من المعروف أن الإمام الشافعي أسس أصول الفقه عند كتابته "الرسالة" وذلك لتحقيق رأي وسطي بين أهل الحديث وأهل الرأي وبما يمكن اعتباره تأسيس قراءة شرعية للنص من داخله بما يمنع استثماره من قبل السلطان أو أهل الأهواء والآراء. لذلك فعلم أصول الفقه يمكن اعتباره بمثابة الضابط للنص كي لا يخروج عن سياقه الشرعي. إلا أن علم أصول الفقه تطور خلال التاريخ ومع تطوره أثقل بالشروح والهوامش التي حولته عن منهج لقراءة النص الى "ترسيمةٍ" جاهزة وناجزة من المستحيل التفكير في النص إلا من خلالها. ومن هنا استمدت دعوات التجديد المعاصرة شرعيتها وأصالتها. فالتجديد في قراءة النص القرآني تقتضي حتماً تجديد الأدوات المعرفية والطرائق النظرية التي تمكن من قراءة النص. وهكذا ارتبط التجديد الذي غالباً ما يستعمله قائلوه للدلالة على الاجتهاد وبالعكس، على رغم وجود فرق بين اللفظتين، ارتبط بعلم أصول الفقه حيث أن طلب التجديد والاجتهاد يقتضي بدءاً الاجتهاد في أصول الفقه وهذا يعني إعادة النظر في شروط المجتهد المثقلة وتخفيف العبء قليلاً حتى نتمكن من إفساح المجال لقراءات أخرى ربما تبلور في ما بعد من رؤية جديدة لعلم أصول الفقه. ومن ضمن هذه الجهود يأتي كتاب قطب مصطفى سانو أدوات النظر: الاجتهاد المنشود في ضوء الواقع المعاصر الذي صدر عن دار الفكر دمشق، 2000، إذ إنه ينطلق من مسلمتين اثنتين بنى عليها تفكيره وكتابه معاً، الأولى ربط التفكير بالاجتهاد بعلم أصول الفقه إذ يقول: ما من عصرٍ عني فيه العلماء بالحديث عن أدوات النظر الاجتهادي إلا واعتبروا الفكر الأصولي فيه الأداة الأساس والمعرفة الضرورية المهمة للنظر الاجتهادي ويستشهد بمقولةٍ شهيرة للإمام الرازي بعد ذلك أهم العلوم للمجتهد، علم أصول الفقه، وأما سائر العلوم، فغير مهمة في ذلك. الثانية فهي ربط الاجتهاد وفق منهجيات نظر كما يسميها معنى أن صلاح منهجيات تفكير أمة من الأمم ينتج منه في أكثر الأحيان صلاح فكرها وصدورها عن حسن تصور للإنسان والكون والحياة. ووفقاً لذلك يبدأ بقراءة القرون الهجرية المتتابعة وفقاً لما تم تحقيقه في كل منها في علم أصول الفقه من دون أن يشعر بأي حرج معرفي من هذا التصنيف، إذ إن أدوات النظر الاجتهادي في علم أصول الفقه يصعب قراءة تطورها وفقاً لقرونها. وإنما يجب النظر إليها وفقاً لنظام معرفي متكامل يمتلك من داخله تحقيبه الخاص ولا يُفرض عليه التحقيب التاريخي الذي وإن تم تطبيقه إلا أنه غير مجد معرفياً وعلمياً ذلك أنه لا يساعدنا على قراءة التطورات والتغيرات الحاصلة في علم أصول الفقه وفقاً لمنطقه الداخلي وإنما يعطينا قراءة زمنية لما تحقق تاريخياً. مهما يكن فإنه يبدأ مع القرن الثاني الهجري إذ يعتبر أن جملة الأدوات والمعارف التي ضمنها الشافعي في كتابه "الرسالة" كانت تلبية وانعكاساً للتحديات الفكرية والعلمية والاجتماعية التي كانت قائمة منذ منتصف القرن الثاني الهجري الى بدايات القرن الثالث الهجري، وأسهمت في وضع حد لبوادر الخلط بين مواقع الأفراد في التشكيل القرآني الناصع، كما أنها تمكنت من تحديد المعالم الرئيسية التي يمكن اللياذ بها للتفريق بين أهل الإفتاء وأهل الاستفتاء. أما القرن الثالث الهجري فلم يشهد أي تغيير أو تطوير للأدوات المؤهلة للنظر الاجتهادي بحسب ما يرى وبالتالي لم يشهد الفكر الأصولي بذلك الوقت أي تطوير بناءً على ربطه التبادلي المتلازم دائماً بين الاجتهاد وأصول الفقه. وفي القرن الرابع تم تصنيف علم الأصول كفنٍ قائم بذاته، وتطورات مباحثه على سواعد علماء القرن الرابع إضافة الى ذلك فإن التجديد في الفقه لم يتوقف في هذا القرن كونه يربط بالتجديد في الأصول، فما كان للفكر الفقهي أن يتوقف ما دام المصنع الذي يصنعه لم يتوقف عن الإنتاج. أما القرن الخامس تحولت العملية الاجتهادية فيه الى مجرد الدفاع عما قاله السابقون، وتوضيحاً لآراء الأئمة الأوائل وفتاواهم، بل قاد النظر الاجتهادي المخالف لسائر تلك المذاهب المدونة صاحبه الى مصير من تهم التبديع والتفسيق والملاحقة والمطاردة. ومع القرن السادس الهجري خفت درجة التحدي الفكري مما أورث أصوليي هذا القرن نوعاً من التراجع والنكوص الفكري والاعتماد شبه الكلي على ما تركه علماء القرنين الرابع والخامس، بل إن الظروف التاريخية تلك أفقدت بعض العلماء القدرة على الإبداع والابتكار واكتفوا باستهلاك الفكر الأصولي ومقابسيه، غير منتجيه ولا صانعيه. ولا غرو أن تتوزع جهود أكثرهم بين شرح المدونات الأصولية الموروثة حيناً، والتعليق على تلك المدونات طوراً آخر، وشرح المعلقات على المدونات تارة. ويبدو ذلك واضحاً مع الإمام المقدسي في روضته الذي اكتفي بتلخيص العلوم الثمانية التي ذكرها الغزالي من قبله. ووصولاً الى القرنين السابع والثامن الهجريين أوغل العلماء في الاشتغال في الجزئيات مما أورث تفكير كثير من الناس عدم إدراك العلاقة الجدلية بين لفظ النص وروحه من جانب وبين النص والواقع المعيشي من جانب آخر، الأمر الذي نتج منه شيوع ظاهرة سوء تنزيل معاني الوحي على الواقعات دونما أخذٍ في الاعتبار مآلات الأفعال ومصائرها. ويخلص الباحث مصطفى سانو الى نتيجة مفادها أن ثبات الأدوات المؤهلة للنظر الاجتهادي يفتقر الى الأدلة المقنعة، بل إن الإصرار في كل عصر على سرد أدوات معينة ثابتة للنظر الاجتهادي لا يعدو أن يكون سمة أساسية على ما تتمتع به العصور من تراجع وتقهقر وعيش في كنف الجمود والتبعية والتقليد الأعمى. وبعد أفول شمس القرن الثامن الهجري يعتبر المؤلف أن ذلك كان بداية إيذان بزوغ فجر جديد لقرون استثنائية في تاريخ الأمة، كما كان بداية ظهور أجيال لم تعد تطيق التفكير المنهجي في تجديد القول في سبيل الربط بين وحي السماء وواقع الأرض في ضوء التغيرات الدائبة والمستمرة. بعد ذلك ينتقل الى الحديث عن أدوات النظر الاجتهادي المنشود في هذا العصر، ويشترط شروطاً على المجتهد لا تخرج في مجملها عن الشروط الاجتهادية التي قرأها في القرون الماضية إن لم تزد عليها، وذلك عندما يضيف شرط المعرفة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية كأساسيات المنهج وأدوات الرصد والتحليل والقياس التي يعتبرها بمثابة الشرط الرئيس للاجتهاد في الواقع المعاصر إذ إن المعرفة بهذه العلوم تضمن أن لا ينفك الاجتهاد عن الواقع الذي ينشأ منه في اعتبار أن كل أدوات النظر الاجتهادي خلال القرون المتطاولة إنما تعبر عن زمنها وعن الواقع التاريخي الذي نشأت فيه، وهذا الارتباط والجدل بين الواقع والفكر هو الذي ولد هذه الأدوات الاجتهادية وأسهم في تطويرها. بعد ذلك ينتقل للحديث عن مجالات النظر الاجتهادي التي يقسمها الى اجتهاد فردي وذلك في المسائل الفردية التي لا تتعدى صورها الى عموم المجتمع. وإلى اجتهاد جماعي الذي يقسمه الى مجمع اجتهادي محلي ينظر في القضايا والمسائل المحلية التي لها ارتباط بقطرٍ ما وبأعرافه ومصالحه المجتمعة المحدودة، وإلى اجتهاد إقليمي ينظر في المسائل والقضايا التي بها اتصال بالإقليم ذي صفات وعادات وتقاليد ومصالح مشتركة ومحدودة، ومجمع اجتهادي أممي ينظر في المسائل التي بها مساس بعموم الأمة بغض النظر عن أقطار أفرادها. وإذا كانت هذه الدراسة عرّفت نفسها بأنها تروم وتهدف الى إعادة قراءة الأدوات المؤهلة لممارسة النظر الاجتهادي المنشود في ضوء الواقع المعاصر، وإبراز أثر التغيرات الفكرية والعلمية والاجتماعية على تشكل هذه الأدوات وتناميها وتطورها عبر تاريخ الفكر الإسلامي، وذلك بقصد الاستغناء عن الأدوات التي لم يعد واقعنا المعاصر في حاجة إليها لكونها ظرفية نشأت تلبية للتحديات الفكرية التي كانت سائدة في القرون الغابرة، فإننا نستطيع القول إنها حققت الكثير مما كانت تطمح الى تحقيقه، وإن منعها عن تمام ذلك هو أنها أُنشئت على طريقة المختصرات مما أعاقها عن التدقيق في كثير من الأمور كانت في حاجة الى مراجعة وخصوصاً صراع الاستحواذ على السلطة العلمية بين صاحب السيف وصاحب القلم، مما شجع هذا الأخير على تطوير آلية خاصة به يمنع الخليفة أو السلطان من احتكار القول بالنص. إن دراسة علاقة المعرفة بالسلطة أثناء تشكل علم الأصول كما بحثها عبدالمجيد الصغير في كتابه الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام تكشف لنا عن مدى تغلغل السياسي في الفقهي مما يفرض ويحتم إعادة النظر في هذا الجانب الفقهي تبعاً لتغير العلاقة وتبدلها مع السياسي. وعلى رغم ذلك كله بقي أن نقول إن مجهوداً واضحاً بذل لإنجاز هذه الدراسة وإنها استطاعت أن تقدم أفكاراً أو رؤية مستقبلية في ما يتعلق بمجالات النظر الاجتهادي الفردي والجماعي مما يفسح في المجال لدراسات أخرى تنحو المنحى التأسيسي مستفيدة ما قدمته هذه الدراسة. * كاتب سوري.