فيما كنت أقرأ في "الحياة" مذكرات السيد عبدالمحسن أبو النور "أحد أوائل الضباط الأحرار، وأول قائد للحرس الجمهوري، والأمين العام للاتحاد الاشتراكي" في الشقيقة الكبرى مصر، ولا سيما الحلقات الثلاث التي نشرت بتاريخ 29 و30 تموز يوليو 2000 و1 آب أغسطس 2000، وهي المتعلقة بالوحدة بين مصر وبين سورية، وملابساتها من مقدمات ومحادثات، وذهاب وإياب بين القطرين، وبما انتهت إليه تلك الوحدة من نتيجة مؤسفة، خطر لي أن أتساءل: ترى لو أن الدول العربية أخذت بالتقليد الذي يتبعه عدد من الديموقراطيات الغربية، ويقضي بالكشف عن الوثائق التاريخية بعد مرور عدد محدد من السنين، أما كان في إمكاننا الاطلاع على كثير من الأسرار الغامضة، والإجابة عن أسئلة جمَّة معلقة في الهواء منذ أكثر من نصف قرن، وتتعلق بمصير أمتنا وشعوبها العربية، وبعضها يرجع إلى ما قبل استقلال الدول العربية وجلاء القوات الأجنبية عنها في العقد الخامس من القرن العشرين؟ كان في إمكان هذه الوثائق أن تحسم جدلاً ومناقشات كثيرة - لا طائل منها من دون توفر الوثائق الدامغة بين الأيدي، والبيانات التي تضع النقاط على الحروف - في شؤون هامة وخطيرة تمسّ مصالح الأمة العربية مجتمعة، وشعوبها متفرقة كلاً على حدة، وأمنها القومي والاقتصادي والثقافي والسياسي... الخ. ولست أدري بالضبط، ماذا كانت تلك الوثائق ستخبرنا من أسرار الوحدة المذكورة التي قامت في شباط فبراير 1958، واستمرت حتى 28 أيلول سبتمبر 1961، وعن التداخلات المحلية أو القطرية أو الدولية التي شاكلت محادثات الوحدة بين القطرين أو سبقتها، وربما حرضت عليها وأثارتها لتكون، على النحو الذي كانته، حتى أمست فعلاً أساسياً، وهمّاً مؤرقاً عند الناس في سورية ومصر، من المثقفين والسياسيين المحترفين أو الهواة على حد سواء، والعسكريين المحازبين وغير المحازبين، ورجال التجارة والصناعة... وأذكر أحاديث المهتمين بهذه القضية على نحو خاص، في فترة الإعداد لها للوحدة وتسرُّب أخبار العسكريين السوريين الذاهبين إلى مصر، والآيبين منها بعد محادثاتهم مع الرئيس جمال عبدالناصر أو بعض رجاله. لقد لفت نظري في هذا المقام، وأنا أقرأ مذكرات السيد أبو النور أنه لا يعتمد كثيراً على الوثائق، قدر اعتماده على ذاكرته. وقفت وأنا أقرأ مذكرات عبدالمحسن أبو النور، فانتبهت إلى فكرة هامة هي في منتهى الخطورة، ولا يمكن المرور بها مرَّ الكرام، هي أن العواطف القومية هي الطاغية على مشاعر الشعب السوري عامة. والعلاقة بين سورية وبين مصر هي أعمق في التاريخ وأبعد في المشاعر من صلاح الدين الذي وحَّد القطرين، وتمكن بذلك من هزيمة الصليبيين. وإذا كان الشعب السوري - ولا يزال - ينظر إلى أبناء الشعوب العربية كافة كأشقاء أعزاء، فإنه يخص شعب مصر بإعزاز غير عادي. ومن هنا كانت مشكلة الوحدة والانفصال. وربما كان هذا الدرس الذي كانت تريد قوى معينة داخل الوطن وخارجه إعطاءه للعرب، من هذه التجربة المرتجلة التي أريدت كذلك: أن يوضع حد للاندفاع القومي العربي في سورية خصوصاً والأقطار العربية الأخرى عموماً، للحيلولة دون قيام أي شكل من الوحدة في المستقبل الذي أصبح ماضياً. وهذا ما انتهت إليه التجارب الوحدوية التالية جميعاً، في هذا الجزء من العالم، على رغم أنها اتخذت أشكالاً متواضعة جداً من الكونفيديرالية، بين مصر وليبيا وسورية والعراق منذ نيسان أبريل 1963 والميثاق الثلاثي المشهور. وراجعت نفسي كثيراً، وأنا أفكر في الكتابة حول هذه المسألة، كما أعادها إلى الأذهان السيد عبدالمحسن أبو النور، بعد مرور اثنتين وأربعين سنة، فتساءلت: أما آن الأوان، كي نناقش هذه التجربة بصراحة تامة - نظراً للانعكاسات وردود الأفعال الخطيرة التي تركتها على جسد الأمة العربية - بعيداً من المجاملات القطرية والعواطف الفياضة في المزايدات الوحدوية التي تثار في مثل هذه المناسبات؟ ... أقول هذا، لا، بصفتي عربياً قومياً هَمَّتْه وتهمه تلك التجربة - وليتها كانت وحدوية حقاً كما ينبغي أن تُفهم الوحدة - فحسب، بل باعتباري أحد شهودها الذين دفعوا قسطهم من الضريبة الغالية التي فرضها علينا مَنْ سعوا إليها، تقودهم هماستهم وبعض المصالح والارتباطات، بأكثر مما يقودهم العقل والدراسة وبعد النظر، ووضع مصالح الشعب - الذي اكتوى بنارها، بعد أن طغت أجهزة المباحث على دولة الوحدة، وفكرةُ السيطرة "المصرية" على سورية - فوق الاعتبارات الأخرى، بالدرجة الأولى. وهكذا دفعنا - شخصياً - ودفع الشعب السوري ثمناً باهظاً من الهدوء والأمن والاستقرار والثقة بالنفس. ثم فجعنا أخيراً بانهيار الوحدة ودولة الوحدة في سرعة خارقة، قبل أن تكتمل السنة الرابعة من عمرهما. ... تحدث المهتمون في بواكير ذلك الزمن، قبيل قيام الوحدة، وبعده، عن وحدة واقعية، تراعي ظروف البلدين، قد تتخذ مبدئياً شكلاً كونفيديرالياً، ثم يتطور هذا وينمو إلى فيديرالي، قبل أن تزج البلاد في تلك الوحدة الاندماجية المرتجلة، هكذا على الفور من دون مقدمات، ومن دون قيام أي نوع من الدراسة لظروف سورية ومصر وأوضاعهما وخصوصيات كل منهما - على رغم القاسم المشترك الأعظم بينهما، عنيت العواطف الحارة - والعقابيل والنتائج المترتبة أو التي يمكن أن تترتب على مثل ذلك الشكل من "التوحيد" والدولة الموحدة في مثل تلك الخطوات الفجة العجول. يوم حدث الانفصال في 28 ايلول عام 1961 سقطت كل الحجج والذرائع التي سبق أن ذكرت لتسويغ قيام الوحدة الاندماجية ومنها: حماية سورية من المؤامرات، وتحقيق الاستقرار السياسي، وتمتين الجبهة العسكرية مع العدو الصهيوني... الخ. وكان شرط الرئيس جمال عبدالناصر منذ البدء أن تكون "الوحدة اندماجية" أي وحدة تامة كاملة، بكل ما في الكلمة من معنى، لحماية سورية من المؤامرات. يقول السيد عبدالمحسن أبو النور: "خرج عبدالناصر من المناقشات مع السياسيين أي سياسيين!! والعسكريين السوريين أنه إذا تم الاتفاق على الوحدة بين مصر وسورية فلا بد من أن تكون اندماجية، حتى يمكن تمكن السيطرة على الوضع السياسي في سورية". وبعد ثمانية أسطر يقول: "قابلت الرئيس عبدالناصر، ففاجأني بالقول إنه بعد مشاورات استقر رأيه على أنه إذا تمت الوحدة بين مصر وسورية فيجب أن تكون اندماجية، وتؤدي إلى الاستقرار السياسي، ويحصل التقارب بين مصر وسورية". أما عن التقارب بين مصر وسورية، فلم يكن أمتن منه ولا أقوى في عهد سورية الديموقراطي 1954 - 1958. ويكفي أن نتذكر، على سبيل المثال، رد فعل الشعب السوري على العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وكان رداً غاضباً أشعل النفط في أنابيبه المارة في سورية. ولم تعرف سورية في تاريخها كله استقراراً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، كذلك الذي عاشته بعد استقالة رئيس الدولة العقيد أديب الشيشكلي في 25 شباط فبراير 1954. قبل الوحدة من دون الدخول في تفاصيل الحركات العسكرية التي بدأت في حلب في 24 شباط 1954، ضد الرئيس الشيشكلي، فقد كانت معروفة صلات بعض الضباط والسياسيين بالساسة العراقيين الطامعين في بسط نفوذ التاج العراقي على سورية، تحت أسماء مختلفة، حتى إن العقيد محمد صفا، وهو ممَّن أبعدهم الشيشكلي في كانون الاول ديسمبر 1952 شكَّل "حكومة سورية الحرة" في بغداد، كما يذكر باتريك سيل في كتابه "الصراع على سورية" نقلاً عن صحيفة "لوموند". ويضيف أن هذه الصحيفة جددت اتهاماتها لبريطانيا بالسعي للإطاحة بالرئيس الشيشكلي. وكانت "لوموند" قد ذكرت في 21 نيسان 1953 ما يلي: "اننا نشهد مناورات أغلب الظن أنها مستوحاة من بريطانيا العظمى لإثارة شركائها العرب ضد سورية. وهي ليست المرة الاولى التي تهدد بها المؤامرات الخارجية أمن سورية الداخلي - أو تحاول بريطانيا جر هذه الدولة التي تعتبر مفتاحاً لرقعة شطرنج الشرق الأوسط، إلى داخل مناطق نفوذها" عن باتريك سيل. وعادت هذه الصحيفة صبيحة انفصال حلب والإعلان من إذاعة حلب عن انتهاء نظام الشيشكلي في 24 شباط 1954 فقالت: "إنه لم يعد هناك من شك في ان المتآمرين السوريين كانوا يعملون متفقين مع قوى من خارج البلد، وأن الصراع بين النظام وبين المعارضة، لا يستطيع وحده تفسير خطورة الأحداث الأخيرة، ويبدو الآن من المؤكد أن مؤيدي الهلال الخصيب - اتحاد سورية والعراق والأردن - حاولوا استغلال المشكلات الداخلية كي يسقطوا الشيشكلي المعروف أنه الحامي لاستقلال سورية. وتكمن مهارة هؤلاء المتآمرين في توزيع الأدوار وإخفاء ما هو مناورة ضد الاستقلال السوري - تحت ستار أزمة داخلية المرجع السابق. ومع ذلك، فإن المياه لم تصب في طاحونة نوري السعيد، بعد نجاح الانقلاب العسكري ضد الشيشكلي. وتطورت الأحداث في سرعة غير عادية، في اتجاه إقامة نظام ديموقراطي برلماني - قلّ مثاله في الشرق الأوسط العربي. لقد شُكلت في سورية يومذاك حكومة حيادية، كانت مهمتها الأشراف على إجراء انتخابات نيابية برئاسة السيد سعيد الغزي، وهو محام مستقل مشهود له بنظافة الروح واليد. وكان وزير الداخلية الذي أشرف على الانتخابات في صيف 1954 قاضياً من أنزه ما عرف القضاء السوري هو الراحل اسماعيل قولي. لقد كانت الانتخابات نظيفة نزيهة إلى درجة أن رئيس الوزراء نفسه الاستاذ الغزي لم يتمكن من النجاح فيها، في المرحلة الأولى، ونجح في الثانية: "البالوتاج". في حين نجح النائب الشيوعي خالد بكداش! إذاً، فإن الاستقرار في الفترة بين 1954 - 1958 كان حقيقياً، لكنه لا ينفي استمرار المحاولات العراقية، وحلف بغداد، مروراً بمبدأ ايزنهاور... الخ لاحتواء سورية. وعلى رغم قيام محاولات انقلابية عدة معاكسة، كما يشير السيد عبدالمحسن أبو النور، فإن الدولة السورية الجديدة استطاعت إحباطها جميعاً، وكانت أخطرها المحاولة التي نشرت قائمة الاتهام فيها في 22 كانون الأول عام 1956 وكان بين المتهمين فيها رجال سياسة مرموقون أمثال حسن الأطرش وهايل السرور وميخائيل اليان وعدنان الأتاسي ومنير العجلاني... الخ. واذا كان في الإمكان اعتبار اغتيال العقيد عدنان المالكي، بين تلك المحاولات، فإنها هي الأخرى باءت بفشل كامل. إن مذكرات السيد عبدالمحسن أبو النور لا تثير الشجون، وتبعث دفين الذكريات فحسب، بل إنها تشجع على طرح كثير من الأسئلة والتساؤلات: فلماذا وافق الرئيس جمال عبدالناصر على إجراء المحادثات مع الضباط السوريين من خلف ظهر رئيس الجمهورية السورية السيد شكري القوتلي، ذي التاريخ الوطني المعروف، قبل الثورة السورية الكبرى وبعدها؟ في المقابل، ليس مهماً جداً، أن يكون الرئيس عبدالناصر عارفاً بالفكرة التالية أو غير عارف، وهي أن العسكريين في معظم بلدان العالم الثالث يميلون إلى الاستفراد بالسلطة السياسة ويكرهون الديموقراطية. فهم يقومون بانقلاب معلنين أنهم "ثاروا ضد الفساد"، وأنهم سيعيدون الحق إلى نصابه، وسيُجْرون انتخابات برلمانية سليمة وحقيقية وينتخبون رئيساً شرعياً للبلاد... ثم يضربون عرض الحائط بكل هذه الوعود، ليكونوا من ثم أئمة الفساد، الفاسدين المفسدين. ومن المدهش أن يقول السيد أبو النور انه اعترض على سفر وفد الضباط السوريين الأربعة عشر إلى القاهرة لمقابلة الرئيس عبدالناصر وإجراء محادثات معه، من وراء ظهر الرئيس القوتلي، من دون أن يعترض الرئيس عبدالناصر على ذلك، ويستطرد قائلاً: إن الوفد سيذهب إلى مصر ومعه مذكرة الضباط السوريين - وهي التي وضعها الضابط السوري جاسم علوان - لكنه يخشى "أن يفهم من هذا أن هناك تفاهماً مسبقاً مع الرئيس عبدالناصر، من خلف ظهر الرئيس شكري القوتلي رئيس الجمهورية والأستاذ صبري العسلي رئيس الوزراء، مما سيتسبب في تكدير العلاقة بين الرئيسين والحكومة - حكومة العسلي". كأنْ لم يكن مثل هذا التفاهم المسبق بين الرئيس عبدالناصر وبين بعض الضباط السوريين، وفي مقدمتهم عبدالمجيد السراج ومن سار في طريقه مع المخابرات المصرية. وكأن الرئيس عبدالناصر لم يُصْغِ ويستمع إلى هؤلاء الضباط السوريين فرداً فرداً... ويذكر السيد عبدالمحسن أبو النور أن الضباط السوريين قالوا "إن سورية هُددت ثلاث مرات في الأشهر السابقة، وهُددت من جميع الدول المحيطة بها". لقد كان هذا منذ أن جلا الفرنسيون عن سورية عام 1946. ثم تصاعد... تحت أسماء مختلفة، مما أشرت إليها. فكيف "لم ينقذها منها - المؤامرات - جميعاً إلا تلاحمها مع مصر". كيف ذلك وسيادته لم يقدم دليلاً واحداً يثبت قوله هذا؟ الصراع اللازم ويقول السيد عبدالمحسن أبو النور: "إن الصراع الحزبي في سورية زادت حدَّته، ما يجعله دائماً مصدراً للقلاقل، وأن الخلافات داخل الجيش السوري تهدد الاستقرار السياسي في سورية، ولن يجد الأمر حلاً إلا بوحدة الجيش السوري مع الجيش المصري". ترى، هل هناك في الكرة الأرضية كلها بلد ليس فيه صراع حزبي تزيد حدته حيناً وتخفّ حيناً آخر؟ لقد كانت هذه الخلافات قائمة بصورة ما، وحجم ما، في الجيش السوري، وبين صفوف الحزبين المدنيين. ولكن الخلاف الأكبر، هو ذاك الذي كانت تغذيه الاستخبارات المصرية - والسيد أبو النور أحد وجوهها المرموقة - ووراءها، من هم وراءها، لضرب "الكتل العسكرية" بعضها ببعض، والتسرب إلى التنظيمات السياسية المدينة لإثارة الفتن الداخلية، وتعكير مجرى الحياة السياسية البرلمانية التي تميزت في تلك الفترة 1954 - 1958 بهدوئها وأصالتها وتمسكها بالأصول والتقاليد الديموقراطية الشرعية. وكان معروفاً رأي السياسيين المدنيين جميعاً، في مسألة تدخل الجيش في سورية في الشؤون السياسية، بدءاً برئيس الجمهورية السيد شكري القوتلي الذي كان يرى وجوب بقاء الجيش بعيداً عن السياسة، ومروراً بالأحزاب التقليدية: حزب الشعب رشدي الكيخيا، ناظم القدسي، أحمد قنبر والحزب الوطني صبري العسلي، والكتلة الديموقراطية خالد العظم، وكتلة نواب العشائر دحام الدندل، دهام الهادي، تامر الملحم، وانتهاءً بأقصى اليسار: الحزب الشيوعي خالد بكداش. وكان الرئيس جمال عبدالناصر يريد للعسكريين أن يتدخلوا في الشؤون السياسية إلى حين قيام "الوحدة الاندماجية". وبعدئذ، قرر إبعادهم عن السياسة وعن الجيش السوري "بصورة عامة". ومهما يكن من أمر فإن أولئك الضباط الذين كانوا "متخالفين"، أو على خلاف في "الرأي السياسي"، أعلنوا امام الرئيس عبدالناصر "أنهم مستعدون لترك الجيش إذا رأى في ذلك حلاً لتحقيق الوحدة الفورية". حسناً. ألا يسمح لنا هذا بالاستنتاج، أن المطلوب لتحقيق الوحدة الفورية، هو أن يترك هؤلاء الضباط الجيش السوري؟ ألا يعني ذلك أيضاً، بشكل ما، أن أولئك في "الطرف" الآخر هم الذين كانوا يغذون الخلافات وينفخون في نارها؟ وثمة سؤال أخير: هل كان هناك "استقرار" في سورية بالمعنى الذي أراده الرئيس المصري الراحل، بعد تحقيق الوحدة "الفورية" و"الاندماجية"؟ وهل يسمح ما جرى في 28 ايلول 1961 بالحديث عن مثل هذ الاستقرار؟ يقول السيد عبدالمحسن أبو النور إن الرئيس عبدالناصر "وافق على الوحدة الفورية" - كأنه لم يكن طالباً إيّاها - لكنه أراد غطاء شرعياً، بعد أن أنهى جميع الترتيبات في "مؤامرة" الوحدة الاندماجية الفورية مع الضباط السوريين. يقول السيد عبدالمحسن أبو النور: "قال لهم الرئيس عبدالناصر إنه يعلم أن الجيش في سورية يمثل القوة الفاعلة المهيمنة على الوضع السياسي. لكن الجيش لا يمثل السلطة الدستورية والسياسية المخوَّل لها دستورياً البت في هذا القرار المصيري. فاستقر الرأي على تأجيل الاجتماع لإعطاء الوفد العسكري فرصته الاتصال برئيس الجمهورية والحكومة في دمشق". كان هؤلاء، على الطرف الآخر، مغلوبين على أمرهم تماماً، ويعلمون أن الجيش بات صاحب الكلمة الأولى، حتى انه أنشأ داخل المجلس النيابي السوري البرلمان نفسه تكتلاً سياسياً دعا نفسه "التجمع القومي البرلماني". وكان أمين سره نائب الجزيرة السيد فؤاد قدري - رجل الأعمال في موسكو، في ما بعد، حتى وفاته. وكان هذا التجمع يصنع في المجلس - خاصة بعد سنة 1957 - ما يريده العسكريون. كان طبيعياً إذاً، والوضع هذا، بحسب قول السيد أبو النور "أن يجتمع مجلس الوزراء السوري برئاسة الرئيس شكري القوتلي في 16 كانون الثاني يناير 1958، وقرروا الموافقة على الوحدة الفورية مع مصر". لقد كان الرئيس القوتلي المغلوب على أمره، وهو فاز بلقب "المواطن الأول" من لدن الرئيس المصري بعد "تنازله" عن منصبه، في "اختيار" لا فرق كبيراً بينه وبين "الإكراه" كان يعلم كل شيء عن تحركات الضباط السوريين في مصر، ورجال المخابرات المصرية في سورية. غير أنه أحب الحفاظ على ماء وجهه فتظاهر أنه "ارتاح نفسياً عندما علم ... أن الرئيس عبدالناصر، لم يوافق على الوحدة - إلا بعد موافقة الرئيس شكري القوتلي والحكومة السورية". بحسب تعبير السيد أبو النور. وهكذا أملى الرئيس عبدالناصر شروطه الخطيرة التي أنهت تماماً الحياة الديموقراطية في سورية، بعد تجربة فريدة بدأت صيف 1954. وكان بين هذه الشروط التي ذكرها السيد عبدالمحسن أبو النور: إبعاد الضباط السوريين - الذين لعبوا الدور الأول في "الوحدة الاندماجية" مع مصر - عن الجيش نهائياً، وموافقة الأحزاب على حل نفسها وتكوين اتحاد قومي يضم الجميع انظر إلى هذه العقلية التي تعجز عن فهم المعنى الحقيقي للحزب، ولا تقدر أن تتصور كيف يولد حزب ما تاريخياً. ولم يضم ذلك "الاتحاد القومي" سوى الانتهازيين من بعض الأحزاب، والمرتزقة غير المنتمين سياسياً، وخصوصاً بين موظفي الدولة، وهنا وجه الشبه الكبير مع "حركة التحرير العربي" التي أنشأها الرئيس السوري أديب الشيشكلي عام 1953 - إضافة إلى عملاء المخابرات المصرية. كان ذلك "الاتحاد القومي" بلا فكر أو ايديولوجيا، أو برنامج سياسي، أي برنامج، وهو شرط أساسي لا بد من توافره في أي حزب أو تجمع سياسي. وليس مهماً بعد ذلك الحديث عن "الاستفتاء الشعبي على الوحدة في كل من مصر وسورية..." فمعروف جيداً هذا الاستفتاء وكيف يجرى في بلدان العالم الثالث. ما حدث بعد ذلك، إثر قيام الوحدة، وانتهاء الانفعالات الجماهيرية الصادقة، والتعبير عن حب الرئيس جمال عبدالناصر، حباً ما بعده حب إلخ. كان استطراداً لما تقدم كافة. وإن تكن قد لفتت الأنظار يومئذ رقصات الموت التي لم يتمكن الفريق عفيف البزري، قائد الجيش الأول في سورية، من إتمامها، ولا استطاع المدنيون البعثيون - وكانوا منذ أيام الرئيس السوري السابق أديب الشيشكلي مدموجين مع اشتراكيي أكرم الحوراني - أن يقوموا بأي رقصة. وتابع الحكم الجديد، ضرب هذا بذاك، على طريقة المخابرات المصرية. وعرفت سورية إرهاباً سياسياً، لم تشهد مثله في تاريخها كله. وامتلأت سجونها جميعاً المدنية والعسكرية، في دمشق والمدن السورية الأخرى، بالمعتقلين السياسيين. وإذا كانت "الحفلة" قد بدأت بالشيوعيين في مطلع عام 1959، فقد انضم إليها، أخيراً، البعثيون، والسوريون القوميون الاجتماعيون، وكل من فتح فمه بكلمة نقد، ولو لم يكن محازباً، أو منتمياً. وهكذا أمست التحركات السورية لاتخاذ مواقف تناسب الأحوال الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية في سورية، في دولة الوحدة ممنوعة. وليس، بعد ذلك ما نسبه السيد عبدالمحسن أبو النور، إلى السيدين أمين نفوري وليس النافوري وأحمد عبدالكريم، الذين "دأبا على الحديث عن التفرقة بين المصري والسوري" سوى مسألة سطحية، لا أهمية لها، بعد أن أصبحت سورية كلها سائغة في فم الرئيس عبدالناصر، وصحبه ومخابراته، والمنتفعين من حكمه في سورية. * كاتب، عضو سابق في مجلس الشعب السوري.