أثير اخيراً في القاهرة جدل حاد حول موقع الفقه الاسلامي من الشريعة الاسلامية، وموقعه من الواقع المعاصر. والمثير أن هذا الجدل تفجر في قاعة الامام محمد عبده في جامعة الازهر، حيث القى الدكتور عبدالمعطي بيومي، عميد كلية اصول الدين ورئيس قسم العقيدة في الكلية نفسها، محاضرة عنوانها "ثقافتنا عن المرأة: مقال في المنهج". واستمع الى المحاضرة اعمدة المؤسسة الدينية المصرية وفي مقدمهم الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الازهر، والدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر، والدكتور حمدي زقزوق وزير الاوقاف. وانقسم الحضور عموماً ما بين مؤيد لعميد كلية اصول الدين وما بين معارض له حول مقولته التي رأى فيها ان الفقه الاسلامي نتاج بيئته وليس مصدراً أصيلاً من مصادر التشريع الاسلامي أو الثقافة الاسلامية. فقد ايده زقزوق وعارضه المفتي، بينما ظل الدكتور طنطاوي ينظم النقاش من دون ان يقول رأيه. وهنا كان التساؤل: هل لا تزال المؤسسة الدينية في مصر عاجزة عن تحديد واضح للعلاقة بين الفقه الاسلامي والشريعة الاسلامية وبين الواقع المعاصر؟ وقد قدر لي ان اكون شاهداً على توابع هذا الجدل، وبدا لي ان المشاركين فيه عاجزون عن تحديد مصطلحاتهم بدقة وهو ما ادى الى الاشتباك في عراك فكري غامض وغير منتج. رأى متابعون لهذا الجدل الفقهي انه ليس بعيداً عما يدور في اروقة التعليم الازهري في مرحلتيه الاعدادية والثانوية، إذ تم إلغاء فقه المذاهب في المرحلة الاعدادية وهناك سعي الى إلغائه في المرحلة الثانوية. ومن ثم فإن الفقه يمكن انتاجه مباشرة عبر التعامل مع نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة من دون اعتماد لأقوال الفقهاء واجتهاداتهم التي لا تزال تمثل واسطة مهمة للفهم والاجتهاد لدى جماهير المسلمين من أزهريين وغيرهم. ويعتمد الذين يريدون ان يتجاوزوا الفقه ويتعاطوا مباشرة مع النصوص، على الدعوة الى الاجتهاد والتحرر من أسر التقليد. وهي دعوة مهمة وضرورية لكنها تفتقد الى الجدية، لأن الاجتهاد كعمل علمي وبحثي يفرض اعتماد المذاهب الفقهية والاجتهادات السابقة كواسطة لا يمكن القفز عليها منهجياً او علمياً، ولو على سبيل الفهم والتعرف والاستئناس. والمتابع لتاريخ التشريع الاسلامي سيكتشف ان الفقه الاسلامي نشأ وتطور عبر قواعد علمية صارمة حتى انتهى الى صيغة المذاهب الفقهية بألوانها المختلفة. وليس الفقه فقط تعبيراً عن اجتهادات في فهم او تفسير أو تطبيق النصوص على الواقع ولكنه استناد من علوم اللغة والمنطق والاصول وغيرها. وهو ثمرة اجتهاد عقلي على مستوى راقٍ انتج تقسيمات الاحكام التكليفية من الوجوب والندب والحظر والاباحة والكراهة. كما انتج تقسيمات الاحكام الوضعية، مثل العلة والشرط والمانع والصحة والفساد والبطلان... إلخ. والفقه هو الذي انتج تقسيمات المقاصد من ضروريات وحاجيات وتحسينات، والتي تهدف الى حفظ الدين والعقل والنفس والمال والنسل. والفقه هو الذي انتج القواعد الفقهية التي تمثل عمدة في الترجيح والاجتهاد مثل "العذر يزال" ومثل "المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة" ومثل "المشقة تجلب التيسير" وغيرها. والفقه هو الذي انتج ضبط القياس وشروطه والاجماع وحجيته والمصالح المرسلة والاستحسان وغيرها. فليس الفقه هو فقط اجتهادات الفقهاء في الفروع، ولكنه اجتهاد في استخراج الاحكام الشرعية من ادلتها في الكتاب والسنة ثم اجتهاد في تنزيل هذه الاحكام على الواقع. وارتبط ذلك كله بالتوصل الى الثروة الضخمة في اصول الفقه وقواعده وضبط قواعد الاجتهاد. ويبدو هنا ان الفقه مرتبط ارتباطاً قوياً بالشريعة لأنها مصدر له، وهو مصدر لها يثريها ويربطها بالواقع. وتمييز الفقه عن الشريعة يكون باعتبار ان الشريعة اوسع من الفقه، فهي تتضمن الاخلاق والعقائد، وهو ينتصر على العبادات والمعاملات والعقوبات. والشريعة وحيٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهي شيء مقدس لا يملك المسلم ازاءه الا التسليم. اما الفقه فهو عمل اجتهادي عقلي بشري في اطار الشريعة، ومن ثم فإنه لا يبلغ ان يكون ديناً ملزماً. فقد يصيب المجتهد وقد يخطىء، وكلٌ يؤخذ من قوله ويترك، ولا يجوز لمسلم ان يتدين بمذهب يأخذه كدين لا يجاوزه حتى وإن ظهر خطأ المجتهد. لكن الفقه يقترب من الشريعة حتى يكاد يطابقها في ما هو اجماع ثابت وفي ما هو قطعي لا سبيل للظن اليه. وفي الظني الاجتهادي، فإن التمييز يجب ان يتم بين ما هو أمور ثابتة لا تكاد تتغير مثل العبادات واحكام الاسرة والميراث، وبين ما هو متغير مثل النظم السياسية والعلاقات الدولية والقانون الدولي. فالثابت ان الفقه سيبقى يمثل واسطة لا يمكن الاستغناء عنها، وفي المسائل الفرعية، فإن الاختلاف يمثل بدائل فقهية ثابتة تقريباً بحيث لا يكاد الواقع يطرح فيها اقضيات جديدة تفرض على المجتهد. اما المتغير من الفقه، فإنه سيظل بحاجة دائمة الى اجتهاد فيه، وهنا يكون التميز الحقيقي والتحدي الذي يواجه المجتهد. وكما يقول الشهرستاني: "وبالجملة نعلم قطعاً ويقيناً ان الحوادث والوقائع في العبارات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعد ونعلم قطعاً انه لم يرد في كل حادثة نص ولا يتصور ذلك ايضاً. والنصوص اذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية، وما لا يضبطه ما يتناهى، عُلم قطعاً ان الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد". ولا يجوز ان يكون الاجتهاد مرسلاً خارجاً عن ضبط الشرع، فالنصوص متناهية والوقائع غير متناهية. وحتى يمكن ضبط الواقع بالشرع، فإن الاجتهاد هو الأداة التي تحقق ذلك. وسيبدو الاجتهاد مطلوباً وبقوة في ما هو متغير، اي المجمل الذي لم تأت فيه إلا نصوص مجملة او قواعد عامة او في المجال الأرحب المفتوح، اي الذي لم يأت به نص اصلاً. وهذا الجانب سيكون مرتبطاً ببيئته وواقعه وظروفه، ويبدو اقل ثباتاً من الجزء المتصل بالعبادات او المعاملات المجمع عليه، اذ ان النصوص فُصّلت في هذا الجزء. وكما يقول ابن القيم: "السياسة هي ما كان فعلاً الناس معه اقرب الى الصلاح وأبعد عن الفساد وان لم ينص على ذلك نص او لم ينزل به وحي". فالمعيار هنا هو تحقق المقاصد الكلية للشريعة وتحقيق الصلاح في واقع الناس. وهنا يبدو العقل المسلم وقد انفتحت امامه مجالات الاجتهاد الواسعة من دون اي قيود إلا قيد تحقق مقاصد الشريعة والالتزام الذاتي للمجتهد. وهناك مجالات جديدة تحتاج الى اقتحام لها مثل انواع الاستثمارات المستحدثة التي تختلف تماماً عما كان عليه امر البيع والشراء في المجتمعات التقليدية. وهنا نجد مجالات مثل الهندسة الوراثية ونقل الاعضاء وغيرها. والقضية في ما اعتقد ليست مسألة علاقة الفقه بالشريعة أو الواقع، بقدر ما هي كيف يمكن مواجهة الواقع الجديد عبر بناء واجتهاد فقهي جديد؟ المسألة هي كيف نبني فقهاً جديداً عبر عملية اجتهاد حقيقية من دون بذل الجهد في جدل حول هل الفقه هو الشريعة وهل الفقه القديم واسطة لا يمكن الاستغناء عنها في التعامل مع النص أم انه يمكن التعامل مع النص مباشرة؟ المؤكد في كل الاحوال هو ان الفقه القديم سيبقى واسطة مهمة للتعامل مع النص في ما هو ثابت. ولكن في ما هو جديد يمكن التعامل مع النص مباشرة عبر فهم الواقع الجديد جيداً. وهنا تنشأ علاقة جدلية قوية بين النص والواقع، وينشط الاجتهاد ويبنى فقه اجتهادي يثري الفقه التقليدي ويقدم اجوبة معاصرة في ما لم يجتهد هو فيه. لكن على المستوى المنهجي والعلمي، لا يمكن القفز على الاجتهادات القديمة خصوصاً في الاصول والقواعد الفقهية وفي ما هو مجمع عليه وفي ما هو ظني لا يتغير لثباته. وتبدو دعوة تجاوز الفقه للتعامل مع النص مباشرة مغرية، لكنها خطيرة. المسألة بحاجة الى التوازن بحيث لا يتجاوز الفقه القديم كله ولا نجعل منه مقدساً كالشريعة القرآن والسنة. بمعنى ان للمجتهد المعاصر، اذا توافرت له الشروط، ان يأخذ ويترك بحيث يكون المعيار هو القرآن والسنة الصحيحة، وهي متوافرة لدينا بأكثر مما كانت لدى الآخرين. كما انه سيجد أبواباً مفتوحة على مصراعيها للاجتهاد في ما هو متغير او في ما هو سياسة جزئية او في ما ليس شرعاً عاماً او كلياً لا يتغير بتغير الزمان والمكان. والقاعدة المعروفة هنا هي "أن الفتوى والاحكام تتغير بتغير الزمان والمكان والحال". كما ان الابواب مفتوحة في ما لم يقل فيه الأقدمون شيئاً وهو جديد تماماً. ان العلاقة بين الفقه والواقع علاقة دائمة ومتجددة، وهي بحاجة الى اجتهاد المجتهد كما انها بحاجة الى بناء عقلية اصولية يمكنها الاجتهاد المتوازن الذي يضمن دائماً تحقيق أوثق الروابط بين الفقه والواقع. والمؤسسة الدينية عليها ان تركز في بناء عقل شبابها على الاصول والقواعد التي هي ادوات للاجتهاد، كما ان المذاهب ستبقى ادوات مهمة لتدريب عقل الطالب وبناء وعيه. والمسألة بحاجة الى اجتهادات جديدة بدلاً من الدوران في عراك فكري حول قضايا نظرية، وهو ما ننتظره من المؤسسة الدينية في مصر. * باحث مصري.