يتشكك الكثير من الباحثين في مدى شرعية اغلاق باب الاجتهاد في المجال السني ذلك ان فتوًى بهذا الحجم، فضلاً عن كونها تمثل اجتهاداً أيضاً، يصعب تقريرها من قبل فقيه أو مجتهد واحد. واذا كانت الصيغة التي يتم بها تقرير هذا الحكم تعتمد على اجماع علماء المسلمين، فإن صيغة الاجماع نفسها هي أيضاً محط تساؤلٍ عن مدى امكان تحققه وعن إلزامه لمن بعده في اعتبار ان الاجتماع - ان تحقق - فهو وليد زمن تاريخي ومشروط بظروفه والتغيرات والتحولات التي انتجته. لذلك فإخراجه من زمنه وجعله متعالياً على التاريخ ومتجاوزاً له وملزماً لمن يأتي بعده ينفي عنه صيغته الشرعية ويحوله الى اشبه بالنص الصالح لكل زمان ومكان. وفتوى اغلاق باب الاجتهاد وعلى رغم وجودها لم تنف الاجتهادات والآراء للعلماء بعد صدور هذه الفتوى وإن اقتصرت على مجال الجزئيات والتفاصيل، وعدم تطبيقها نابع من كونها تعارض ما ورد في النص النبوي الذي يثيب على الاجتهاد في كل الأحوال مصيباً كان هذا الاجتهاد أم مخطئاً. وكأنه يمثل دعوة دائمة ومتجددة للاجتهاد بقوله للمخاطبين جميعهم ان الاجتهاد فرض عليكم وعليكم ان تمارسوه في كل أحوالكم لا بأس عليكم ان اصبتم ام اخطأتم. واذا كان الاجتهاد كفتاوى جزئية وتطبيقات تفصيلية لم يشهد انقطاعاً فعلياً خلال التاريخ الاسلامي فإن الاجتهاد وفق منهج شامل يكاد يكون افتقد بعد الشاطبي الذي كون رؤية كلية للشريعة مبنية على نظرية المقاصد في كتابه الموافقات. وكثرة الحديث في الوقت الحاضر عن التجديد والاجتهاد انما ينبع من ضرورة الاستئناف مع امتلاك الأحقية في تكوين رؤية كلية منسجمة في معطيات العصر وآفاقه. الريسوني وباروت يطرح احمد الريسوني في حواره مع محمد جمال باروت ضمن كتاب الاجتهاد، النص، الواقع، المصلحة الذي صدر عن دار الفكر دمشق، 2000 ضرورة الاجتهاد بوصفه ملازماً للشريعة منذ نشأتها. الا انه يعود ويتحفظ على هذه الضرورة ويقيدها عندما يعتبر ان الاجتهاد يحتاج الى علم ومعرفة وخبرة وأن تفسير الدين وتأويله يحتاج الى اشتراط الشروط والتأكد من الأهلية والصلاحية وأنه لا بد من اعتبار شروط المجتهد ولا يصح إلغاؤها أو الاستخفاف بها مع انه موقن ان شروط المجتهد وقع تعسيرها وتعقيدها على مر العصور، حتى كادت ان تصبح شروطاً تعجيزية، وأنها أضحت اليوم في أمس الحاجة الى نوعٍ من التحرير والتيسير. ويتخوف من هذا التحرير والتيسير ويتوجس منه كما بدا ذلك عند طرحه لعلاقة النص مع المصلحة، فهو يعارض الشيخ نجم الدين الطوفي ت 716 ه الذي يمثل أول من افترض تعارض المصلحة مع النص ويعتبر انه لم يستطع ان يأتي بمثالٍ واحد حقيقي على التعارض الذي افترضه بين النص والمصلحة ما جعل رأيه مجرد افتراض نظري. ويزداد توجسه خيفةً عندما يشاهد السياسي ورجل السلطة يستثمر النص لمصلحته ويجيزه وفقاً لما تريده رغبته كما فعل بورقيبه مع آيات الصيام، مما يجعله يتخوف من اعطاء المصلحة في النص نهايتها القصوى وينتهي الى أن اشكال التعارض التي تظهر بين النص والمصلحة مردها الى احد أمرين، اما خلل في فهم المصلحة وتقديرها، واما خلل في فهم النصوص وتطبيقها، وفي الحالين اذاً يعود الخلل الى قصور رؤية النظر في تعاملها مع النص. ولا يقدم لنا الضوابط أو المقاييس التي تصحح هذا الخلل وتعيد النظر الى مجاله الصحيح، إذ كل ما نعثر عليه هو مجرد خواطر يستدعيها الحديث عن الاجتهاد وافتقدنا الرؤية الكلية التي يصرّ عليها هو نفسه والتأصيل الذي يعتبر هو أبرز دعاته، بحيث انه يمكن تخليص طرحه أن الاجتهاد ضروري ولا بد منه ولكن ليس على اطلاقه. فالشروط القديمة يجب عدم التهاون بها أو التنازل عنها. هكذا نجد ان ما ينتهي اليه ينقض ما بدأه. إذ برأيه ان الاجتهاد وفق الشروط التي وضعها السلف غير ممكن، بل انها عقبة تمنع التفكير بامكان الاجتهاد وليس الاجتهاد بحد ذاته. بمعنى ان من ينتظر ممارسة الاجتهاد حتى يحقق شروطه يكاد يفني عمره من دون ان يحقق جزءاً منها. فأين له اذاً ان يمارس الاجتهاد. أعتقد ان الاجتهاد يبدأ مع فتح الباب وانطلاقاً من ان تعدد الآراء مع اختلافها يعني الرؤية ثراءً والرأي الأصوب هو الذي يفرض نفسه لحكم كون البقاء للأصوب دائماً كما تذكرنا الآية الكريمة فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. اضافة الى ان الرأي الصواب ليس متفرداً وانما هو اشراك الآراء جميعها بعد تلاقيها وتناظرها. فالحقيقة هي التي يشترك الجميع في صنعها وليست هي رأي شخص أو فرد مهما ارتفعت منزلته وعلا قدره. تاريخية الاجتهاد اما محمد جمال باروت فإنه يبحث في تاريخية الاجتهاد من زاوية علم اصول الفقه انطلاقاً من الارتباط بينهما وصعوبة النظر الى أي منهما بمعزل عن الآخر، فما دام الاجتهاد يعني استفراغ الوسع في استنباط الأحكام الشرعية فإن فهم هذه الآلية لا يتم بغير فهم العلم الذي يضبطها علم أصول الفقه. وبعد دراسة التطور التاريخي الذي نشأ معه هذا العلم بدءاً من الشافعي في "الرسالة" الى حين التدوين الرسمي النهائي لهذا العلم في الاسلام وذلك عندما استنفد النموذج الأصولي التشريعي فاعليته، فلم تعد هذه المدونة بحكم تقليدها وامتثالها بحاجةٍ اصلاً الى هذا النموذج الذي تتعدد وظيفته المنهجية المعرفية الأساسية بتعقيد عملية الاجتهاد. وهذا ما يفسر جمود البحث الأصولي وتحوله الى نوعٍ من مختصرات معقدة ومستغلقة للمختصرات. ثم يبحث في اشكالية العلاقة ما بين النص والمصلحة، اذ وقف علماء الأصول مواقف ثلاثة: الأول: لا يعتبر المصلحة ان لم يشهد لها أصل خاصٌ بالاعتبار، ويردها ان لم يكن حملها على القياس، أما الثاني: فهو الذي يأخذ بالمصلحة المرسلة أصلاً مستقلاً قائماً بذاته من أصول الاستنباط وهو ما تمثله بشكلٍ أساسي المدرستان الحنبلية والمالكية، اما الثالث: هو الذي يقوم بتقديم المصلحة على النص في حال تعارضهما اذ أعطى المفهوم المصلحة المرسلة الأولوية. وهذا ما يستدعي الحديث عن علم المقاصد الذي ابتدأ مع الجويني والغزالي وتبلور كعلم مستقل مع الشاطبي الذي انتهى الى انه يمكن اعتبار الشريعة مصلحة والمصلحة شريعة. ويرى باروت أن ما يدهش لدى الشاطبي هي أنه يقول احياناً بعبارات مختلفة ما تقوله نظرية المنفعة الحديثة في العصر الليبرالي وذلك ضمن نظرية علم المقاصد. وهذه النظرية سوف تُستدعى من قبل الاصلاحية الاسلامية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ومطلع العشرين الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وسوف تضطلع بوظيفة تشبه الوظيفة التي أناطت البروتستانتية نفسها تحقيقها في المسيحية بحسب ما يرى باروت. عملية مقارنة يدخل باروت في عملية مقارنة بين الاصلاحية الاسلامية والبروتستانتية ليدرس التشابه في المقدمات والنتائج وبما يعنيه في النهاية على مستوى اشكالية الاجتهاد ان الاصلاحية الاسلامية أرادت فتح العلاقة المباشرة ما بين المسلم والله من دون أي توسطات. وبلغت هذه العلاقة ذروتها مع جمود المدونة الفقهية الاسلامية عندما منع جهاز الافتاء في الدولة العثمانية اصدار اي فتوى بشأن مجموعة القوانين المدنية الاسلامية الصرفة. وساعدت عملية استعادة الشاطبي من قبل الاصلاحية الاسلامية على تأويل مفهوم المنفعة في النظرية الليبرالية تحت اسم المصلحة وترتب عن ذلك تشغيل آليات الاجتهاد التي كانت توقفت أو تعطلت. وبحسب مبدأ الاجتهاد لدى الاصلاحيين فإن الشريعة لا تضيق بمصلحة المجتمع، وأن مقصدها هو تحقيق مصالح الناس في كل ما يحتاجون اليه. من هنا يصبح تحقيق المصلحة وفق مبادئ الشريعة وروحها ومقاصدها هو معيار صلاحية الاجتهاد النظرية، وهذا ما مارسه محمد عبده في بعض فتاويه، وانعكس ذلك لاحقاً على الخطاب السياسي الاسلامي كما نجده لدى مصطفى السباعي الذي أصر على ان الكثير من النصوص والآراء الفقهية التي وضعت في عصور متأخرة، لا يتلاءم مع مشكلاتنا الحاضرة ولا ينسجم مع روح الشريعة التي هي رعاية مصالح الناس. يرغب باروت في النهاية الى الذهاب بالأفكار السابقة الى نهايتها اذ يصر على انه لا يمكن فتح باب الاجتهاد بمعزلٍ عن اعادة النظر جذرياً في التعريف التقليدي الذي يحصر الاجتهاد في ما ليس فيه نص أو اجماع، والاجتهاد المطلق لا يمكن ان يقوم الا عبر اختراق هذه العوائق وتجاوزها والذي يسهم في النهاية في شرعية الحادثة. يستخدم باروت لفظة الهرمينوتيقا أكثر من مرة، وفي كل مرة يختلف معناها عن الأخرى فمثلاً يقول: "نتج عن ذلك اخضاع الهرمينوتيقا الاسلامية الحيوية يومئذٍ بطرق تفسيرها وتأويلها الى علم اصول الفقه" ما يشير الى ان استخدامه لها كان بمعنى تأويل النص الديني وهو المعنى المرتبط باللفظة في سياقها الغربي الذي يعني تأويل الكتاب المقدس. الا انه يستخدمها مرةً اخرى عندما يقول: "من المعروف في قواعد الهرمينوتيقا الاسلامية، ان الاجتهاد يصبح معصوماً عن الخطأ بعد الاجماع". فتحار في المعنى الذي يريده منها ويتطابق بحسب السياق مع علم أصول الفقه. وتارة اخرى تعود "الهرمينو تيقا" لتتطابق مع المدونة الجامدة المغلقة كما يسميها التي تحكمها آليات التقليد والتبسيط والتسليم. ما يعني ان استخدامه لها هنا كان يعني الشريعة بما هي كلٌ نظري في تفسير النص الديني. واذا انطلقنا من استخدامه المتأرجح هذا للفظة هيرمينوتيقا لوجدنا انه كان يصر على قراءة علم الأصول قراءة استرجاعية تتخذ من المعطيات والأدوات المعرفية القائمة مرتكزاً وسنداً لها من دون ان يحاول اكتشاف المنطق الداخلي الناظم لعلم الأصول والمحدد لتفريعاته وجزئياته. وهذا بدوره انعكس على رؤيته في ضرورة القيام بعملية اصطفاء ثم عملية تأويل حتى نتمكن بعد هذه العمليتين من استعادة الآراء الفقهية التي تمكننا من دنيوة العالم وعلمنته. وهذه الرغبة في استكناه الأصول حتى تحقق ما نرغب منها ونريد ولا يبدو انها ممكنة عملياً فضلاً عن أنها تسقط في افخاخ معرفية أولاها علاقة البعد الاجتماعي والسياسي ودوره في قراءة النص الديني وتوظيفه. * كاتب سوري.