في الوقت الذي دعا بعض العلماء والفقهاء إلى التجديد في الفقه الإسلامي، فإن آخرين رأوا أن يغلق باب الاجتهاد الفقهي، إلا أن الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين المفكر الدكتور محمد سليم العوا يرفض دعوى إغلاق باب الاجتهاد في الفقه الإسلامي، مؤكدا أن هذه الدعوى تحمل في ذاتها دليل بطلانها، وقال: «نريد من الناس أن يفهموا الدين على النحو الصحيح، ويجتهدوا اجتهادا مناسبا للعصر يعيد إلى الدين مجده، ويجدد النصوص التي تركت». لكنه يستدرك «ليس معنى عدم قفل باب الاجتهاد أن نفتح باب الفساد»، مشيرا إلى أن بعض الكتابات الصحافية عن الإسلام تتضمن أحكاما مثل: الحلال والحرام والمباح والمندوب بدون أساس علمي، وهذا لا يجوز. إغلاق الاجتهاد متى يغلق باب الاجتهاد؟ ومن يملك ذلك؟ لم يحدد القرآن أو السنة موعدا أو تاريخا محددا يغلق فيه باب الاجتهاد، والذي يملك قفل هذا الباب هم العلماء المجتهدون. فإذا كان الذين قالوا بغلق باب الاجتهاد مؤهلين للاجتهاد فهي دعوى غير مقبولة، لأنه مادام على وجه الأرض مجتهد فلابد له أن يجتهد، حيث لا يجوز له أن يقلد غيره، وقال الإمام الشافعي في «الرسالة»: «لا يسع من ملك الآلة التي يكون بها الاجتهاد أن يخالف اجتهاده إلى اجتهاد غيره». أما إذا كانوا مجتهدين، تكون دعواهم باطلة لأنهم مكلفون بالاجتهاد ماداموا قادرين عليه. وإذا كانوا مقلدين فدعواهم مردودة، لأنهم تكلموا في ما لا يجوز لهم أن يتكلموا فيه. وعلى غير ما هو شائع في الكتابات المعاصرة لم يقدم على غلق باب الاجتهاد عدو للإسلام أو جماعة من الجهلة والجامدين، إنما الذين أغلقوا باب الاجتهاد كانوا قوما من أهل الغيرة على الإسلام ومن أهل المحبة لهذا الدين، وفعلوا ذلك من باب الحرص على أحكامه أن يدخل فيها الدخيل، ولم يقولوا بذلك عداوة أو محاولة لغلق باب التقدم والتطور. لكن إغلاق الاجتهاد ليس جديدا، ويعود إلى بداية القرن الثالث الهجري ومنتصف الرابع.. فما هو الجديد في إغلاقه حاضرا؟ مع تطور الزمن وانتشار العلم وتدوينه في ذلك الزمن كانت العلوم الإسلامية قد تكونت وصار لكل مذهب من المذاهب الكبيرة أتباع مقلدون، وأصبح العلم مشاعا، وأصبح أعداد القادرين على التعلم والتكلم في العلم لا تحصى، ما ترتب على ذلك فوضى مثل التي نحن فيها الآن، حيث بدأ كل من يعلم شيئا من السنة النبوية أو سمع بعض دروس الفقه يدلي بدلوه في مسائل لا يستطيع أن يسبر غورها ولا أن يعرف حقائقها ويتصدر لإفتاء الناس. ولما وجد العلماء أن الذين لم يتأهلوا للفتوى يقدمون عليها، رأوا أن أفضل الحلول لمواجهة هذا الأمر هو إغلاق هذا الباب، وأن على الناس أن يقلدوا أحدا من الأئمة الذين عرفت إمامتهم (الذين عرفت إمامتهم في ذلك الوقت: أبو حنيفة، مالك، الشافعي، أحمد بن حنبل، الطبري، الليث بن سعد، والأوزاعي)، وقالوا بأنه من أفتى بفتوى واحد من هؤلاء الأئمة فلا بأس، أما أن يجتهد إنسانا اجتهادا جديدا فهذا لا يجوز، وأطلقوا على هذه القضية قضية إغلاق باب الاجتهاد. الفقيه والمفكر لكن بعض الكتاب المعاصرين يقولون إن تطور الأمة توقف منذ إغلاق باب الاجتهاد.. ما صحة ذلك؟ هذا غير صحيح، الإسلام لم يهدم أو يضعف بإغلاق باب الاجتهاد الذي تم في منتصف القرن الرابع، حيث ظل التطور الإسلامي مستمرا إلى نهاية القرن الثامن أو التاسع، وكانت الأمة الإسلامية الرائدة في العالم، والذي تأثر بذلك هو الحركة الفقهية وحدها، فيما استمرت الحركة الحضارية الإسلامية في مسيرتها. وبعض المفكرين يظنون أن من حقهم الاجتهاد.. فهل لهم هذا؟ ليس عندنا في الإسلام فكر بغير فقه، فمن ليس له فقه لا يستطيع أن يكون مفكرا إسلاميا معبرا عن الإسلام، يمكن أن يعبر عن الفلسفة أو الجغرافيا لكن لا يعبر عن الإسلام، الذي يعبر عن الإسلام لابد أن يجمع من الفقه قدرا صالحا يمكنه من أن يفهم حقيقة هذا الدين. من يستطيع الاجتهاد هم العلماء الذين درسوا هذا الدين دراسة منهجية، ولا أقصد بالدراسة المنهجية الدراسة المدرسية أو الجامعات الشرعية، إنما أقصد الدراسة العلمية التي تبدأ بالتعرف على القرآن والسنة واللغة والفقه والأصول وتاريخ التشريع والفقه. فتح الاجتهاد لو فتح باب الاجتهاد على إطلاقه لنشأت مذاهب أخرى غير المذاهب الأربعة؟ نحن لا نريد أن يوجد مجتهد مطلق ينشئ مذهبا ينافس مذهب أبو حنيفة أو مذهب الشافعي، إنما نريد مجتهدا قادرا على إفتاء الناس بما يحقق لهم مصلحة حياتهم الدنيوية. الإسلام جاء في القرآن الكريم بكثير من الأحكام، لكنه جاء بأضعاف هذه الأحكام قواعد عامة تنطبق على حالات لا تحصى، يستطيع المجتهد أن يستخرج منها أحكاما تفصيلية جزئية لمسائل لا حصر لها، ومن هنا أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالاجتهاد إذنا مباشرا صريحا، مثلما قال لعمرو بن العاص عندما جاءه خصمان يطلبان أن يقضي بينهما: «اقضي بينهما»، قال: يا رسول الله أقضي وأنت حاضر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ألم تعلم بأن الحاكم إذا حكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر». وحدثت وقائع كثيرة في السيرة النبوية تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سمح للصحابة بالاجتهاد، ومنها الواقعة الشهيرة بعد غزوة الخندق وهي واقعة صلاة العصر في بني قريظة. أخيرا.. ما هو التجديد الذي نبحث عنه؟ هو التجديد المستند على إحياء ما نسيه الناس من الفقه، التجديد المستند إلى الأصول التي تركت، فعندما نتحدث عن التجديد لا نتحدث عن الإفساد والتبديد وتضييع الثروة الفقهية، لا نتحدث عن إلغاء المذاهب الأربعة، بل متمسكون بها استمساكنا بالدين نفسه، لأنها طرق التفكير العلمية الإسلامية التي جعلتنا نفهم هذا الدين. نريد من الناس أن يفهموا الدين على هذا النحو الصحيح، ويجتهدوا اجتهادا مناسبا للعصر، اجتهادا يعيد إلى الدين مجده، ويجدد النصوص التي تركت. فهناك مسائل لا تحصى تركنا فيها النص الأصلي ولجأنا إلى النص الفقهي.