لعله حدث ثقافي كبير بكل المقاييس أن يجتمع شاعران كبيران في أمسية شعرية واحدة، ولئن كان المحتفى به هو الشاعر السويدي الكبير توماس ترانسترومر بمناسبة صدور ترجمة أعماله الشعرية الكاملة بتوقيع قاسم حمادي عن دار «بدايات» السورية، فان أدونيس الذي راجع الترجمة وقدم لها، خطف، بدوره، الأضواء بوصفه شاعرا قادرا على انتزاع الإعجاب. تقاطر إلى قاعة مكتبة الأسد مساء الثاني عشر من شهر حزيران الجاري جمهور غفير، ليستمع إلى بعض من قصائد الشاعر السويدي المترجمة إلى العربية والتي قام بإلقائها، موفقا، الشاعر أدونيس الذي يعتبر بدوره، ضيفا، فرغم كونه سوريا لكنه لا يزور دمشق إلا مرات قليلة وفي مناسبات معينة، وهو إذ يحضر يجلب معه طقسا شعريا غائبا، فهو من الشعراء القلائل الذين يستطيعون إغراء الجمهور الكسول، وجذبه إلى فضاءات الشعر رغم كل ما يقال من ان الشعر يتراجع دوره في حياتنا ولم يعد «ديوان العرب». لكن أدونيس يثبت خطا هذا الاعتقاد، فقد كان لحضوره الشخصي مذاقا خاصا أضفى على اللقاء الألفة والتقارب، رغم مسحة الحزن التي تلف ملامحه، فالشاعر ضيف في بلاده، ضيف في المدينة التي احتضنت خطواته الأولى في عالم الشعر والفكر، ضيف على أهله، ومحبيه، وأصدقائه، وقرائه. وهو ضيف ملتبس الهوية رغم شهرته الواسعة، والتباس هذه الهوية تبلورت خلال السنوات، عبر سيرته الذاتية والإبداعية، فقد ولد الشاعر في قرية قصابين التابعة لمحافظة اللاذقية السورية عام 1930 لأسرة فلاحية. تتلمذ على يد والده، وبرع في حفظ قصائد المتنبي، والشريف الرضي، وتشرب بالتراث العربي الإسلامي في سن مبكرة .التحق بمدرسة (اللاييك) في مدينة طرطوس (الليسيه الفرنسية) بين عامي 1944 و 1946 وانتسب إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1948، تخرج في جامعة دمشق حائزا الإجازة في الفلسفة سنة 1954م، وبعد الخدمة العسكرية الإجبارية غادر سورية إلى لبنان مع زوجته خالدة سعيد سنة 1956 عقب اغتيال العقيد عدنان المالكي، واشتداد القبضة على أعضاء الحزب الذي كان منتميا إليه لتشهد بيروت ولادته الشعرية الحقيقية حيث نشر في صحافتها، وخاض معارك فكرية كثيرة، وساهم بقوة في الحياة الثقافية في بيروت عبر مجلة «شعر» أولا، ثم اصدر بعدها مجلة «مواقف». غادر لبنان إلى باريس سنة 1986م، وعمل أستاذا زائرا في جامعة السوربون، وغيرها من الجامعات الأوروبية. ولمع اسمه كواحد من الشعراء الكبار إذ ترجمت أشعاره إلى مختلف اللغات الحية، وحاز الكثير من الجوائز الأدبية الرفيعة. «هويات قاتلة» أسئلة كثيرة لطالما أثارها أدونيس خلال تجربته الشعرية التي تجاوزت النصف قرن، ولعل السؤال الإشكالي الأبرز يدور حول هوية هذا الشاعر الذي طمس الهويات القاتلة كلها ليختار لنفسه هوية تفصح عنها قصيدته، هوية تبحث عن الحقيقة فحسب، وهو لا يني يثير هذه الشكوك، فقد كتب في كتابه (مقدمة للشعر العربي): «حين تنغلق أبواب الحرية تصبح الخطيئة مقدسة»، وهو بذلك يسير على خطى جده أبي نواس الذي قال بدوره: «أنفت نفسي العزيزة أن تقنع إلا بكل شيء حرام»!!. لأدونيس خصوم كثر، ولعل أساس هذه الخصومة تعود إلى بداياته الأولى حين انتسب الشاعر إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي في أواخر الأربعينات لكنه سرعان ما ترك الحزب بعدما تحول - كما يذهب الشاعر - «إلى مؤسسة كبقية المؤسسات ويحمل جميع أمراضها»، ومنذ ذلك الحين بدأ سوء الفهم والعداء لأدونيس الجريء والمتمرد، والمفارقة أن خصومه لا يستطيعون وضعه في خانة محددة فالتهم إذا كانت تهما حقا، تتباين من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار فهو يتهم مرة بالشعوبية، وأخرى بالقومية، وفي ثالثة بالماركسية والشيوعية حتى انه يتهم ب- «الامريكاني»، والخميني، والمناصر للتطبيع ... الخ ومثل هذا التأرجح والتطرف من قبل المثقفين العرب تجاهه نابع من أن المثقفين العرب - كما يوضح أدونيس - لا يفهمون معنى أن يكون الإنسان مستقلا «فأنا لم يحدث لي أن ارتبطت يوما بأي نظام سياسي عربي، ولم يكن هدفي أن انتقد الأنظمة. فمشكلتي أوسع من النظام وحدوده، مشكلتي ثقافية - حضارية...إن عدم ارتباطي بنظام ما هو في أساس الحملة التي شنها علي مثقفون ارتبطوا بالأنظمة حتى يغطوا تورطهم هم»، بهذا المعنى هو شاعر يصعب تصنيفه فليس مع النظام وليس ضده، وهمومه خارج الهموم العامة التي تشغل المثقفين العرب، وضالته هي الحقيقة، ولعل مشاركة الشاعر مع أدباء يهود وآخرين في مؤتمر غرناطة عام 1994 أسهمت في تأجيج نار العداء فقد اتهم بالتطبيع حينها، وهذه الاتهامات ربما دفعت الشاعر إلى المزيد من البحث والتحدي حتى غدا شاعرا إشكاليا لا يطمئن إلى يقين، ولا يسلم بالثوابت . والواقع أن من يقرأ أدونيس سيدرك بان جانبا كبيرا من هذا العداء يعود إلى منهج الشاعر، وطريقته في مقاربة اكثر القضايا حساسية مثل: الدين، والتراث، والحداثة، والتصوف، وفي نقده اللاذع للواقع العربي، وفي تناوله قضايا مسكوت عنها في الثقافة العربية المعاصرة، فلم ينظر أدونيس إلى التراث نظرة جامدة على أنها مسلمة بل حاول خلخلة هذا التراث، ذلك أن التراث هو بالفعل كذلك يحوي تعددا وتنوعا هائلين لا يمكن النظر إليه بوصفه واحدا، ومن هنا يتساءل الشاعر: من الذي يمثل التراث؟ هل يمثله المتنبي أم أبي تمام ،امرؤ القيس أم أبي نواس، الإمام الشافعي أم الرواندي، المعري أم الجاحظ... وقدم دراسات حول هذا التراث غيرت من خلالها المفاهيم الثابتة، والجامدة، ولعل دراسته «الصوفية والسوريالية « تعد واحدة من الدراسات الهامة التي يبين فيها تأثر السوريالية الأوروبية في مطالع القرن العشرين بالصوفية الإسلامية العربية التي سبقتها بعشرة قرون، وفي هذا السياق يعتقد أدونيس بأن «الانطلاق من المسلمات القائمة في التراث لا يؤدي إلى فكر خلاق وحقيقي. كل فكر حقيقي يجب أن ينطلق من نقد المسلمات ذاتها، ومن زلزلة هذه المسلمات بحيث نبدأ من الدرجة الصفر إذا أردنا بناء فكر عربي جديد». ورغم العاصفة النقدية التي أثارها كتابه «الثابت والمتحول «1974 إلا أن هذا الكتاب باعتراف الكثيرين أسس لقراءة التراث قراءة مغايرة، وأحدث انقلابا في بنية التفكير، فالمفكرين العرب - في رأيه - لم يطرحوا أسئلة عميقة على المادة الأساسية التي تكون الفكر العربي»، ويضيف الشاعر بان اختياره لمصطلحي الثابت والمتحول كان إجرائيا لم يقصد منه إعطاء مقولات نهائية، فالثابت لم يكن ثابتا على مدى التاريخ العربي، والمتحول لم يكن، هو الآخر، متحولا على مدى هذا التاريخ. هما مصطلحان رأيت انهما قد يضيئان مسار حركة فكرية وسياسية واجتماعية اكثر من غيرهما، ووصلت إليهما من داخل التراث العربي، فالثابت مفهوم أساسي في الفكر الإسلامي، والمتحول قياسا إلى الثابت، هو الاتجاه الذي يحاول أن يقدم تأويلات لهذا الثابت تجلى ذلك في الشعر وفي التصوف». وحين اصدر أدونيس «الكتاب: أمس المكان الآن «1995 أثار موجة جديدة من الغضب بحجة أن عنوان «الكتاب» يطلق على القرآن الكريم فحسب، لكن أدونيس يرد بهدوء من خبر التراث العربي الإسلامي: «إن تسمية الكتاب سبقت القرآن. الكتب سوابق. والقرآن سمى أصحاب هذه الكتب «أهل الكتاب»، وهو يعني أن ثمة كتبا سبقت القرآن. ثم جاء القرآن فسمي كتابا. وأتى سيبويه فسمى كتابه في اللغة العربية (الكتاب). أنا أخذت اسم «الكتاب» حتى أتكلم فيه عن علاقتي بالحضارة العربية وعن فهمي لهذه الحضارة، وأتحدث عن كل ما أفكر فيه بحيث يكون كتابا شبه شامل، وشبه كامل ». قطيعة معرفية مع التراث! ويتهم الكثير من النقاد أدونيس على أساس انه يدعو إلى قطيعة معرفية مع التراث، وهو ما يثير الاستغراب لدى النظر بموضوعية إلى مجمل ما كتبه أدونيس الذي أسهم - على عكس ما يقال - في إظهار جمالية هذا التراث، وتنوعه، وتعدده فهو يقول: «لا تستطيع أن تخلق جمالا جديدا بلغة تجهل تاريخها الجمالي، فالحداثة مرتبطة بالقديم ويستحيل، مثلا، أن تجد شاعرا إنكليزيا يقول باعتداد: انه لا يقرأ شكسبير، ولكن كيف يمكن لشاعر عربي شاب أن يقول: أنا لا أقرأ المتنبي أو لا أقرأ امرؤ القيس...» من أين له أن يكتب الشعر، إذا ؟ مادام يكتب باللغة العربية التي كتب بها أسلافه يستحيل أن يكون شاعرا إلا إذا انبثق من تاريخية هذه اللغة». وله آراء في الحداثة وردت في كتابه « فاتحة لنهايات القرن» 1980م تعلي من شأن التراث، فالإبداع أيا كان زمنه هو حديث ولا يشيخ، وبهذا المعنى فان أبى نواس وأبي تمام - في رأي أدونيس - اكثر حداثة من أي شاعر معاصر لا يفقه لغته العربية وجمالياتها. ويعترف أدونيس بتراجع الشعر أمام الأشكال والوسائل التعبيرية الأخرى مثل التلفزيون، والمجلة المصورة، والإنترنت...فهي تأخذ مساحات وتستقطب جمهورا لكنه متفائل بمكانة الشعر، فهذا المناخ السائد على المستوى العالمي يعمق عند قطاع كبير من الأفراد الاهتمام بالشعر بحيث ينقلب الاهتمام بالشعر من كونه اهتماما كميا إلى أن يصبح اهتماما نوعيا و«هكذا فان ما يخسره الشعر أفقيا أظن انه يربحه نوعيا»، ولا خوف، في رأيه، على الشعر بوصفه الشكل الأعلى الذي تتمثل فيه هوية الإنسان. عود على بدء مهد أدونيس، قبل الإلقاء، بكلمة مؤثرة عبر فيها عن سعادته بان تترجم قصائد الشاعر السويدي أخيرا إلى العربية بعد أن ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، وان تحتفي به دمشق مدينة الشعر والثقافة، وأضاف أدونيس محاولا تسليط الضوء على عوالم الشاعر السويدي توماس ترانسترومر، فقال «إذا كانت الصورة الشعرية فجرت الكلام فإننا نجد هذا الفجر في شعر توماس»، منوها «قلما نرى هذا الاقتران العضوي بين الكلاسيكية من جهة، والانفتاح على لغة الحداثة من جهة ثانية كما هي الحال لدى توماس». وتابع أدونيس بان «أشياء الحياة اليومية من ابسطها إلى أكثرها تعقيدا هي مادة الشعر لدى توماس، إضافة إلى عوالم الأنا الداخلية: الشعور، المخيلة، البحث، القلق والتساؤل... يختبره ويعيد النظر فيه ويمنحه شكلا ومعنى آخر» مختتما كلامه بالقول: «يحاول توماس أن يقول في شعره وضعه الإنساني، وأن يقدم هذا الشعر بوصفه فنا يفصح عن هذا الوضع. ولئن كانت جذوره الشعرية منغرسة في أرض الشعر، في أصوله الكلاسيكية والغنائية والرمزية، فانه في الوقت نفسه ينخرط في حركة الحداثة، واقفا على عتبة المستقبل. وهو في ذلك، لا يصنف ولا يؤسر في مدرسة. إنه، في آن، واحد ومتعدد. وفي هذا ما يتيح لنا أن نرى في شعره كيف أن المرئي واللامرئي، تركيب واحد تبعث من ذات الشاعر، كأنها عطر يفوح من وردة العالم». ويعد ترانسترومر الذي ولد في استوكهولم عام 1931م واحدا من أهم شعراء السويد والعالم، وهو مرشح منذ عشر سنوات لنيل جائزة نوبل في الآداب، درس الأدب وتاريخ الأديان. تعرض لجلطة دماغية، مطلع التسعينات، أقعدته وأفقدته القدرة على النطق، لتقوم زوجته مونيكا ترانسترومر التي كانت حاضرة في الأمسية، بالعناية به. أصدر اثني عشر ديوانا منها «ليلاً على سفر»، و«الأسرار في الطريق»، و«الجندول الحزين»، و«حاجز الحقيقة»، و«اللغز الكبير» وسيرته الشخصية «الذكريات تراني»... بدأت تجربته الشعرية مطلع الخمسينات حيث اصدر أولى مجموعاته الشعرية ( 17 قصيدة) وقدم نفسه من خلالها كصوت شعري بارز إذ اعتبر النقاد ان هذه المجموعة هي من افضل المجموعات الشعرية التي صدرت في السويد خلال عقد الخمسينات. وراح الشاعر يحافظ على هذه المكانة ديوانا إثر ديوان، وفاز بجوائز أدبية رفيعة وكثيرة، كما نال من كلمات المديح والإطراء ما لم ينله شاعر آخر فقد وصِف في مقدمة الطبعة الإنجليزية لأعماله الشعرية الصادرة في نيو جرسي بالولايات المتحدةالأمريكية عام 1987 بأنه «واحد من أفضل شعراء العالم»، كما قيل عنه بأنه «واحد من الشعراء الأكثر تفردا في العالم»، وأشار بعض النقاد إلى انه «أستاذ الصورة الشعرية في الشعر السويدي». ووصفه جوزيف برودسكي الحاصل علي نوبل الأدب عام 1987 بأنه «شاعر من الطراز الأول»، بينما يرى ديريك والكوت الفائز بنوبل الأدب عام 1992«إنٌ على الأكاديمية السويدية أن لا تتردد في منح ترانسترومر جائزة نوبل». معانقة الثقافات العالمية يتميز ترانسترومر بنزعة إنسانية رفيعة، وهو لا يقف عند حدود بلده السويد بل يتطلع إلى معانقة الثقافات العالمية جميعها، بوصلته في هذا السفر هو الشعر، ففي قصيدته يخترق الحواجز ويمحي الحدود ليصل إلى حالة من الصفاء الوجداني والإنساني قل نظيره، والملاحظ - كما أشار أدونيس في كلمته - ان ترانسترومر لا يثقل قصيدته بأي منحى ايديولجي أو سياسي، وينأى بنفسه عن الخطابة وعن أي نشاط سياسي، ذلك أن هاجسه الأوحد هو الاهتمام بجمالية قصيدته والاعتناء بالبلاغة الشعرية، دون أن يتجاهل ما يدور في العالم، فلئن ابتعد الشاعر عن اليومي والسياسي والعابر فانه غاص في أوجاع البشرية ومخاوفها وسعى كذلك إلى استبطان الذات وقراءة الهموم، والأوجاع، والخيبات، والتوق إلى معرفة الآخر والاقتراب منه، وسيلته في تحقيق هذا الهدف هو الشعر. يقول في حوار معه: في السويد اليوم ثمٌة نوع من المواجهة، ثمة ضغط من التكنولوجيا، من المتسلطين، من اللاشخصي والمنظّم والباهت، من أجهزة الكمبيوتر.هذا الضغط يجبر الناس على الدفاع عن شيء خاص، ثمين. الشعر يساعد على جعل هذا الثمين حيا». ورغم تميز صوته الشعري غير ان الشاعر لم يتورط في الإنتاج الغزير، فرغم تجربته الشعرية التي تجاوزت النصف قرن غير ان الشاعر لم يخط سوى 300 صفحة موزعة على اكثر من عشرة دواوين صغيرة الحجم، فالشاعر يؤمن بان قصيدة جميلة واحدة تعادل دواوين كاملة، ولذلك ركز على النوع بدلا من الكم فالقليل الجميل في رأيه أهم من الكثير الباهت، ولعل هذا الاحتفاء، والتقدير الذي يحظى به على مستوى العالم يثبت صحة رأيه.