سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الصومال بين نار الولايات المتحدة ومزاعم بن لادن وغموض "الاتحاد الاسلامي" . هل تقتص اميركا اليوم من قتلة جنودها في الصومال قبل تسع سنوات ؟ مقاتلو "الاتحاد الاسلامي"و"القاعدة" تسللوا من فوضى الحرب الصومالية لضرب الاميركيين ؟ الحلقة الرابعة
عرضنا في حلقة امس باختصار بدايات الحرب الاهلية في الصومال منذ سقوط نظام الرئيس محمد سياد بري العام 1991، بما في ذلك حال المجاعة حتى دخول القوات الاميركية الى هذا البلد في اطار "عملية اعادة الامل" في نهاية العام 1992. وتلا ذلك مباشرة انسحاب قوات حركة "الاتحاد الاسلامي" من العاصمة مقديشو واطرافها الى جنوب البلاد وشمالها، حيث اقامت معسكرات واعادت تنظيم صفوفها، كما استضافت عناصر من "الافغان العرب". ثم بدأت هذه القوات بالزحف سراً وتدريجاً الى العاصمة في نهاية 1993 مع بدء "عملية الاممالمتحدة الثانية في الصومال" يونوصوم -2. نعرض اليوم الخلاف بين قوات "يونوصوم -2" وزعيم "التحالف الوطني الصومالي" الجنرال محمد فارح عيديد الذي احدث شرخاً بين سكان مقديشو والقوات الدولية تسللت عبره قوات "الاتحاد الاسلامي" لتشارك في القتال ضد القوات الاميركية. وعن تلك الفترة قال اسامة بن لادن ان: "الفئة الوحيدة من غير الصوماليين، التي قاتلت الاميركيين في مقديشو هي الاخوة العرب المجاهدون الذين كانوا في افغانستان. الحكومة الاميركية كانت تعلم علم اليقين اننا نقاتلها، واعلنت ان هناك قوات متطرفة غير صومالية تقاتل، وكانوا يعنوننا". بدأت "عملية الاممالمتحدة الثانية في الصومال" يونوصوم - 2 رسمياً يوم الثلثاء الرابع من ايار مايو 1993، وحلت مكان "عملية رستور هوب" إعادة الامل التي كانت بدأت في التاسع من كانون الثاني ديسمبر 1992 بقيادة اميركية. وسلم قائد القوات الدولية التي كانت بقيادة اميركية الجنرال روبرت بي جونستون قيادة قوات التحالف الى الجنرال التركي شفيق بير قائد "يونوصوم-2"، ورفع علم الاممالمتحدة فوق مبنى السفارة الاميركية، المقر العام للعملية. وكانت "يونوصوم-2" العملية الاكثر طموحاً للامم المتحدة التي شارك فيها لاحقاً 28 الف جندي و 2800 مدني. ويتمتع جنودها بحق استخدام القوة، وهو تفويض منحه مجلس الامن لهذه القوات استناداً الى البند السابع من ميثاق الاممالمتحدة، وكان يستخدم للمرة الاولى في تاريخ عمليات المنظمة الدولية. ولم يقتصر التفويض على مجرد الدفاع عن النفس، بل نص على استخدام القوة لنزع سلاح الميليشيات وتثبيت السلام وإعادة بناء الهياكل السياسية في البلاد. وبذلك تحولت المهمة الانسانية للقوات الدولية في الصومال مهمة سياسية تمهد للمصالحة الوطنية وتشكيل حكومة. وكان ذلك بداية سقوط هذه القوات في مستنقع الحرب الصومالية الذي خرجت منه بعد عامين خروجاً مهيناً ومذلاً. وكان سبق تفويض مجلس الامن عقد مؤتمر دولي في اديس ابابا افتتحه رئيس الوزراء الاثيوبي ملس زيناوي في الرابع من كانون الثاني يناير 1993، تمهيداً لمؤتمر المصالحة الصومالية، وترأسه الامين العام للامم المتحدة آنذاك الدكتور بطرس غالي. وانتهت اعمال المؤتمر في الثامن من الشهر نفسه بقرارات ابرزها عقد مؤتمر للمصالحة في اديس ابابا في 15 آذار مارس 1993، تتولى "عملية" الاممالمتحدة في الصومال التحضير له، وإعلان وقف النار فوراً في كل البلاد. كل صومالي رئيس؟ وكان كل من زعماء الفصائل الصومالية ال 24 آنذاك يعتبر نفسه مؤهلاً وحده لحكم البلاد ولديه برنامج جاهز لذلك، وكان لدى حركة "الاتحاد الاسلامي" الصومالية برنامجها ايضاً. وصدرت في تلك الفترة فتاوى لرجال دين صوماليين تحرض على قتال الاميركيين. كما صدرت ايضاً دعوات من خارج البلاد تدعو المسلمين فيه الى "اخذ زمام المبادرة". ومن بين تلك الدعوات ما قاله رئيس لجنة القرن الافريقي في هيئة الاغاثة الاسلامية العالمية الدكتور محمد خالد دفتردار ل"الحياة" في السادس من كانون الثاني يناير 1993: "الحركات الاسلامية في الصومال لم يكن لديها ماض حتى يكون لها مستقبل، وهي تقتصر على افراد محدودين ومجموعات قليلة ليس لها دور على نطاق واسع. لذلك فإن مستقبلها يعتمد على قدرتها في تطوير نفسها واخذ زمام المبادرة في التعرف الى قاعدة اوسع وفتح باب التعامل مع الناس وليس حصر نفسها واقفال الباب امام الآخرين. وفي قدرة الحركات الاسلامية ان تتصرف باسلوب يجذب اليها المسلمين بدلاً من ان ينفرهم. واعتقد بأن معظم الحركات الاسلامية حالياً ينفر القاعدة الاسلامية العامة من التعامل معه". واضاف :"الصومال بلد مسلم، والاسس التي تقوم عليها اي مصالحة يجب ان تتسم بالافكار الاسلامية. ولن يخدم الصومال اي طريق سوى هذه الطريق". وبدأ كل من الاطراف الصومالية، بما في ذلك الاسلاميون، يستعد للدفاع عن مشروعه السياسي الخاص، فيما كانت "ىونوصوم -2" تحاول تنفيذ ما اتفق عليه في اديس ابابا. فاشرف الممثل الخاص للامين العام للامم المتحدة الادميرال جوناثان هاو في السادس من ايار مايو 1993 على اول اتفاق وقعه زعماء القبائل المتنازعة في مدينة كيسمايو لانهاء القتال ونزع الاسلحة في جنوبالصومال. ولكن عندما حاول الاميرال هاو تنفيذ العملية نفسها في مقديشو تحولت الى حرب ضارية بين القوات الدولية والميليشيات المحلية. واستغلت الحركات الاسلامية اندلاع هذه الحرب وتسللت الى العاصمة ليكون لها الدور الاكبر في قتال القوات الاميركية لاحقاً في نهاية العام نفسه. مقتل الجنود الباكستانيين وفي الخامس من حزيران يونيو 1993، قتل 23 جندياً باكستانياً وجرح 56 آخرين من القوات التابعة ل "يونوصوم-2" التي اصيب منها ايضاً ثلاثة اميركيين بجروح، كما قتل 35 صومالياً وجرح 131 آخرين في اشتباكات اندلعت في ذلك اليوم في الشطر الجنوبي من مقديشو بين قوات "يونوصوم-2" وقوات "التحالف الوطني الصومالي" بزعامة الجنرال محمد فارح عيديد يساندها سكان غاضبون على محاولة القوات الدولية احتلال اذاعة عيديد. وكانت تلك الاشتباكات اول مواجهة عسكرية بين قوات "يونوصوم-2" وفصائل صومالية، كما كانت الاعنف في العاصمة منذ بدء العملية الدولية بقيادة اميركية في الصومال في نهاية 1992. لكن الاشتباكات لم يدبرها سلفاً الجنرال عيديد الذي سبق ان اعتذر ل"يونوصوم -2" بعدما استولت قواته في وقت سابق على اسلحة الوحدة الزيمبابوية في مدينة بلدوين واعاد اسلحتها. وفعل الشيء نفسه عندما اعترضت قواته قافلة اغاثة الى مدينة بيداوه بحماية وحدة من القوات الهندية. لكن ذلك لم يمنع القوات الدولية من محاولة الاقتصاص من قتلة الجنود الباكستانيين ال 23. ففي الخامس من حزيران يونيو 1993 عقد مجلس الامن اجتماعاً طارئاً بطلب من باكستان وخوّل الى الامين العام بطرس غالي ب"اتخاذ كل الاجراءات اللازمة بحق جميع المسؤولين عن هذا الحادث لفرض سلطة فعلية على كل الصومال لعملية الاممالمتحدة الثانية في الصومال". وفي التاسع من الشهر نفسه، بدأت الاممالمتحدة بأول استعراض لقوتها في شوارع مقديشو منذ مقتل الباكستانيين، فمشطت قوات باكستانية ومغربية تدعمها قوات اخرى احياء في العاصمة، وفتشت منازلها منزلاً منزلاً وصادرت كميات كبيرة من الاسلحة واعتقلت عشرات من السكان لاستجوابهم. وفي اليوم التالي صرح الناطق باسم القوات الاميركية في الخليج بأن 4200 جندي اميركي غادروا الكويت في اتجاه الصومال. كما اكد الناطق باسم البيت الابيض دي مايرز ارسال اربع طائرات اميركية "اي سي-130" مجهزة لهجمات الليل الى الصومال "تسهيلاً لرد سريع" على مقتل الجنود الباكستانيين. بعد خمسة اسابيع فقط من تسليم القوات الاميركية قيادة القوات الدولية الى "عملية الاممالمتحدة الثانية في الصومال" يونوصوم - 2، عادت قوات "المارينز" لاتمام عمل لم تفرغ منه. ليل مقديشو تحول نهاراً فجر السبت 12 حزيران يونيو 1993 اندلع اول ضوء محولاً ليل مقديشو نهاراً إثر اسقاط المقاتلات الهجومية الاميركية "اي سي 130" الثلاث قذائف فوقها، فيما زحفت عناصر من "جنود النخبة" في "قوة التدخل السريع الاميركية" التابعة للفرقة العاشرة في الجيش 1200 جندي لتمشط شوارع العاصمة. وكانت اصوات طائرات الهليكوبتر "سوبر كوبرا اي آتش 1 دبليو" تطلق صواريخها على مواقع تابعة لعيديد. وعندما خرج اهل المدينة صباحاً الى اعمالهم، حلقت طائرات هليكوبتر "بلاك هوك" لتسقط قصاصات تدعوهم الى الانتفاضة على الجنرال عيديد، فنظم السكان تظاهرات ضد القوات الدولية والاميركية. واستؤنفت الغارات في اليوم التالي ودمرت مرآباً لعثمان عاتو. واطلقت القوات الباكستانية النار على تظاهرة ضد الاممالمتحدة وقتلت 14 صومالياً وجرحت 23 آخرين. ثم ظهر الجنرال عيديد في اليوم نفسه وسط مقديشو ليخاطب حوالى اربعة آلاف متظاهر من مؤيديه قائلاً: "انا فخور بشجاعتكم في الدفاع عن استقلال الصومال". وطالب باجراء تحقيق مستقل في مقتل 23 جندياً باكستانياً، مؤكداً انه لم يصدر اوامر باطلاق النار، وان 115 صومالياً قتلوا منذ الحادث وان 427 آخرين جرحوا. وفي ال17 من الشهر نفسه، شنت الطائرات الاميركية اعنف هجوم لها على مواقع تابعة لعيديد بما في ذلك منزله الذي دمر، فيما لم يعرف المكان الذي لجأ اليه زعيم "التحالف الوطني الصومالي". وفي الوقت نفسه، واصلت قوات "يونوصوم-2" عمليات البحث عن اسلحة في احياء المدينة، وحصلت خلالها مواجهات قتل فيها نحو 30 صومالياً واصيب 45 آخرون بجروح. وفي اليوم نفسه، امر الادميرال جوناثان هاو باعتقال الجنرال عيديد للحفاظ على سلامته، وطلب منه ان يسلم نفسه الى قوات "يونوصوم". وكان واضحاً في تلك الاحداث ان الجنرال عيديد الذي صرح بأنه لم يعط اوامر بقتل عناصر من القوات الدولية، يرغب في تسوية المشكلة وليس تصعيدها. وفي الوقت نفسه، فان الاممالمتحدة كانت ترغب ايضاً في انهاء المعارك ووقف النار، لكن لم يكن في وسعها التغاضي عن قتل 23 من قواتها. فاستمر الجنرال في الاختباء داخل مقديشو، فيما واصلت "يونوصوم -2" البحث عنه. عنصر جديد في الحرب خلال هذه الفترة طرأ عنصر عسكري جديد لم يكن مألوفاً طوال الازمة والصراع بين الطرفين، كما لم يكن معروفاً او مستخدماً في القتال بين الميليشيات المحلية منذ بدء الحرب الاهلية. ففي 8 آب اغسطس انفجر اول لغم ارضي في إحدى حاملات الجنود الاميركية مما ادى الى مقتل اربعة عسكريين. ويعتقد عدد من الصوماليين بأن تلك الحادثة كانت بداية مرحلة جديدة، وربما كانت بداية تدخل قوات "حركة الاتحاد الاسلامي" وضيوفها من "الافغان العرب" و"القاعدة" في الحرب وتركيزهم على "اصطياد العسكريين الاميركيين"، كما قال اسامة بن لادن في حديث له عن تلك الفترة. وفي ال19 من الشهر نفسه، انفجر لغم ارضي ثان في حاملة جنود مما ادى الى مقتل اربعة عسكريين اميركيين. وبعد ثلاثة ايام انفجر لغم ثالث في عربة عسكرية اميركية اصاب ستة من جنودها بجروح. وبدا واضحاً آنذاك، أن القوات الاميركية في "يونوصوم -2" كانت وحدها مستهدفة بعمليات عسكرية جديدة لم تنفذ الميليشيات الصومالية مثلها من قبل، ولم يكن اي طرف صومالي يعلن مسؤوليته عن هذه العمليات، بل ان عيديد نفسه نفى مسؤوليته. ... ولكن هل كان الاميركيون يعرفون ان الجهة التي كانت تقاتلهم آنذاك ربما كانت "الاتحاد الاسلامي" او عناصر من شبكة "القاعدة"؟ بن لادن يقول في الحديث نفسه عن تلك الفترة :"الحكومة الاميركية كانت تعلم علم اليقين اننا نقاتلها، واعلنت ان هناك قوات متطرفة غير صومالية تقاتل، وكانت تعنينا. وكانت معارك ناجحة كبدنا فيها الاميركيين خسائر كبيرة وكنا نصطادهم داخل مقديشو". استمرت العمليات العسكرية المتبادلة بين القوات الاميركية وتلك العناصر المجهولة، وعززت واشنطن قواتها بارسال مجموعة كوماندوس خاصة في 25 آب، وبدأت بالهبوط على اسطح المنازل المشتبه بوجود عناصر مسلحة فيها، واعتقلت في 21 من الشهر التالي ايلول/ سبتمبر ممول عيديد وساعده اليمنى عثمان حسن علي الملقب ب"عاتو". واشيع أن الجنرال الفار هدد بالانتقام إذا لم يطلق مساعده، لكنه نفى من مخبأه في بيان سعيه الى الانتقام. سقوط "الصقر الاسود" كان الثالث من تشرين الاول اكتوبر 1993 يوماً اسود للقوات الاميركية في الصومال، إذ بدأ فجراً بانفجار لغم في سيارة عسكرية اميركية قتل فيه صومالي كان يعمل مع الاميركيين غربي ميناء مقديشو. وبعد ظهر ذلك اليوم انزلت مروحيات "بلاك هوك" الصقر الاسود الاميركية قوات على سطح فندق "اوليمبيك" حيث كانت عناصر مسلحة مجتمعة داخل الفندق. فاندلعت معركة ضارية بين الطرفين شاركت فيها قوات تابعة لعيديد، وشملت معظم الاحياء المحيطة بالفندق. وكانت تلك اطول معركة واستمرت حتى صباح اليوم التالي عندما تبين ان الميليشيات اسرت مجموعة من القوات الاميركية واسقطت مروحيتي "بلاك هوك" كانتا تحاولان انقاذ الاسرى. وسقط في تلك المعركة 12 قتيلاً اميركياً واصيب 80 آخرون بجروح. ومن الجانب الصومالي قتل 30 شخصاً واصيب اكثر من 250 آخرين بجروح. وامر عيديد مقاتليه باطلاق الاسرى وفتح طريقاً للقوات الاميركية كي تتمكن من نقل قتلاها وجرحاها. وبقي اسير واحد معتقلاً اطلق لاحقاً. وظهرت في ذلك اليوم ايضاً الصور الشهيرة على شاشات التلفزيون وفيها جثة عسكري اميركي مربوطة بحبل يسحلها شبان صوماليون في شوارع العاصمة. ويعتقد مراقبون شهدوا تلك المعارك في مقديشو، بأن قوات عيديد شاركت في معركة 3 تشرين الاول 1993 في اطار الدفاع عن زعيمها الذي كانت تطارده القوات الاميركية لاعتقاله. وان قوات آخرى يعتقد بأنها تابعة ل"الاتحاد الاسلامي" او "القاعدة" التي احترف عناصرها اسقاط طائرات روسية خلال الحرب الافغانية، هي التي اسقطت مروحيتي ال"بلاك هوك". هل كان يعرف الاميركيون ذلك؟ الارجح انهم كانوا يعرفون، وربما كان الدليل الوحيد حينها هو إعلان الرئيس بيل كلينتون آنذاك ان واشنطن قررت، بعد اقل من اسبوع من الحادثة، التخلي عن مطاردة الجنرال عيديد، ووعدت بسحب قواتها في نهاية آذار مارس من العام التالي. ونفذ كلينتون وعده، وعاد عيديد الى ممارسة نشاطه السياسي والعسكري ضد خصومه من الميليشيات المحلية التي تنافسه السيطرة على البلاد، وقتل في معركة مع إحدى هذه الميليشيات التي كان يقودها مموله السابق المنشق عنه عثمان عاتو في آب اغسطس 1996. ولكن هل يسعى الرئيس الحالي جورج بوش اليوم الى الاقتصاص من القتلة الحقيقيين في الصومال؟ وهل يعرف من هم واين يقيمون؟ بل هل يستطيع ذلك من دون ان يتكبد الاميركيون خسائر جديدة في الصومال؟