} انهت مجلة "الاجتهاد" الفصلية المتخصصة في شؤون "الدين والمجتمع والتجديد العربي الاسلامي" سنة من الجهود البحثية والاكاديمية تناولت فيها تاريخ السلطنة العثمانية في الدراسات الحديثة من بدايات التأسيس الى نهايات الدولة في الحرب العالمية الاولى. وتوزعت البحوث على خمسة اعداد تناول الاول "من الامارة الى الامبراطورية"، والثاني "التاريخ الثقافي والعلاقات الدولية"، والثالث "المجال العربي في السلطنة العثمانية". واحتوى الجزء الاخير على العددين الرابع والخامس وتناول موضوع "الاصلاح والتنظيمات ومصائر الدولة". وتنشر "الحياة" بالاتفاق مع "الاجتهاد" دراسة استاذ الدراسات العثمانية والشرق الاوسط في جامعة كاليفورنيا ساندييغو حسن كيالي عن فترة حكم جمال باشا في سورية وتمثل اللحظات الاخيرة للوجود العثماني في بلاد الشام. ويأتي اختيار سيرة جمال باشا وتجربته في سورية، الذي تولى منصب قائد الجيش الرابع، في مناسبة 6 ايار مايو حين اقدم على اعدام قادة القوميين العرب ودعاة الاستقلال في بيروتودمشق في سنتي 1915 و1916. ويهدف البحث ترجمة عبداللطيف الحارس الذي تنشره "الحياة" على حلقتين الى القاء الضوء على شخصية جمال باشا المثيرة للجدل والخلاف، اضافة الى التعريف بالجانب العمراني والثقافي في حياته وهو غير معروف في سيرته واعماله. لا تزال الأعمال السياسية والأدوار المتعددة التي لعبها أحمد جمال باشا 1872-1922 في الحكومة العثمانية المركزية وفي المقاطعات، مُحاطةً بالغموض. ويلف هذا الغموض، الى جانب جمال باشا، كل القيادات البارزة لجمعية تركيا الفتاة في العهد الدستوري الثاني. ومن الغريب أن جمال باشا لم يدرس بشكل وافٍ، علماً أنه قد ترك، وبعكس القادة الآخرين لفترة تركيا الفتاة، مذكرات شاملة نشرت بثلاث لغات بعد موته مباشرةً عام 1922. كما أنه نشر أيضاً، ولتمرير إجراءاته الصارمة في سورية، كراسة سياسية باللغات العثمانية والعربية والفرنسية. وعلى رغم أن المؤرخين يرجعون أحياناً الى مذكراته والإيضاحات، إلا أن هذه المنشورات إضافة الى العمل الذي كتب بإشراف جمال عن بعض الآثار في سورية، تعتبر المراجع أن جمال باشا هو مؤلف هذه الكتابات، لم تكن كافية لدفع المؤرخين الى دراسة سيرة هذا المؤلف. وبالمقارنة، نرى أن إهمال جمال باشا يتعرض مع الاهتمام المعطى لمدحت باشا، القائد العثماني الآخر البارز الذي خدم كحاكم لسورية قبل حوالى ثلاثة عقود. ويهدف هذا البحث الى إلقاء الضوء على جانب من أكثر جوانب عمل جمال باشا السياسي، إثارةً للجدل والخلاف، وتحديداً توليه لمنصب قائد الجيش الرابع واعتباره رجل سورية القوي خلال فترة الحرب العالمية الأولى. إن التوجهات الأيديولوجية لجمال باشا والمظاهر السياسية لشخصيته حجبتها صورته الراسخة كإداري قاس. وتعود هذه الصورة أساساً الى إعدامه قادة القوميين العرب في بيروتودمشق في سنتي 1915 و1916. إضافة الى أن الأحداث التي وقعت في تلك الفترة وما رافقها من إجراءات متطلبات فترة الحرب والمجاعة، ثبتت صورة القساوة هذه. والسؤال: ما هي الدوافع التي وقفت وراء سياسات جمال باشا العنيفة، ليس فقط في سورية وإنما أيضاً في أماكن أخرى؟ بالنسبة لحكمه في سورية، خصوصاً، تعزو المصادر التاريخية هذه التصرفات الى ثلاثة برامج سياسية مختلفة. لقد وُصف جمال بكونه قومياً تركياً، ورجلاً يمتلك طموحات انفصالية سلالية، وعثمانياً بميول إسلامية. وفي تقويمنا لحكم جمال باشا في سورية في ضوء هذه الصور الثلاث، سأطرح على المناقشة مسألة النظر الى هذه المرحلة من حكم جمال باشا من زاوية عمله العام. لذلك من المفيد أن نبرز أولاً أصوله وعمله. سيرته الذاتية ولد جمال باشا في ميتيلان سنة 1872 كابن لصيدلي عسكري. وتخرج في الأكاديمية الحربية سنة 1895. وكان أول تعيين له في "هيئة الأركان العامة" في اسطنبول، حين التحق بوحدة الأشغال في الجيش الثاني المرابط في أدرنة، وفي عام 1898 انتقل الى الجيش الثالث في سالونيك. عين أولاً مفتشاً عسكرياً على السكك الحديد ثم لاحقاً في المركز الرئيسي للجيش الثالث، وساهم في التنظيم الإقليمي لحركة المقاومة السرية ضد عبدالحميد الثاني. التحق بجمعية الاتحاد والترقي، وخلال ثورة تركيا الفتاة في تموز يوليو 1908 ظهر كقائد بارز للجمعية. شارك في أول بعثة أرسلت من مركز الجمعية الرئيسي في سالونيك الى اسطنبول، وحصل على ترقية الى رتبة مقدم. بعد ثورة تموز 1908 ذهب جمال الى الأناضول مع بعثة إصلاحية. وعندما وقعت الثورة المضادة في اسطنبول في نيسان ابريل 1909، التحق مجدداً بوحدات الجيش الثالث جيش الحرية الذي أخمد الانتفاضة. وحصل لاحقاً على منصب حاكم مقاطعة في إسكودار، اسطنبول الآسيوية أيار / مايو 1909. وأدى إخلال الأرمن بالأمن في أضنة وخطر التدخل الأجنبي الى تعيينه حاكماً لأضنة آب / أغسطس 1909. وفي عام 1911 أصبح حاكماً لبغداد. وعند وقوع حرب البلقان عام 1912 ساهم بمهمات ميدانية في تراس كقائد للوحدات الاحتياطية ورقي الى رتبة كولونيل. وبعد انقلاب جمعية الاتحاد والترقي ضد حكومة كامل باشا كانون الثاني / يناير 1913، وساهم جمال في اعداده، رقي الى رتبة جنرال، وصار قائداً للجيش الأول في اسطنبول وكذلك حاكماً عسكرياً للعاصمة. ومن هذه اللحظة بدأت مذكرات جمال باشا، ومما يثير الفضول أنه لم يذكر المراكز العسكرية العالية وتجربته السياسية في العقود التي سبقت عام 1913. ويوضح هذا الاختيار بعض الأهداف من كتابة مذكراته. فعندما بدأ بكتابة مذكراته في المنفى في السنة التي تلت انهيار الأمبراطورية، كان يحتاج الى أن يبرئ نفسه ويعيد الاعتبار لشخصيته وذلك بإظهاره لأكثر أدواره بروزاً قبل الحرب العالمية الأولى وأثناءها. وفي عام 1913، ثبّت جمال باشا وضع جمعية الاتحاد والترقي في العاصمة وذلك بقمعه لحركة الحرية والتحالفات المعارضة، وإرساله قادتها الى المشنقة. وخدم في الحكومات التي خضعت لهيمنة الجمعية في سنتي 1913-1914، أولاً كوزير للأشغال العامة، ثم لاحقاً، كوزير للحربية. وكان له الفضل في تحديث الأسطول العثماني. كان معروفاً بميوله نحو فرنسا، لذلك ذهب في حزيران يونيو عام 1914 الى باريس ساعياً الى اقامة تحالف في أوقات الحرب مع فرنسا، ولكن من دون جدوى. وخلال الحرب العالمية الأولى، خدم كقائد للجيش الرابع والحاكم الفعلي لسورية مع احتفاظه بحقيبة وزير. وقاد الحملات المشؤومة ضد مواقع الجيش البريطاني على طول خط قناة السويس في شباط فبراير 1915 وآب 1916. وكحاكم لسورية في زمن الحرب، ساءت سمعة جمال باشا، لإعدامه بعض القادة العرب بسبب تعطافهم مع الأجانب، وأهدافهم القومية المزعومة" وأيضاً بسبب إجراءاته الصارمة في إدارة موارد القمح. قام جمال بمشاريع بناء وحماية هدفت لتحسين الظروف المادية في سورية خلال الحرب. واستقال في كانون الأول ديسمبر 1917 وعاد الى اسطنبول. وبعد الهدنة في نهاية عام 1918، ذهب جمال الى الخارج مع قادة آخرين من جمعية الاتحاد والترقي. أما هدف مساعيه في آسيا الوسطى واغتياله عام 1922، فيكتنفهما الغموض أيضاً، على رغم اختلاف تجربتي عمله في كل من آسيا الوسطى وسورية. القومي التركي الخاصية الأكثر رسوخاً في شخصية جمال باشا هي كونه قومياً تركياً. وتنبع الى حد بعيد، من مركزه الرفيع في جمعية الاتحاد والترقي. وهو معروف الى جانب كل من أنور وطلعت، على أنه واحد من الترويكا الذين لم يسيطروا فقط على الجمعية وإنما أيضاً على الحكومة. وعرف بتعاونه العميق مع نظام حدد، بشكل متعارف عليه، وعلى رغم عدم صحته على أنه أكثر أشكال القوميات التركية تطرفاً الدعوة الى الطورانية التي سعت الى تتريك كل المجموعات الإثنية غير التركية، مما دفع المؤرخين الى صبغه بألوان القومية التركية نفسها التي صبغوا بها فترة حكم تركيا الفتاة برمتها. حصل جمال باشا على مراكز في المقاطعات الآسيوية البعيدة حين كانت الإثنيات القومية تتبلور في حركات سياسية. وسياساته القاسية تجاه القادة العرب والأرمن ثبتت صورته كقومي تركي. وبطريقةٍ ما ساهمت مذكراته في تدعيم هذه المفاهيم" مع أنها كُتبت أساساً لتبرئة الباشا من آثار المذابح والإعدامات. وأكثر من ذلك، فإن المذكرات كُتبت بعد انهيار السلطنة وخلال الأيام الأولى لحركة المقاومة التي انطلقت من الأناضول. لقد تصور جمال باشا أن هناك فرصةً له لإعادة اعتباره السياسي ضمن هذه الحركة الجديدة، فهناك نبرة قومية تركية واضحة في أجزاء من مذكراته. إن إجراءات جمال ضد القادة السوريين عام 1915-1916 تنسجم وأسلوب ممارسة سلطاته في وظائفه السابقة. وكانت له ميزته الخاصة باستخدام القوة في سعيه لإيجاد حلول للمشاكل السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية. عام 1913، عندما استلم مهماته كحاكم عسكري لاسطنبول بعد اغتيال الصدر الأعظم محمود شوكت باشا، قام باعتقال "المتهمين المعتادين" من التحالف المعارض واتهمهم بالمشاركة في الجريمة، وهذا ما أمن له الذريعة لإزاحة معارضيه السابقين والمحتملين من طريق النفي أو الإعدام: "تعبنا من انحدار الحكومة الى موقع الضعف. لذلك قررنا معاقبة المجرمين بأقسى طريقة ومن دون رحمة وبصرف النظر عن مكانتهم الاجتماعية ولذلك فإننا نعتقد أن أمثالهم من الآن فصاعداً سوف يتصرفون بطريقة لائقة". كما أن نفيه للمتحرشين بالنساء من اسطنبول خطوة جبارة اتخذت من أجل تحرير نساء اسطنبول توضح طريقة معالجته للمشاكل الاجتماعية. واستمر جمال في سورية بتبنيه الأهداف نفسها واستخدامه لتكتيكات مشابهة. وذلك عندما واجه فيها واحدةً من المضايقات الاقتصادية الأساسية في زمن الحرب التي حدثت بسبب انخفاض قيمة الأوراق النقدية الصادرة عن الحكومة لعدم قبولها من قبل السكان المحليين. فهدّد جمال باشا بالنفي العشوائي عدداً من التجار والنبلاء السوريين، ما لم يتعهدوا برفع قيمة الأوراق النقدية الموضوعة في التداول، ونفذ تهديده عندما لم ترفع قيمة هذه الأوراق النقدية. والأكثر دلالةً على استمراره في سياسته هذه، هو ما حدث عامي 1915-1916 عندما أرسل القادة السوريين الى المشنقة لإبعاد منافسيه السياسيين الذين يحتلون مكانة محلية مهمة وقام تبريره لهذا العمل على الادعاء بممارسة هؤلاء القادة لنشاطات قومية انفصالية. وأدى إعدام جمال للقادة المحليين الى انعاش الحركة القومية التي كانت في بدايتها في سورية، والى إلصاق لقب القومي التركي بجمال باشا. جمال الانفصالي الوثائق الروسية التي تعود الى تشرين الأول اكتوبر 1915 تشير الى الادعاء بوجود خطة من قبل جمال باشا لإقامة دولة مستقلة له في سورية. وفي معلومات وصلت الى الحلفاء، من طريق أرمني مقيم في بخارست، كان على اتصال مزعوم مع جمال من خلال عملائه، تعهد جمال بالتمرد على حكومته والسماح بتسليم اسطنبول للحلفاء في مقابل الاعتراف به كحاكم لأراضي الأمبراطورية الآسيوية. امكان التعاون مع جمال أصبح موضوع مراسلات مطولة بين الحلفاء بين كانون الأول 1915 وكانون الثاني 1916، عندما تم التخلي عن هذه الفكرة. في البداية رحبت كل من انكلترا وروسيا بمبدأ الاتفاق السياسي مع جمال. وأملت روسيا وبسبب موافقة جمال على التخلي عن اسطنبول للحلفاء، أن يؤدي اندفاعه لبلوغ طموحاته المزعومة، الى تسليم اسطنبول الى الروس بحسب "اتفاقية القسطنطينية" لربيع عام 1915. كما أن فشله سيكون مرحباً به أيضاً لأنه سيؤدي الى ايجاد حال من الفوضى وعدم الاستقرار داخل الأمبراطورية، وهذا ما سيخدم أيضاً أهداف الحلفاء. ووافقت بريطانيا الروس على الفوائد الجلية التي يمكن أن يجنيها الحلفاء من مثل هذا الصراع الداخلي، ولكنها رأت أن عليه أن يتوصل الى اتفاق مع العرب قبل تنفيذ مخططاته. وفي الوقت الذي كانت تجرى فيه هذه المراسلات، كان مكماهون والشريف حسين على وشك الانتهاء من اتفاق التعاون المتبادل في مقابل الدعم البريطاني "للمطالب العربية". وعلى رغم أن احتمال الانقلاب بقيادة جمال كان وهمياً أكثر منه حقيقياً، فإن الحلفاء أعطوه اهتماماً جدياً. وأظهرت الاتصالات حول هذا الموضوع الاختلافات بين الحلفاء وكانت نذيراً بالاختلافات المستقبلية التي ستنشأ من خلال محاولات التقريب بين المصالح المختلفة داخل مخيم الحلفاء. وفي مقابل تثمين منافع الاتفاق مع جمال، كشفت لندن للحكومة الروسية عن محادثاتها مع العرب، مع التحذير بأن جمالاً يجب أن لا يعرف بهذه الاتصالات. أما رد فعل الفرنسيين تجاه احتمال التعاون مع جمال فكانت في منتهى التحفظ بسبب مخططاتهم الخاصة في سورية ومن وجهة النظر البريطانية، فإن حكم جمال لسورية. لن يشكل أي مشكلة إذا أمكن دفع العرب للتعاون معه. كانت لندن تشكك بتمرد جمال ولكنها شعرت انه ينبغي تشجيع مثل هذه الخطوة اذا ما تحققت. حكومة الهند بدورها لم تعارض فقط اعطاء اي تشجيع لجمال باشا ولكنها تحفظت ايضاً على اي اتفاقات يمكن للندن او للقاهرة التوصل اليها مع العرب التي يمكن ان تعدهم بدولة عربية كبرى. السير آرثر هرتزل من مكتب الهند، كتب لمكتب وزارة الخارجية انه "من الصعب جداً على جمال باشا ان ينجح في إغراء العرب بقبول مخططاته لتأسيس امبراطورية تركية آسيوية، اذا كان ينوي تنفيذ هذا المشروع جدياً..."، من الواضح، اضاف السير، "ان هناك خسارة لا يمكن تعويضها لمصالح بريطانيا في كل من مصر، والجزيرة العربية، والعراق، وكذلك اساءة الى سمعة حكومة الملك في ما يتعلق باحترام اتفاقاتها، اذا ما اصبح معروفاً للعرب بأن هناك دعماً اعطي لمخطط يؤدي الى التنازل عنهم الى اعدائهم". ويبدو ان الحكومة الألمانية كانت على علم بأن جمال باشا كان مشكوكاً بولائه. الا ان هذه الاتهامات تم نفيها بسرعة من قبل السلطات الألمانية. ووصف لودفيغ جمالاً بأنه "وطني متألق كبير يمتاز بخصائص ثورية". وعندما واجه لودفيغ جمالاً بمقالات في جريدة Le Tempes في 25 و29 تشرين الثاني / نوفمبر التي ركزت على ادعاءات اختلافه مع اسطنبول ومضايقته لزملائه في العاصمة، وصف جمال المقالات بأنها محاولة من الحلفاء لاعطاء انطباع خاطئ أن هناك عدم انسجام بين قادة تركيا الفتاة وجمال وحلفاء تركيا. فكتب لودفيغ الى برلين أنه اذا كان جمال متعاوناً حقاً مع الحلفاء فإن "Le Temps" ما كانت لتنشر مقالات من هذا النوع، ولا كان جمال باشا قمع دعاة اللامركزية في سورية بهذه القوة. وأضاف، أن الضباط الذين بإمرته سيعارضونه بقوة، اذا ما قام بأي حركة معادية للحكومة. لم تكن لجمال اسباب حقيقية لتحدي اسطنبول. ومن العدل القول انه لم يكن يتوقع نهاية مأسوية للحرب، وانه كان يتوقع يقيناً أنه سيحتفظ بدوره الوزاري في نهاية الحرب ولذلك كان عليه الحفاظ على احترام زملائه. ومع ذلك، فإن مخطط جمال بالتخلي عن اسطنبول وإقامة حكمه الخاص في سورية لم يكن فقط صناعة مخيلة مخبري الحلفاء وديبلوماسييهم. فالمقربون من جمال ربما شكوا بمثل هذا التصرف. علي فؤاد أردن، ممثل جمال باشا في سورية، يروي في مذكراته محادثةً له، في حفلة عشاء مع اسعد الشقيري، النائب السابق لعكا في البرلمان العثماني، ومفتي الجيش الرابع في ما بعد، تبيّن ما كان من ثوابت مثل هذه التجمعات. ففي مناسبة خاصة، يؤكد أردن، اختار الشقيري تسلية الحضور بقصة عن معاوية تروي كيفية استجوابه للعلماء حول مخططات حكمه الوراثي، وكيف قام بتسميمهم عندما شعر بمعارضتهم له. وبعد رواية القصة سأل أردن جمال باشا، في اشارة واضحة: "لو كان على سعادتك ان تقرر تنفيذ مخطط معاوية نفسه، فمن هم الذين سيتلقون الشراب المسمم؟". ليس من اهدافي في هذا البحث التعاطي مع تفسيرات نفسية لسيرة جمال. الا انه لا يمكن ان ننكر ان الباشا نجح في فرض نفوذه في الحالات الطارئة، ان في اسطنبول او في دمشق. وكقائد للجيش، أشار فالكنهاين الى جمال بأنه "خُلق ليحكم". وذكر لأردن انه "الامبراطور غير المتوّج لسورية وغرب الجزيرة العربية". ووصف أردن حضور الجمهور العام في تجمع له في جامع الأقصى في القدس بعد صلاة الجمعة، أنه جاء، كما يدعي أردن، على نسق الخليفة عمر. تيودور فيغند، مهندس، اركيولوجي، ولاحقاً عضو في الاكاديمية العلمية في برلين، أشار في مذكراته الى دهشته لنقش اسم القائد على الأعمدة الحجرية الضخمة التي أقيمت في الصحراء لتشير الى اماكن المياه. ومن الأكيد ايضاً ان الباشا كان وراء اطلاق لقبه غير الرسمي، والشائع "جمال باشا العظيم"، لتمييز نفسه عن مرسنلي جمال باشا الذي خدم أيضاً في سورية. عثمانية جمال اعتدنا ان ننظر الى جمال كواحد من اعضاء جمعية الاتحاد والترقي الذي كانوا على مسافة قصيرة من مركز السلطة في كل من المجال السياسي، وذلك لعدم تسلمه مراكز وزارية اساسية، وفي المجال الجغرافي، لتعيينه حاكماً في مراكز بعيدة في المقاطعات الآسيوية. وعلى رغم قبوله على انه الرجل الثالث القوي للجمعية، يعتقد أن علاقته مع انور وطلعت، الشخصين القويين من "الترويكا" كانت مضطربة وقائمة على اساس قوي من المنافسة. هذه الافتراضات تعطي بعض المصداقية لتوجهاته الاستقلالية ومخططاته الانفصالية السلالية المزعومة. الا ان واحدة من التقديرات لجمال باشا تؤكد انه بقي ولغاية عام 1915 "ركناً من اركان الترويكا" كما انه لاحقاً، "خلال الحرب لم يظهر اي توجهات لترتيب اتفاقات منفصلة مع الحلفاء". ربما كان صحيحاً ان هناك منافسة بين طلعت، وأنور، وجمال، الا ان وجود اي توتر في العلاقات بينهم لا يجعل من جمال منشقاً او خارجاً. ان قيادة الاتحاد والترقي كانت اكثر تعدداً وتنوعاً مما يتضمنه تعبير "الترويكا" الشائع. ولقد بقي جمال ملتزماً بالايديولوجية العثمانية لجمعية الاتحاد والترقي وعمل على نشرها بدرجات متفاوتة. كما ان مدى اهتمام قادة الاتحاد بفرض انفسهم في الحكومة مباشرة بعد ثورة 1908 كان محدوداً جداً. قيادات النظام القديم هيمنت على الحكومات الأولى لفترة حكم تركيا الفتاة. ولم يكلف جمال فقط بأعمال خارج العاصمة، بل كلّف كذلك انور والآخرون بأعمال مشابهة. ومن هنا جاءت مهمة جمال كعضو في البعثة الاصلاحية مباشرة بعد الثورة وكذلك تعيينه في أضنة في العام التالي. مهمات جمال قبل الحرب العالمية وسلوكه في مناصبه الحكومية قبل عام 1914 ألقت الأضواء على سياساته في سورية خلال الحرب. لقد عينت اسطنبول جمالاً في مركز الحاكمية في مجموعة من المناطق حيث كان الحكم القاسي ضرورياً. ولذا، ذهب جمال الى أضنة حيث قمع انتفاضة أرمنية. والأكثر ارتباطاً بمهمته اللاحقة في سورية كان تعيينه حاكماً لبغداد. بدأ جمال عمله في بغداد في فترة انعطاف هامة. حيث نشأت ازمة سياسية بسبب اعطاء حقوق حصرية لشركة لينش البريطانية بالإبحار في نهري دجلة والفرات مما أدى الى تنامي الشعور المعادي للحكومة في العراق، وشاركت فيه أيضاً عناصر محلية مؤيدة للاتحاديين، وأصبح دور جمال في العراق اكثر خطورة بعد اندلاع الحرب مع ايطاليا حول ليبيا في خريف عام 1911. اتهم معارضو الاتحاديين، العرب وغير العرب، الحكومة بالاهمال في طرابلس وبرقة التي وصلت الى حد التخلي عن هاتين المقاطعتين الى ايطاليا، في اشارة مزعومة الى ان الحكومة لا تهتم الا قليلاً بمقاطعاتها العربية. بدأ جمال باشا مجموعة من الاجراءات التي هدفت، من ناحية الى اعادة الولاء العراقي الى الخلافة العثمانية والى مشاركة العراقيين بأعمال الحكومة، ومن ناحية اخرى الى اسكات اي معارضة. عكست سياسات جمال اللاحقة في سورية أعماله في بغداد. مع اندلاع الحرب الليبية، نظم جمال مظاهرات مؤيدة للحكومة باستنفاره اعضاء بعض العائلات النبيلة النافذة. وبينما كان يحاول استخدام العائلات النبيلة وتعاونها لتشكيل رأي عام مؤيد للحكومة، قام بقمع المعارضة. وفي نهاية عام 1911 ظهر حزب الحرية. وتمكن جمال باشا من شل مساعي منظمات الحزب في العراق باضطهاده لمؤسسيه واتهامهم بمخالفة القوانين. وخلال الانتخابات العامة في ربيع العام 1912، ضمنت اجراءات مماثلة نجاح الاتحاديين في بغداد، وفي بعض المقاطعات العراقية الاخرى، وسط احتجاجات صاخبة ضد تدخلات الوالي في الانتخابات. بعد عام 1913 قامت النخبة السياسية العثمانية في اسطنبول بعرض مفهوم متجدد للعثمانية مصقول بتركيز متجدد على الاسلام. لم تكن سياسات جمال في سورية استثناءً ضمن هذا التوجه، وأظهرت مساعيه رغبة في السيطرة على الصحافة السورية لإبراز الايديولوجية الاسلامية. هذه السياسات لا تتوافق مع وجهة النظر القائلة بأن حكم جمال باشا في سورية كان يمثل المسعى الاخير لتتريك سورية التي كانت تعاني من الضغوطات الناتجة عن الحرب والفرص التي تهيأت بسبب ذلك. في الواقع، كان جمال وكما وصفه أحد تلاميذ الدعاية العثمانية زمن الحرب، "مؤيد متألق للحركة الاسلامية". يبدو ان تنظيم حملة اسلامية دعائية شاملة قد بدأ الحصول على اهتمام خاص في ربيع عام 1915. ففي مذكرة ارسلت الى جمال باشا، من الواضح انها كتبت من قبل نائب القائد العام أنور باشا وكانت نسختها الأولى بالفرنسية، وضعت تفاصيل الاهداف التي تقف وراء تأسيس جهاز دعائي وبينت الافكار المتعلقة بتصرفات منظميها، ومن ذلك انشاء صحيفة. الهدف الذي يجب ان تبرزه الجريدة المخطط لها كان تنوير المسلمين داخل السلطنة وخارجها. وحتى صدور مثل هذه الجريدة الرسمية، تم اقتراح الاستفادة من المجلات التي تنشر حالياً في سورية، ومن بينها الرأي العام، اتحاد الاسلام، البلاغ، الاقبال، واللاذقية. ولحظ المشروع اعانات مالية شهرية تتراوح بين 10و25 ليرة لهذه الجرائد وتحديد كمية الورق الضرورية للحصول عليها من المانيا. وكان على هذه الجرائد التعاطي بالمسائل المحلية والعالمية وأن تتضمن اخبار الحرب وكذلك تلخيصات مفيدة من جرائد العاصمة. وسيتم مكافأة اي اسهامات من رجالات سورية وكتابها المميزين. وتمّ اقتراح اسم شكيب ارسلان باعتباره الشخص المناسب لتحمل مسؤولية هذه العملية الدعاوية في سورية. وكان متوقعاً منه مراقبة محتويات الجرائد والإشراف على مقالات المؤلفين السوريين. وتدل هذه المبادرة على انه في السنوات السابقة لعام 1915 لم تقم الحكومة العثمانية بتقدير الدور الذي يمكن ان تلعبه الصحافة وانما كانت مقتنعة ايضاً أن صحافة مسيطراً عليها في سورية ستؤدي الى اضعاف اثر مجموعة الصحافيين العرب. رحب جمال بالمبادرة ورد بأنه قد باشر بالفعل هذا النوع من العلاقات مع بعض الصحف السورية كما هو مقترح في المذكرة. وبالفعل، وفي مناسبات مختلفة قبل قدومه الى سورية لجأ جمال الى فرض الضغوطات على الصحافة من اجل صقل او تسهيل السياسة الرسمية. كما اقترح اضافة مجلتي "المقتبس" و"المفيد"، وهما من الجرائد المعارضة البارزة في كل من دمشقوبيروت، والمعروفتين بتعاطفهما مع القضية العربية. وأصرّ جمال كذلك على ان المعاشات يجب ان تدفع من مركزه للتوصل الى افضل النتائج. وهذا الطلب يظهر ايضاً ان جمالاً كان مهتماً بإقامة محاسيب شخصيين له من القادة السوريين، الا انه قام بذلك بدعم من اسطنبول. وأصرّ أيضاً أنه ينبغي ألاّ يكون هناك تدخل ألماني مباشر في هذا المشروع. وكان الألمان مهتمين أكثر من مجرد تأمين ورق الطباعة، وأراد ماكس فرايهر فون اوبنهايم رعاية جريدة لهم في دمشق. وأخيراً، اقترح جمال انه، بالاضافة الى تمويل الجرائد السورية الأساسية، يجب العمل على نشر جريدة رسمية في دمشق. وعبّر جمال عن تحفظاته على الثقة المعطاة لشكيب ارسلان لتنفيذ المشروع، لأنه كدرزي، برأي القائد العسكري، يمكن ان يضعف اهداف الحكومة في أعين العلماء. جهود الدعاية الاسلامية ساهمت في تهدئة رد الفعل الجماهيرية حول اول مجموعة من الاعدامات التي نفذها جمال في سورية عام 1915، وألغت الاعدامات وجود المعارضين السياسيين. كما ان اعتبار الضحايا متآمرين مع قوة اجنبية كان يتناسب مع الدعاية الاسلامية. وأظهرت المراسلات اللاحقة من جمال الى أنور أنه نجح في اغراء مالكي الجرائد السورية الأساسية: "المقتبس"، "البلاغ"، "الرأي العام"، "الإقبال"، "اتحاد الاسلام"، بتوقيع اتفاق معه ينص على تقديم اعانات مالية لهم، ولكن أيضاً، ومن دون شك، بعد اخافتهم. عبدالغني العريسي يمكن ان يكون قد أعدم بسبب عدم استجابته بالتوقيع على هذا الاتفاق. وكتب جمال الى انور أن الاتفاق مع جريدة "المفيد" اصبح لاغياً لأن مالكها، العريسي، حكم عليه بالموت في محكمة الحرب وان جريدته أُغلقت. ويبدو ان المرتبات الشهرية المعطاة للجرائد الاخرى ارتفعت بما يتناسب وحجم معارضتها السابقة للنظام. لذلك، حصلت "المقتبس" على 5.22 ليرة، و"الرأي العام" على 19 ليرة، و"البلاغ" على 15 ليرة، و"الإقبال" على 5.12 ليرة، و"إتحاد الإسلام" على 10 ليرات. وحثّ جمال أنور على البدء الفوري بإنشاء الجريدة الحكومية الرسمية في سورية، الإسلام، لأن الوقت مناسب الآن، وأن يكون هذا المشروع بإدارة شكيب إرسلان، لأنه لم يتمكن من إيجاد شخص أكثر ملاءمة منه. * أستاذ مشارك للدراسات العثمانية في جامعة كاليفورنيا.