} تناولت الحلقة الأولى قصة تأسيس الخلايا الحزبية في الجيش السوري والصراعات العقائدية التي انتهت الى حملات اغتيال وانقلابات متبادلة، وهنا الحلقة الثانية. حاول العقيد أديب الشيشكلي في أول أيام انقلابه أن لا يتدخل في الأمور السياسية ولو بشكل موقت، لذلك حافظ على وجود الرئيس هاشم الأتاسي في منصب رئاسة الجمهورية وعلى استمرار الجمعية التأسيسية المنتخبة من الشعب ديموقراطياً. وفي ذلك العهد استمر الصراع العقائدي بين الأحزاب السياسية وبمشاركة القيادات العسكرية المتناحرة على السلطة لفرض مبادئها على الوطن السوري. وكان من نتائج ذاك الصراع أن وقع يوم 31 تموز يوليو 1950 اعتداء ذهب ضحيته العقيد محمد ناصر آمر سلاح الطيران السوري ومن أعضاء القيادة في الحزب السوري القومي الاجتماعي وهو من القيادات العسكرية الذكية في سلاح الجو. وأطلق عليه الرصاص من قبل المقدم إبراهيم الحسيني رئيس الشعبة "الثانية" في مخابرات الجيش، وشاركه بالاغتيال الملازم عبدالغني قنوت من ضباط الشعبة الثانية وهو من جماعة أكرم الحوراني ومن مدينة حماه أيضاً. واتهم العقيد أديب الشيشكلي بأنه وراء حادث الاغتيال. وشكلت محكمة عسكرية لمحاكمة المتهمين بالحادث وحضر من جهة الدفاع عنهم المحاميان سامي الصلح وإميل لحود، والمحامي السوري خليل كلاس من أنصار أكرم الحوراني. وبرأت المحكمة المتهمين وذهب دم العقيد ناصر هدراً. وبعد هذا الحادث الأليم وللحفاظ على تضامن الجيش السوري أصدر الزعيم أنور بنور رئيس الأركان العامة بلاغاً أشار فيه أن رسالة الجيش الدفاع عن الوطن. وحذرت رئاسة الأركان العامة كل العسكريين من التدخل في شؤون البلاد تحت طائلة العقوبات. وكان هذا البلاغ موجهاً للأحزاب السياسية العقائدية: السوري القومي، والبعث العربي الاشتراكي، وخصوصاً أكرم الحوراني الذي عيّن في منصب وزارة الدفاع في عهد أديب الشيشكلي. واستغل وجوده بالوزارة وأخذ يحرض القيادات العسكرية ومنها الشباب للانضمام لحزبه. ومنذ ذاك الوقت بدأت العلاقة تتأزم بين الحوراني والعقيد الشيشكلي وأدى الأمر إلى طلاق نهائي بينهما. وتفاقم الصراع بين أقطاب حزب البعث والعقيد الشيشكلي. وحاول أقطاب البعث ميشيل عفلق وأكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار تحريض القيادة العسكرية القيام بحركة انقلابية للاطاحة بعهد الشيشكلي. وخصوصاً عندما منع الشيشكلي نشاط الأحزاب السياسية، وعهد للعقيد عدنان المالكي القيام بهذه الحركة بالتعاون مع المقدم مصطفى حمدون والمقدم عبدالغني قنوت. واكتشف الشيشكلي تلك المحاولة وطلب من الأجهزة الأمنية ملاحقة أقطاب البعث إلا أنهم عبروا الحدود إلى لبنان، وغادروا إلى روما وأقاموا إلى جانب العقيد إبراهيم الحسيني الذي استقال من منصبه في السفارة السورية في واشنطن وأقام في العاصمة الإيطالية. واعتقل العقيد عدنان المالكي وسرح من الجيش بقرار من العقيد الشيشكلي. في العاشر من تموز يوليو 1953 انتخب العقيد أديب الشيشكلي رئيساً للجمهورية واستمر حكمه حتى يوم 25 شباط فبراير 1954حين أطيح به في انقلاب عسكري بدعم من رجالات السياسة والأحزاب وأذاع البلاغ الأول النقيب مصطفى حمدون، من أنصار أكرم الحوراني، من إذاعة حلب معلناً العصيان المسلح. وقرر الشيشكلي الانسحاب، وقدم استقالته للشعب السوري، وتوجه إلى بيروت وطلب حق اللجوء السياسي للمملكة العربية السعودية، وأقام فيها مدة زمنية ثم غادرها إلى أوروبا ثم البرازيل واشترى أرضاً زراعية في منطقة سبريس في مقاطعة جوباس. وعند نهاية عهد الشيشكلي عاد الحكم الشرعي للوطن السوري بعد "مؤتمر وطني" عقده رجالات البلاد وقادة الأحزاب السياسية في مدينة حمص اتفق فيه على ازالة رواسب العهد الماضي وحل المجلس النيابي. كما قرر "المؤتمر الوطني" عودة الرئيس هاشم الأتاسي لمنصب رئاسة الجمهورية لإكمال مدته الدستورية وأجريت انتخابات برلمانية جديدة لاختيار مجلس تشريعي جديد لضمان الاستقرار السياسي الدستوري. وبزوال عهد الشيشكلي أطلق سراح عدنان المالكي وأعيد إلى الجيش واختير معاوناً لرئيس الأركان العامة ورئيساً للشعبة الثالثة أي شعبة العمليات. وكان المالكي يحقد على المقدم عبدالحميد السراج رئيس شعبة المخابرات إذ كان يعتقد أنه كان وراء تسريحه من الجيش في عهد الشيشكلي. وبسبب الجهود التي بذلها السراج مع باقي الكتل العسكرية تناسى المالكي تلك الإساءة. وعاد الصراع العقائدي بين القيادات العسكرية عندما اقترح العقيد عدنان المالكي تسريح المقدم غسان جديد من أعضاء الحزب القومي من الجيش وصدر القرار في الرابع من نيسان ابريل 1955م. وكان لهذا القرار وقع سيئ لدى الحزب القومي لأن غسان جديد من العناصر العسكرية التي يعتمد عليها الحزب في الأزمات. وفي الساعة الرابعة من مساء يوم الجمعة 22 نيسان أبريل 1955 اغتيل العقيد المالكي أثناء رعايته لمباراة في كرة القدم بين فريق "الجيش السوري" وفريق "سكة الحديد" في مصر. والقاتل رقيب في الشرطة العسكرية يدعى يونس عبدالرحيم مكلف حراسة المنصة الرئيسية وهو عنصر في الحزب القومي. ولإخفاء الجريمة بحسب الخطة المرسومة تم إطلاق الرصاص على القاتل من أحد مساعدي الشرطة العسكرية فقتل القاتل الرئيسي لئلا يتم اكتشاف المخططين لهذه الجريمة ولدوافعها الرئيسية. لماذا اغتيل المالكي؟ من المستفيد من هذا الحادث؟ الأسئلة كثيرة وبقيت من دون جواب مقنع على رغم مضي 46 عاماً على الحادث. وعند وقوع الحادث وتوجيه الاتهام للحزب القومي ولمعرفتي بالأستاذ عصام المحايري وباعتباره رئيس تحرير مجلة "البناء" الحزبية أجريت اتصالاً هاتفياً به وسألته عن صحة الشائعات التي انتشرت فكان جوابه القاطع أن الحزب غير مسؤول عن الحادث ولا صحة لمثل هذه الشائعات. ولاحظت من خلال تلك المكالمة الهاتفية أن هاتف الأستاذ المحايري مراقب رسمياً، كما علمت أن كل هواتف المسؤولين الحزبيين وضعت تحت رقابة المخابرات العسكرية لتستكشف تلك الأجهزة خيوط الجريمة. وبعد الحصول على تفاصيل الجريمة أصدرت ملحقاً خاصاً للوكالة مع حديث الأستاذ المحايري عن براءة الحزب. وزودت الصحف بهذا الملحق وكنت السبّاق في تزويد وسائل الإعلام السورية ومكاتب وكالات الأخبار العالمية بواقع الجريمة. وقام الزعيم شوكت شقير رئيس الأركان العامة على رأس وفد يمثل قيادة الجيش يرافقه الرائد عبدالحميد السراج بزيارة منزل العقيد المالكي لتقديم التعازي لشقيقه رياض، الذي بادر رئيس الأركان العامة بهجوم عنيف قائلاً: "أنت قتلت أخي عدنان". أي وجه التهمة لرئيس أركان الجيش من دون أن يوضح الأمر. ويبدو أن عدنان المالكي ما أحب أن يحضر مباراة كرة القدم، وهي عادية من وجهة نظره، واعتذر عن حضورها من الوسطاء. ولجأ هؤلاء إلى محمود رياض، السفير المصري في دمشق، قبل بدء المباراة، وفتح السفير الهاتف وقال لشقيقة المالكي التي ردت على المكالمة أريد أن أتكلم مع العقيد عدنان... فقالت له: أخي عدنان سافر إلى صيدا ولم يترك خبراً عن العودة. واليوم جمعة، وهو أعطى لنفسه إجازة في هذا اليوم، للقاء خطيبته اللبنانية هناك. وألح السفير على الأمر وقال لشقيقة المالكي، قولي له: الرياضيون في انتظارك... فلا تخيب رجاءهم بالحضور. فالمباراة بالنسبة لهم هامة. والحضور عمل قومي. ولا سيما انهم مروا قبل قليل ووجدوا أن السيارة أمام الباب. إن مصر تحب أن تراك. وحاولت أجهزة الرائد عبدالحميد السراج بعد تكليفها من اللواء شوكت شقير للتحقيق الموسع في حادث اغتيال العقيد عدنان المالكي وملاحقة المتهمين الرئيسيين من أعضاء الحزب، وهما جورج عبدالمسيح والعقيد غسان جديد، في الأراضي اللبنانية لاعتقالهما للوقوف على تفاصيل الجريمة. ولم تفلح تلك الأجهزة الأمنية من تحقيق الغاية. وفي يوم 26 تموز يوليو 1956 أعلن الرئيس جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس ووقفت سورية حكومة وشعباً إلى جانبه. وعندما وقع العدوان الثلاثي على مصر سافر الرئيس السوري شكري القوتلي إلى موسكو طالباً وقوف الاتحاد السوفياتي بجانب مصر. ومن هذا الموقف الوطني السوري شعر الرئيس عبدالناصر بضرورة توسيع نطاق نفوذه في المنطقة وبدأت الاتصالات بين القاهرةودمشق لقيام اتحاد بين البلدين. وعندما وقف الجيش السوري ممثلاً بكتله العسكرية المتناحرة إلى جانب تحقيق رغبة الرئيس المصري وقدمت تلك الكتل مذكرة للرئيس عبدالناصر، ورفعت أيضاً للرئيس القوتلي. واعتبرها القوتلي انقلاباً عسكرياً. فأعلنت الوحدة رسمياً في اليوم الأول من شباط فبراير 1958. ولاحقت أجهزة المخابرات السورية والمصرية تحركات العقيد غسان جديد في لبنان في ضوء الصلاحيات التي خولها الرئيس عبدالناصر فاغتيل العقيد جديد. هذه قصة الانقلابات والتصفيات الحزبية العسكرية التي شهدتها سورية العربية، فكانت وبالاً على الوطن في وقت خرج الجيش السوري بعد الحرب الأولى عام 1948 بين العرب واليهود مرفوع الرأس. * كاتب وصحافي عربي.