرة التراجم الى لغات عالمية، فهي، بالنسبة الى الثقافات المتقدمة، قد تكون وسيلة "سوسيولوجية" لمعرفة أحوال شعوب يهمهم الاطلاع عليها". وبالنسبة الى المتأثرين بالشعر الغربي يرى المؤلف أن شعرهم "وان بلغ أحياناً درجات عالية من الجمال، يبقى بعيداً عن الحس الفني العربي، منفصماً عن بيئته الثقافية" ذلك أن ثقافتنا العربية لم تشهد ما شهدته الثقافات الغربية من تطور فكري ومسارات باطنة أثرت إثراءً عظيماً الأدب والشعر وسائر الفنون الموسيقية والتشكيلية". غير أن أسلوب الاستدراك، وبالتالي الاعتدال، عند الشاذلي القليبي يجعله لا ينكر ان اطلاع ادبائنا على الفنون الشعرية الغربية كان له ايجابيات لأنه حرّك قرائحهم ولكن! كانت له أيضاً سلبيات، إذ أوقع الكثيرين في أسر تلك النماذج، فزهدهم فيما عندهم، وجعلهم ينسجون على منوال غريب عن بيئتهم الثقافية". وتتأكّد هذه "البينيّة" في مسألتي "الخطابة" و"التأثر" حتى لتكاد تبلغ التناقض: * "لغتي المجدّدون من شعرائنا اقبالاً واسعاً في مهرجانات شعرية لكن! ذلك يعود غالباً الى الأسلوب الخطابي...". * "ليس صحيحاً ان الشعر العربي لا يقوم إلاّ على فنّيات خطابية...". * لا أراني في حاجة الى التأكيد بأني لست معترضاً على التأثر بالنماذج الأدبية الأجنبية لكن! الذي قصدت اليه هو أن هذا التأثر لا ينبغي أن يؤول الى انفصام عن الحس الشعري العربي". * لا أرى ضيراً على روحية الشعر العربي من استعمال بعض الأساليب التي يقوم عليها الشعر الحديث في أوروبا وأميركا - لكن - بشرط القدرة على تطويعها والملاءمة بينها وبين الجمالية العربية". * "ليس أعمق أثراً في تغيير جوهر ثقافة ما من اقحام جماليات دخيلة عليها، غير مطوعة ولا منسجمة مع روحها". ولا شك ان ارتباكنا في تلقي مثل هذه الملاحظات التي تبدو عامة للوهلة الأولى، انما يعود الى نسبية تحديد مفاهيم مثل "الحسّ الشعري العربي" و"الجمالية العربية" في ثباتها أم في تحوّلها؟ أي أن المسألة، في كتابنا هذا "أمة تواجه عصراً جديداً" ذات علاقة وطيدة بمنطلقات الكاتب الشخصية من جهة، ومثله الأعلى الشعري ماضياً وحاضراً. ويبدو أنه يقف عند "أدباء المهجر" تحديداً. فهو ينصح "النّابِتَة" - تسمية الشباب عند الجاحظ كما يوضّح لنا! - "بأسوةَ ألصق بهم" في أدباء المهجر "وقد تأثروا هم أيضاً بالمناهج الغربية، لكنهم هضموها، وألفوا بينها وبين الذوق العربي وصناعة الشعر الأصيلة". ومن البديهي في المحصلة ألا نطالب المؤلف برأي منحاز الى شعر أقرب من شعر المهجر، فإذا كان في شعر التفعيلة وهو لا يسميه كذلك بل يعتبره محدثاً "خروج عن الحسّ الشعري العربي" فمن باب أولى ألا ينزل الشعر "الى منزلة النثر. فلا يخلو شعر من دربة وصناعة - قديمة كانت أو مستحدثة - من دونها "ينتثر" وقد أريد له أن يكون بديعاً، يهزّ النفوس طرباً، بتحريك العاطفة وتجييش المشاعر الكامنة". ويختم القليبي هذا الفصل سامحاً للفكر أن يتأثر بعكس الشعر، وما هو ممكن في الفلسفة غير ممكن في الثقافة والحضارة! يقول "ومثل الثقافة في ذلك مثل الحضارة، فإن تبنّي قيم غريبة عن الأمة، واقتباس عادات غير متآلفة مع تراثها، قد ينال من أصالة هويتها، وقد يطمس من اشراقها وحرية ابداعها إلاَّ ما كان من فكر فلسفي: فالتلاقح فيه قائم على حوار بين مذاهب واجتهادات منبعها العقل، وسندها مسؤولية المفكّر في اختيار ما يراه" مشاكل اللغة العربية ومن الشعر "ديوان العرب"، يتوغل المؤلف منهجياً في مشكلات اللغة العربية ورسالة المجامع اللغوية العربية مبدياً اقتراحات تتعلق بضرورة ايجاد صيغ للتنسيق بين المجامع القائمة حالياً "بصورة فعلية"، "لا مراسمية فقط" واشراك "الخاصة من العموم" من أساتذة وصحافيين وأهل العلم والاقتصاد والإدارة لمعالجة بعض الكلمات التي شاعت وعمّت بها البلوى مثل "الخصخصة" في المشرق، و"الخوصصة" في المغرب وكلتا الكلمتين - كما يقول - على قدر من الوحشية وقلة الذوق. وإذ يربط الشاذلي القليبي بين النهضة الثقافية والنهضة الاقتصادية والاجتماعية، يتوقف مطولاً عند بعض الإشكاليات المتعلّقة باللغة العربية، ويحددها في ثلاث: الثنائية بين اللغة الفصحى والألسنة الدارجة في كلَّ قطر من أقطار الوطن العربي، اشكالية الفصحى نفسها، وهل هي لغة واحدة، وما يطرأ عليها من تطورات ومن تغييرات ومن فساد أحياناً، وأخيراً رسالة اللغة. يربط القليبي أيضاً بين "تراجع الشقة بين الفصحى والدارجة" من جهة، وبين "عوامل ظهرت منذ نحو عقدين أو ثلاثة جعلت لسان التخاطب يضعف ويتدهور معنى وشكلاً" وهو ما يطلق عليه المؤلف "التلوث اللغوي والثقافي" الذي يهدّد أجيالاً قادمة توشك أن تتكلّم "رطانة متفاقمة العجمة". وإذ يعيد بعض الأسباب الى التأثر بالغالب والسباق المحموم الذي دخلت فيه أغلب أقطارنا للخروج من التخلّف، يذكر أن "هذه الظاهرة يلاحظها اخواننا من المشرق بامتعاض أو سخرية. وقد يدخلها بعض المشارقة في سياق ما يعتبرونه حقيقة راسخة" وهي أن المغرب العربي تغلب على لسانه الفرنسية" ثم يؤكد رأياً شائعاً في تونس يذهب الى أن اللهجة التونسية من أقرب اللهجات الدارجة الى الفصحى. ويبرّر المؤلف صعوبة فهمها من "إخواننا المشارقة" بكون "أهل الشمال - والعاصمة بخاصة - يسرعون التلفّظ ويبتلعون أكثر الحركات الوسطية. فيحصل من ذلك ايهامات، ونسق في الربط بين الألفاظ يبدو لأهل المشرق غريباً". مع ذلك يمكن ذكر عوامل أخرى - في رأينا - تحول دون الفهم، منها كثرة الدخيل المتوسطي من تركيا، اليونان، مالطا، ايطاليا، اسبانيا وفرنسا واستخدام الكلمات الفرنسية مباشرة مع تحريف في النطق - على المستوى الشعبي - حتى من طرف الشيوخ وأهل الجنوب الذين يقول المؤلف أن لهجتهم الدارجة أنقى وأصفى وأقرب الى الفصحى. وربما كانت كذلك. أما اليوم فيكفي في هذا المجال تسمية المبتكرات والمصنوعات بالفرنسية مباشرة كما ترد في الدارجة التونسية الشعبية، بعيداً عن المتعلمين والمثقفين. ويمكن أن نذكر طرفة تونسية تتعلق بامرأة تزوج ابنها من فرنسية فأرادت أن تعلمها العربية. بدأت بالصالون والتلفزيون وانتهت الى الفريجيدير والماشين آلافيه والغاز الخ... فاكتشفت كنّتها الفرنسية أنها تفهم العربية!. والملاحظة الثانية التي نقدّمها في هذا السياق تخصّ كثرة الانزياحات التي تلحق باللهجة التونسية وتحرّف المعاني الأصلية للكلمات أنجّم = أقدر، عظمة = بيضة، صوت = سمك... ممّا يزيد في صعوبة تلقيها مشرقاً. وفي تعرض المؤلف الى رسالة اللغة الفصحى يؤكد أنها "الأداة الجامعة بين الشعوب العربية قاطبة وفي هذا الاعتبار فرسالتها قومية وحضارية باعتبارها أداة ثقافة وعلم تعزّز الرسالة القومية. ويستغرب موقفنا المزدوج في اجتناب أدنى لحن عند التحدّث بالإنكليزية أو الفرنسية، واستهتارنا بالأخطاء لدى التحدث بالعربية أو كتابتها. كما يشير الى التزام الشخصيات الرسمية في أوروبا لغة فصيحة عالية المستوى. وبعد معاينة الأوضاع العربية الراهنة التي أعقبت "زلزال الخليج" ينتقد القليبي المواقف اليائسة المخالفة للمصلحة الوطنية لكل دولة من دولنا. وكل واحدة منها، إذ بقيت منفردة، معزولة في تعاملها مع الخارج، ستكون عرضة للنهب الدولي، وفريسة للقوى العظمى التي لا ترحم، ولا تعتبر غير مصلحة شعوبها، أليست المصلحة الحقيقية تدعو كلّ دولة من دولنا الى التفكير في طريقة للخروج من المأزق الذي تردّت فيه العلاقات العربية منذ 1990؟". وفي مواجهة العولمة يشير الى أن عملية التنمية، في كل شعب من شعوبنا، تصطدم بواقع دولي قاس، وهو أننا في عصر سمته الغالبة "عولمة" الاقتصاد، وسيطرة كتل عظمى عليه. فلا سبيل لشعب منفرد أن ينهض بشؤونه الانمائية إلا لائذاً بإحدى هذه الكتل اقتصادياً وتقنياً، ولكن أولاً وبالذات، لغويّاً وثقافياً". لذلك يرى أن شعوبنا ستكون مضطرة الى أحد خيارين: * أما التنمية كل على حدة "وهذا يفضي الى انحسار حضارتنا، وتقلّص استعمال لغتنا في شؤون الثقافة والفكر والعلم". * وإمّا، وهو الخيار الثاني، التكتل في ما بينها، لإنشاء قوة جماعية، قادرة على النهوض بالمسؤوليات الإنمائية، اقتصاداً وثقافة معاً". وفي فصل بعنوان "ثقافتنا العربية في خضم العولمة" يبيّن المؤلف أن للعولمة وجهين: 1 - فهي فرصة تاريخية أمام شعوبنا قد تساعدها على القفز على الهوة الشاسعة التي تفصلها عن كوكبة الأمم المصنّعة. 2 - ولكنها تنطوي أيضاً على مخاطر جمّة، ليس أيسرها ذوبان الشخصية، وانحلال رباط الأمة الذي هو اللغة والثقافة. ذلك أن العولمة تتجاوز الاقتصاد الى سائر المجالات. ولئن كانت ذات أثر واضح في تقريب الشقة بين الشعوب بوسائل مختلفة فإن المقابل هو سيادة نمط معيّن من الثقافة وانكماش ثقافات لها ثراؤها. ويناقش القليبي الإدعاءات الغربية حول السلام والإرهاب ثم يقدّم اقتراحات للنهوض بالثقافة العربية انطلاقاً من "مشروع قومي" يهدف الى الدفاع عنها، والى تنميتها وتطويرها ودراسة الآليات المؤدية الى ذلك في التربية والعلوم كما في الفكر والآداب. وللإجابة عن سؤال "هل نحن أمة؟" يستعرض الشاذلي القليبي مجمل العراقيل التي حالت دون تحقق الأمة على رغم توافر عدد من الشروط المشتركة، ويؤكد أن الانتماء الى أمة واحدة "لا يعني البتّة ضرورة اندماج دولنا في دولة واحدة" كما نذكر أن اتجاه التطور في العالم اليوم إنما هو نحو جدلية مزدوجة، تهدف الى ترابط الدول في شؤون معينة، والى تعميق اللامركزية في الحكم السياسي والإدارة الاقتصادية والتنظيمات الاجتماعية والثقافية". ويلح على ضرورة توافر شرط من دونه تذهب الجهود سدى "وهو أن تسود علاقات دولنا ثقة متبادلة". فكرة عمرها قرن في الفصل الأخير من كتاب "أمة تواجه عصراً جديداً" يتعرض القليبي الى اتحاد المغرب العربي، مقوماته ومشاكله وآفاقه المستقبلية. فيشير الى أن "مشروع الاتحاد بين أقطار المغرب العربي، فكرة تعود الى أوائل القرن، أذكاها الكفاح المشترك ضد الاستعمار، وأصبحت محوراً مهماً في برامج الأحزاب السياسية، وعلى رغم الخطوات المهمة منذ قرابة العقد فإن "الفتور" سرعان ما اكتنف المشروع. وفي تصنيف العناصر التي تجمع أو تفرق بين بلدان المنطقة، يذكر الوشائج الثقافية والحضارية، وكذلك اللغة واللهجات المتقاربة، والانفتاح على ثقافات المنطقة المتوسطية. كما يتعرض الى المشاكل "المشتركة"، ومن أكثرها الحاحاً، في نظره، الإزدواجية الثقافية وانتشار اللغة الفرنسية في المجتمع، وقضية التعريب، وانفراد كلّ دولة بمسيرتها الانمائية منذ الاستقلال، وغلبة التعاون مع أوروبا، وانصراف الشباب عن فكرة المغرب العربي، بعد انبهارهم بأنماط من العيش والثقافة والفن آتية من أوروبا وأميركا. وفي المجال الاقتصادي يذكر تماثل اقتصادات البلدان المغاربية، ما يقلّل، في رأي المعارضين للمشروع، من فرص التعاون والتكامل، وينشىء بينها نزعات تنافسية، خصوصاً عند التعامل مع الخارج. ويرى أنه ليس من الحتمي أن تبقى الأوضاع على هذا النحو في اطار خطة انمائية مشتركة، وجبهة متماسكة تكون أقدر على الحصول على شروط أفضل في علاقاتها مع الأسواق الخارجية. وما يقال عن الاقتصاد يشمل الانتاج الصناعي والفلاحي، وكذلك قطاع النقل والمواصلات أفقياً - أي بين أقطار المغرب العربي المرتبطة - بأوروبا، أكثر. وفي المجال السياسي يرى القليبي أن اختلاف الأنظمة بين دول المغرب الكبير "ظاهرة تنظيمية لا تعطل التعاون إذ جميعها يرتكز - مثل النظام الفرنسي على محورية الحكم". والعقلية الاتحادية تتطلب النظر الى المصلحة المشتركة، وطرح الخلافات المتراكمة، والابتعاد عن "الوحدة الاندماجية" المتسرعة، واستبعاد قطع العلاقات في أي مجال، مهما كان أمر الخلافات الثنائية، والى كلّ ذلك اقامة جهاز فعّال لبناء نظام اقليمي على النموذج الأوروبي، يكون ذا توجهات عربية وأفريقية، وقادراً على مواجهة المصالح الأجنبية.