نشرت "الحياة" 5/11/1998 مقالاً شيقاً ومهماً للزميل محمد جمال باروت، تحت عنوان "مسار الحزب الشيوعي السوري .. من النشأة الى الانشقاق الأول". وليس ثمة ما يمنع من تقديم ملاحظتين على هذا المقال. فالزميل باروت يرى في تغيب الامين العام للحزب الشيوعي السوري، آنذاك، خالد بكداش، عن جلسة البرلمان السوري المخصصة للتصويت على الوحدة المصرية - السورية محاولة من بكداش من أجل "أن يعرقل قيام الجمهورية العربية المتحدة". كما رأى الزميل باروت في النقاط الثلاث عشرة الشهيرة، التي قدمها "الشيوعي السوري" في صدد دولة الوحدة بنوداً انفصالية، موجهة "لتفكيك الجمهورية العربية المتحدة". ولنبدأ الحكاية من أولها. منذ نجح الشعب السوري في إسقاط دكتاتورية أديب الشيشكلي العسكرية ربيع 1954، دخل هذا الشعب في ديموقراطية رحبة، غبطه عليها اشقاؤه العرب، بينما رأى الغرب في هذه الديموقراطية نذير شؤم على مصالحه في الوطن العربي. فأخذ النظام التركي - نيابة عن الغرب - يتهدد سورية ويتوعدها. واجتهدت المؤسسة العسكرية السورية، ذات النفوذ الملحوظ في السياسة السورية، آنذاك، فطار ممثلوها، بليل، الى القاهرة، مطلع 1958، عارضين على الرئيس المصري جمال عبدالناصر وحدة مصر مع سورية وحدة اندماجية فورية، فما كان من الرئيس المصري الا أن اشترط، لقبوله هذه الوحدة توقف الضباط السوريين عن التدخل في السياسة، والهبوط بالحياة السياسية في سورية الى مستوى نظيرتها في مصر، التي تميزت بغياب الديموقراطية عنها. حين تسارعت الأحداث، واقتربت الوحدة المصرية - السورية من الخروج الى النور، تحرك محمد حسنين هيكل - باعترافه - وطمأن السفير الاميركي في القاهرة آنذاك، بأن الوحدة الجديدة ستعمل على ضرب نفوذ الشيوعيين في سورية - الامر الذي أكده، لاحقا، عبدالناصر للسفير نفسه. حسب تقريرين سريين للاخير، حول الواقعتين المذكورتين الى حكومته، عمدت الى نشرهما اخيرا، وشدد على الأمر نفسه رئيس الجمهورية السورية، آنذاك، شكري القوتلي مع السفير الاميركي في دمشق، حينذاك، ورفع الاخير تقريراً سريا الى حكومته بذلك نشر اخيراً. مع ذلك ما أن تم طرح الوحدة بين مصر وسورية حتى سارع الحزب الشيوعي السوري الى الترحيب بها، وإن طالب بضمانات لأمن تلك الوحدة واستمرارها وتطورها باعتمادها على الشعب، وأخذها في الاعتبار الظروف المحلية في كل من سورية ومصر واعتماد اسلوب التدرج في سبيل تذليل العقبات. في كانون الثاني يناير 1958 اعطت دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي صوتها للاتحاد الفيدرالي بين مصر وسورية. وحصرت اللجنة المركزية الاسس الضرورية لهذا الاتحاد في ما يلي: - تعزيز قضية السلام، وتوطيد أواصر الصداقة مع الاتحاد السوفياتي. - الوقوف في وجه احلام اسرائيل التوسعية. - افساح مجالات جديدة لتطور القطرين في طريق الحرية والديموقراطية ورفع مستوى الشعب الاجتماعي، وتأمين متابعة السير في طريق التطور الاقتصادي. - إبقاء الشخصية الدولية لكل من مصر وسورية في نطاق الاتحاد لمصلحة القضايا العربية والسلام العالمي. الى ذلك دعا الحزب الى تشكيل لجنة مشتركة من الحكومتين - السورية والمصرية - لدرس تفاصيل الاتحاد وارساء أسس سليمة له. لكن الوحدة تحققت من دون الالتفات الى طروحات "الشيوعي" فما كان من بكداش الا ان تغيب عن جلسة البرلمان السوري المخصصة للتصويت على الوحدة في محاولة لاعلان تحفظ "الشيوعي" من الطريقة التي تم بها اخراج هذه الوحدة، وليس ليعرقل "قيام الجمهورية العربية المتحدة". اذ ما كان لنائب واحد - مهما بلغ وزنه - ان يعرقل قيام هذه الجمهورية، وخلفها كل هذا الزخم الشعبي الجارف، بل إن الزميل باروت نفسه يعترف بأن اعضاء "الشيوعي" التزموا تعليمات اللجنة المركزية لحزبهم، القاضية بالتصويت لمصلحة قيام دولة الوحدة. معروف ان قائد الجيش السوري، آنذاك، الفريق عفيف البزري حاول اقناع بكداش بالتغاضي عن تحفظاته الديموقراطية ازاء الوحدة المرتقبة. لكن بكداش اعرب عن مخاوفه من غياب الديموقراطية، الذي سيمتد من مصر الى سورية، عندها طمأنه البزري. وحين سأله بكداش عن الضمان رد البزري بأن وجوده - في حد ذاته - هو الضمان. هنا سأله بكداش "ومن الذي يضمن بقاءك". وفعلاً أطيح البزري بعد سويعات من اعلان دولة الوحدة. بعد زهاء ثمانية شهور على قيام "الجمهورية العربية المتحدة" عمدت قيادة "الشيوعي" الى اجتراح برنامج في صدد الوحدة عبر حديث صحافي ادلى به الامين العام للحزب، خالد بكداش، الى صحيفة "أونيتا" الشيوعية الايطالية في تشرين الاول اكتوبر 1958. بعد مدخل مقتضب، حدد بكداش خط حزبه في ثلاث عشرة نقطة، نأتي هنا على نشرها، بقضها وقضيضها بسبب اهميتها السياسية والتاريخية ومنعاً لأي التباس: - يجب ان تؤخذ بعين الاعتبار في الحكم والادارة الظروف الموضوعية في كل من سورية ومصر، وذلك عن طريق إنشاء برلمان وحكومة للاقليم السوري وبرلمان وحكومة للاقليم المصري الى جانب برلمان مركزي وحكومة مركزية تهتم بقضايا الدفاع الوطني والسياسة الخارجية، وغيرها من القضايا المشتركة، وينبغي أن تتألف جميع هذه الهيئات بالاساليب الديموقراطية على أساس انتخابات نيابية عامة، وحرة من دون قيد. - اطلاق الحريات الديموقراطية: حرية الصحافة، والنشر والاجتماع وحرية التظاهر والاضراب وحرية الجمعيات والنقابات وتأمين حق الجماهير الشعبية وسائر القوى الوطنية في التنظيم السياسي بحرية تامة. - تمتين عرى الإخاء والتعاون مع الجمهورية العراقية الشقيقة لخير العرب جميعا. - تقوية عرى الصداقة مع الاتحاد السوفياتي وسائر بلدان العالم الاشتراكي وذلك لدعم استقلالنا الوطني، وتأمين التطور الصناعي والزراعي في البلاد. - الوقوف بحزم في وجه الاستعمار الاميركي ومناوراته والنضال ضد محاولاته، الرامية الى ايقاعنا في شباكه، تحت ستار التظاهر، كذباً ونفاقاً، بأن اميركا تنوي تغيير سياستها نحو العرب. - صيانة الاقتصاد السوري خصوصاً الانتاج الصناعي، والعمل على تشجيعه وتطويره وايجاد اسواق لتصريف المنتجات الصناعية والمحصولات الزراعية، خصوصاً القطن والقمح، وبذل الجهود للاسراع في تنفيذ المشاريع التي نصت عليها الاتفاقات المعقودة عام 1957 بين سورية والاتحاد السوفياتي والبلدان الاشتراكية الاخرى. - تنظيم الصلات التجارية والاقتصادية بين الاقليمين السوري والمصري على أسس تؤمن التطور الاقتصادي، خصوصاً التطور الصناعي لكلا الاقليمين. - النضال ضد تغلغل الرساميل الاستعمارية الاميركية والبريطانية وكذلك الرساميل اليابانية والايطالية ورساميل المانيا الغربية، والعمل بحزم لإحباط المحاولات الاستعمارية الخبيثة الرامية الى بسط سيطرة الرأسمال الاستعماري الاجنبي من جديد على اقتصادنا الوطني. - إن الاصلاح الزراعي يجب ان يكون شاملا، لكي يؤمّن الارض لجميع الفلاحين السوريين، والذين لا يملكون ارضا، مع مراعاة نوع الارض ودرجة خصوبتها ومياهها، وموقعها. ومن الضروري اتخاذ التدابير لتأمين البذار، والادوات والقروض للفلاحين الذين تُعطى الارض لهم ما يؤدي الى المحافظة على مستوى الانتاج الزراعي في سورية والمساعدة على ارتفاعه. - صيانة اجور العمال السوريين والسعي لايجاد عمل للمتعطلين عن العمل، واحترام حقوق العمال في حرية التنظيم النقابي وفي الاضراب والمحافظة على مكتسباتهم المنصوص عليها في "قانون العمل السوري". - تنشيط التجارة والعمل على توسيعها وذلك بتقوية العلاقات التجارية بين الاقليم السوري والجمهورية العراقية وجمهورية لبنان وسائر بلدان العالم الاشتراكي. - رفع مستوى الشعب العام معاشياً وثقافياً واجتماعيا وصون الفضيلة والاخلاق. - رفع مستوى العلم عموما وصيانة واحترام تقاليد الطلاب السوريين، الوطنية والديموقراطية وصون حقوقهم النقابية، والديموقراطية التي حصلوا عليها بنضالهم الطويل. يتأكد من هذا النص ان البنود الثلاثة عشر لم تكن "انفصالية" بل تسعى الى وحدة ذات محتوى ديموقراطي حتى يفتح الباب واسعا امام البلاد للتطور الاقتصادي والتحولات الاجتماعية والانجازات الوطنية الديموقراطية. إنها وحدة تقوم على الاختيار الحر وتستند الى تحالف شعبي وطني ديموقراطي واسع، بما يفضي الى تجلي الطبيعة الوطنية الديموقراطية لتلك الوحدة. لقد أكدت الخبرة التاريخية ان إدارة الظهر لهذا كله ادت الى سرعة ضرب الوحدة، واغتيال تجربتها الوليدة ما اضطر من نددوا بموقف "الشيوعي" الى إبداء اللوم على عدم أخذهم بالضمانات. وفي مقدم النادمين كان "البعث" وعبدالناصر نفسه. لكن بعد فوات الاوان. لعل من بين الوقائع الغنية بالدلالات في مجال الندم أن عبدالناصر بعد اسبوع واحد من الانفصال، القى خطبة ضمنها نقداً ذاتياً جسورا إذ اعترف فيها بأن نظامه غضّ الطرف عن أنشطة القوى المعادية للثورة ولاحق القوى الثورية بدل ان يرعاها ويعمل على وحدتها، ناهيك عن الانتهاكات الفظة للحريات الديموقراطية في دولة الوحدة، ما شجع الكاتب المعروف عبدالرحمن الشرقاوي - وهو من اليساريين المصريين المعدودين على أصابع اليد الواحدة الذين أفلتوا من حملة اعتقالات 1959 - على التعليق على ما قاله عبدالناصر. لكن الشرقاوي فوجئ بمنع مقاله من النشر وان وزير الارشاد القومي المصري، آنذاك، عبدالقادر حاتم يستدعيه الى مكتبه، ويقرّعه لأنه يكتب منتقداً تجربة الوحدة. رد الشرقاوي بأنه لم يفعل اكثر من أنه اتكأ على... وكرر ما قاله عبدالناصر. فقاطعه حاتم بحسم قائلا "الرئيس بس هو اللي يقول". مسكينة "الوحدة" فكم في الخطايا ارتُكبت باسمها. أذكّر هنا بأن "الحزب الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة" اعطى صوته من دون ادنى تحفظ للجمهورية العربية المتحدة، بل إن الحزب طالب في منشور سري وزعه ليلة 22 شباط فبراير 1958 بجعل فلسطين الاقليم الاوسط بين سورية الاقليم الشمالي ومصر الاقليم الجنوبي بما يجعل تحرير الاقليم الاوسط مهمة الدولة الوليدة. مع ذلك، ما ان استعر الصراع بين التيارين القومي واليساري على مدى الوطن العربي، حتى زُج بواحد وثلاثين من ابناء قطاع غزة في السجن الحربي في القاهرة بتهمة "معاداة الوحدة!". المفارقة هنا ان ثلث المعتقلين لم يكونوا اعضاء في الحزب الشيوعي، وتبقى الثلثان حيث كانوا مع الوحدة قلباً وقالبا. وكل ما في الامر ان مدير الداخلية ونائب مدير الاستخبارات في قطاع غزة عقدا صفقة مع تجار غزة تقضي بتهريب كمية كبيرة من العملة المصرية من فئة الخمسين والمئة جنيه بعد ان حددت الحكومة المصرية يوم 10 اب اغسطس 1959 موعداً نهائيا لاستبدال هاتين الفئتين في البنوك المصرية. وشددت اجهزة الامن المصرية رقابتها على سائر المنافذ البرية والبحرية والجوية منعا لتهريب الاموال. لكن عقول تجار غزة تفتقت عن حيلة ماكرة ضربوا بها عصافير عدة بحجر واحد. ومرت الاموال المهربة في حافلة الشيوعيين الخطرين فلم يجرؤ رجال الامن في جمرك القنطرة شرق على الدخول الى تلك الحافلة وتفتيشها. وبعد، ففي اعتقادي ان الكثير من جنبات تاريخنا الحديث والمعاصر لا تزال بعيدة عن الاضواء. فما اكثر الالتباسات والاخطاء الشائعة والظلم الفادح في هذا التاريخ. * كاتب فلسطيني مقيم في مصر