لم تكتف "ندوة تونس" عن حداثة ابن رشد بدراسة الجوانب الفلسفية في تفكيره، وهي كما تبيَّن لا تعكس منظوره العام بسبب كثرة "التصحيف" وأخطاء النقل والترجمة أو بسبب خلط أفكاره بنظريات ارسطو. بل تناولت الجوانب الأهم في تصنيفاته وهي تلك التي تطال مسائل الأخلاق والتربية والقانون وصولاً الى الاجابة عن سؤال: لماذا لم ينتشر فكر ابن رشد في العالمين الاسلامي والعربي وماذا بقي منه، من حداثة، يمكن استخدامها في عصرنا؟ حاول استاذ الفلسفة في جامعة الكويت غانم هنا في بحثه حول "نقطة انطلاق الاخلاق في فكر ابن رشد" التأكيد على "وحدة وتناسق الفكر الرشدي" في مسألة الأخلاق اذ تتكثف عنده في نقطة الاتصال بين الشريعة والحكمة. واعتبر هنا ان كثرة الكلام عن العقلانية والتنوير عند ابن رشد "رسخت في الفهم الشائع عن فلسفته آراء اعتقد انها تظلمه". فابن رشد لم يفضل العقل الحكمة على الشريعة فهو يقول ان "كل شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطها" ولا يعني الأمر انه يبتعد "عن كل ما ليس مصدره العقل". دافع هنا عن فكرته انطلاقاً من دراسة "نقطة انطلاق الأخلاق" في فكر ابن رشد وتحديداً في مسألة الاتصال بين الشريعة والحكمة. فهو يرفض تلك التفسيرات التي أعطت لمفرد "الاتصال" معنى "الاتفاق" أو "التوفيق" ويتجه الى تقديم تفسير مخالف انطلاقاً من معجم ابن منظور "لسان العرب". فالاتصال هو ما لم ينقطع أو "وصل الشيء الى الشيء" اي انتهى اليه وبلغه أو "انهاه اليه وأبلغه أياه". ويعني ان ركيزة فكر ابن رشد لا تقوم على التضاد والتناقض والتعارض بين الشريعة والحكمة. فاذا كان الوحي ينتهي عنده الى الحكمة فإنه ليس بالضرورة "ان الوحي يحتكم الى العقل". كذلك لا يعني ان للحقيقة مظهرين دينياً وفلسفياً أو ان للعقل عنده "قيمة أعلى وأشرف من قيمة الوحي والشريعة". تنطلق نقطة الأخلاق في الفكر الرشدي من مسألة الاتصال حين تمارس الأخلاق بعقل يقيني وتشكل أساس كل فضيلة وسعادة و"من يتبع الشريعة ويؤمن بعقائدها ويحقق شرائعها ينتهي الى يقين الحكمة، حيث تقوم هذه بفعل العقل في كل ممارسة انسانية". فمنطلق ابن رشد الأخلاقي ليس يونانياً ولا هو ديني انه "في اللحمة" اذ لا قطيعة "بل اتصال بين العقل العملي والعقل النظري"، وحين "ينتقل ما كان بالقوة الى ما هو بالفعل وفي اطار العقل الواحد". فابن رشد، كما يذكر غانم هنا، يشكل في فكره "وحدة متكاملة لا تناقض فيها بين الفقيه والعالم والفيلسوف والطبيب". وتطرق الاستاذ والباحث التربوي هشام نشابة الى مسألة "التربية عند ابن رشد" فهو "معلم ومربٍّ في الأسلوب الذي اتبعه في عرض أفكاره اذ ينطلق من الأصول الى الفروع، ومن السهل الى الصعب، ومن النظرية الى التطبيق". يقول نشابة ان ابن رشد لم يترك مؤلفات في التربية والتعليم كما فعل الزرنوجي والقابسي وابن سحنون والغزالي وابن سينا، فاضطر الى القيام بعملية استنطاق لكتاباته واستخلاص أفكاره التربوية من "نظرته الفلسفية". فقسم كتاباته الى فرعين: الأول الموقف الفكري العام وصلته بالتربية والتعليم. والثاني الموقف العملي وتوجهاته في طرائق التربية والتعليم. عموماً ينقسم العلم الرشدي الى قسمين نظري وعملي لكنه يعطي العلوم النظرية العلميات مقاماً "أرقى في سلم العلوم من العلوم العملية"، ويصنف العلوم الى برهانية وجدلية وخطابية. ويتشابه تقسيمه للناس الى فئات تتناسب مع تقسيمه للعلوم. وعلى هذا يدعو الى تعليم الشرع للجميع ويرى ان علوم الجدل هي من اختصاص أهل التأويل. ويستخلص نشابة مجموعة عناصر تربوية من كتابات ابن رشد مثل "تعليم الفضائل"، فالأخلاق عنده "معيار التصرف والفتوى" وعلى الانسان ان يعمل "بما يعلم وبما يعتقد انه الصواب". واذا تعارضت المصلحة مع قواعد الأخلاق يرجح ابن رشد العمل بپ"قواعد الأخلاق". ويدافع عن احتمال وقوع الفقيه في الخطأ لحظة "التفكير أو التأويل أو الاستنتاج" ويفرق بين خطأ العلماء وأخطاء غيرهم. ويستتبع موقفه بالتأكيد على حق الاختلاف في الرأي والتأويل و"حق العالم والمتعلم في الاعتراض". وبرأيه ان غاية المعلم "تعليم أسلوب التفكير قبل اعطاء المعلومات والوقائع" كذلك "تعليم العلم الحق وعمل الحق"، فالتعليم عنده "تصور وتصديق". فالتصور هو "الملاحظة والتجربة والمقارنة وضرب الأمثال". ويأتي التصديق في مرحلة لاحقة و"هو مبني على البرهان". فالمعرفة عنده اكتساب لا مجرد اقتباس. وينتقل نشابة من استخلاص الموقف العام الى قراءة مواقفه العملية انطلاقاً من تصنيفه الناس حسب طبائعهم وقرائحهم وفكرهم. وهو ليس "استعلاء أو تكبراً لفئة من الناس على فئة، ولا احتقاراً". فالكل بغض النظر عن قدرة الانسان وفطرته "مؤهل للايمان بالله بحكم الفطرة، ولاتقان الصنائع المختلفة". فالفطرة اذن "هي التي تجعل الناس مؤهلين لهذه المرتبة الخاصة" في تعلم الجدل والبرهان "بينما تُبقي سائر الناس دونها". والناس عنده ثلاث فئات: جمهور، جدليون، خواص. والعلوم مصنفة على مراتب ثلاث: العملي الجمهور النظري الجدليون، البرهاني الخواص. ويستنتج نشابة من تصنيفات ابن رشد قاعدة مهمة للمعلم والمربي وهي "ان يسعى لمساعدة جميع الناس آخذاً في الاعتبار قدراتهم". ويجد في كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" خير مثال على المنهج الذي سلكه ابن رشد عندما ربط الفروع بالأصول ولم تكن غايته الاحاطة بالفروع وانما قصد "ان يعطي الدارس للشريعة دليلاً عملياً لطلب العلم" في باب أصول الفقه. لذلك اتبع اسلوب وضع القاعدة، ثم اعطاء الأمثلة ثم يذهب الى المقصد مباشرة ومن دون مقدمات. ويستخلص نشابة انه منذ ابن رشد "لم يعد الفكر الاسلامي بحاجة الى ثورة علمانية كالتي شهدتها أوروبا في عصر الأنوار، لكي يصبح فكراً علمياً وعالمياً، وانما أصبح التطور والابداع جزءين مكونين للفكر الاسلامي وهدفين رئيسيين من أهداف التربية". الاجتهاد وأصول الفقه تشكل مسألة الاجتهاد في فكر ابن رشد نقطة مركزية. فالقاضي عادة هو مجتهد في فقه المعاملات اليومية الفروع وهو صاحب رأي في فقه العبادات الأصول. وتكمن قوة ابن رشد الفكرية في مجال الفقه أكثر من مجال الفلسفة، فهو ابدع في القضاء بينما اكتفى بالنقل والمقارنة والشرح في الفلسفة. وترتدي مسألة القضاء في فلسفة القانون الاسلامي أهمية استثنائية خصوصاً في اسلوب استنباط الأحكام واستقراء النص في ضوء الواقع المتغير. وهناك آراء فقهية مختلفة حول هذه المسألة وكلها تتفق على حديث للرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "اختلاف علماء أمتي رحمة". فالاختلاف رحمة لأنه يعطي فسحة للعقل ويوسع حلقات التفكير في مجال المعاملات البشرية وحماية مصالح الناس المتنافرة، لأن من حكمة الشريعة التوسط أو الجمع بين المصلحتين لتسيير شؤون الناس وضمان حقوقهم في اطار المقاصد العليا للشرع. لذلك احتل الاجتهاد مكانة خاصة عند العلماء وصل الى حد التطرف مع ابن حزم الظاهري حين اعتبر في كتابه "المحلى" انه "لا يحل لأحد ان يقلد أحداً حياً أو ميتاً وعلى واحد منا الاجتهاد حسب طاقته". واختلف العلماء حول حدود الاجتهاد انطلاقاً من قراءات مختلفة للنصوص. فذهب الشهرستاني، وهو ليس فقيهاً، في كتاب "الملل والنحل" الى القول "والنصوص اذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، علم قطعاً ان القياس، واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادث اجتهاد". بينما رفض ابن حزم اعتماد القياس لاستقراء الأحكام وتشدد في الأخذ بظاهر النص ورفض التأويل والاستنباط وفصل بين الاجتهاد والقياس فهو يقول في "المحلى" ان "ما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح وليس حراماً ولا فرضاً وان أمر به فهو فرض، وما نهى عنه فهو حرام. فأي حاجة بأحد الى قياس أو رأي مع هذا البيان الواضح". بينما وحدَّ الامام الشافعي بين الاجتهاد والقياس وتبعه الأشاعرة على المذهب الشافعي الباقلاني، الجويني، الغزالي. وانحاز ابن رشد، وهو على المذهب المالكي، الى مدرسة الاجتهاد والقياس والتأويل البرهاني اذ أكد في كتابه "فصل المقال" على المسألة "فإن كان مما قد سكت عنه فلا تعارض هناك، وهو بمنزلة ما سكت عنه من الاحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي. وان كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق ان يكون موافقاً لما أدى اليه البرهان فيه أو مخالفاً. فإن كان موافقاً، فلا قول هنالك. وان كان مخالفاً طلب هنالك تأويله". وبسبب تعارض اجتهادات العلماء والفقهاء والقضاة في معنى الاجتهاد والقياس والتأويل والأدلة البرهانية قامت سجالات ونقاشات تناولت عناوين كثيرة منها: طرق تلقي الأحكام، اصناف الالفاظ ودلالاتها، القياس الشرعي، أنواع القياس قياس شبه وقياس علة، أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله، الاجماع، الاقرار، وفي الأحكام ومعانيها. كانت لابن رشد مساهمات ثمينة في الاجابة عن هذه العناوين وقام رئيس قسم الفلسفة والعلوم الاجتماعية في جامعة قطر عمار الطالبي بدراستها في بحث تناول "أصول الفقه والاتجاهات المعاصرة في فلسفة القانون". ينطلق الطالبي من قواعد عامة لدراسة القانون بقصد التعرف على التشابه بين أصول الفقه وفلسفة القانون في أوروبا. فكل مجتمع يؤسس قوانينه وهناك ارتباط بين الظواهر الاجتماعية والقوانين لأن القانون قاعدة للفعل وهو يفصل ويحد منها. وابن رشد في المعنى المذكور جمع بين حكمة النظر البشري وحكمة الشريعة، وبرأيه فان المطلوب من الانسان كسب الفضيلتين العملية والنظرية. لذلك يؤكد ان وضع الشرائع لا يتم الا بوحي وهو لا يدرك بتعلم ولا بصناعة ولا حكمة. واذا كانت كل شريعة بالوحي فإن العقل يخالطها لذلك تستنبط الشرائع المدنية بالعقل من الوحي. ويرى الطالبي ان أصول الفقه تختلف عند ابن رشد عن تصور الأصوليين فهي عنده "علم آلي منهجي"، اذ من خلال القوانين والأحوال يمكن بها ان يسدد "الذهن نحو الصواب". ويستخدم ابن رشد شروط أصول الفقه عند الغزالي وهي: الأحكام، اصول الأحكام، الأدلة المستعملة في استنباط الأحكام وكيفية استعمالها، وشروط المجتهد. ويركز قاضي قرطبة على الشرط الثالث عند الغزالي أي "الأدلة المستعملة في استنباط الأحكام وكيفية استعمالها". وعلى هذه القاعدة قام بدراسة كل مذهب على حدة، وبيان أسباب الاختلاف في الأحكام، ومقارنة اختلاف المذاهب التي وقع بها الاستنباط. بعدها قام بنقد تناقض الأصوليين في استخدام القياس كأصل رابع من أصول الفقه ورفض طريقة الغزالي في استخدام المنطق واعتبره "ليس من صميم علم أصول الفقه" ثم لجأ الى توحيد القياس والاستصحاب منتهياً الى تحديد شروط استخدام القياس في أصول الفقه. وينتقد ابن رشد المذهب الظاهري أهل الظاهر في انكاره القياس بذريعة "ما لا يمكن معرفته عن الوحي لا يمكن معرفته عن العقول" كذلك أنواع أقيسة الأصوليين وتفريعها الى القياس المخيل والقياس المناسب وقياس الشبه، ويرى في تلك الأقيسة مجرد قرائن تدل على ابدال الألفاظ وليست اقيسة ولا يوجد لها فعل القياس. ويصل ابن رشد من وراء انتقاداته الى مقصده وهو، كما يرى الطالبي، تحديد الغاية من الشريعة والحكمة اذ ان مقصدهما ليس الكمال الانساني والسعادة القصوى فحسب بل "ايجاد حاكم عادل ودولة مثالية" وهي الدولة القائمة على شريعة وقانون. فالشريعة برأي قاضي قرطبة "قانون عالمي" وان واجب الحاكم "ان يحكم طبقاً للقانون لا تبعاً للهوى". لذلك وجد ان مقصد الحدود في الشريعة هو "الزجر المحض" و"العدل" و"حفظ المصالح" بتفويض الأمر الى "العلماء بحكمة الشرائع". اعتمد ابن رشد، كما يقول الطالبي، في فهم مقاصد الشريعة على الاستقراء استقراء النصوص ولم يتردد في اعتماد العادات والتجربة في بعض الاحكام، وسلك في بحثه منهج الأصوليين في دراسة الفقه. ويلجأ الطالبي الى عقد مقارنات بين أصول الفقه الاسلامي وفلسفة القانون المعاصر، وهو أساس بحثه. ويصل الى استنتاجات عامة حول "أوجه الاختلاف" و"أوجه التشابه". وينتهي الى وضع قائمة بمصادر ابن رشد والمراجع التي اعتمد عليها في دراسة أصول الفقه وهي كثيرة أهمها كتابات جده الفقيه قاضي قضاة قرطبة توفي 520 هجرية، الغزالي 505 هجرية، وكتاب الاستذكار لابن عبدالبر توفي 463 هجرية، أبو المعالي الجويني، أبو بكر الباقلاني 403 هجرية، النيسابوري 318 هجرية، الطحاوي 321 هجرية، البلوطي منذر توفي 355 هجرية، السعدي 330 هجرية، الرعيني 332 هجرية، ابن خلف الباجي 274 هجرية، ابن قدامة الحنبلي 420 هجرية، القيرواني 386 هجرية، البلوطي فضل الله توفي 335 هجرية، الليثي 337 هجرية، النووي 676 هجرية، وابن حزم 456 هجرية. الا ان مشروع ابن رشد الفقهي لم يكتمل، كما يذكر الطالبي، فهو وضع كتابه "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة" ثم كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، وكان يفكر في وضع كتاب ثالث يتناول فقه الفروع "على مذهب مالك بن أنس مرتباً ترتيباً صناعياً" لكنه لم ينجز خطته فضاق بذلك مجال علمه في الحقل النظري الأصول وخرج عن الحقل العملي الفروع.