كنت قد اختتمت مقالي السابق المنشور على صفحات «عكاظ» يوم السبت 5 مايو 2018 بوعد مواصلة عرض الجمعيات العربية في سياق نشوء وتطور الوعي القومي العربي الحديث، وكان الوعد أن تكون جمعيات المنتدى الأدبي والجمعية القحطانية وجمعية العربية الفتاة موضوع هذا المقال. فإليك أيها القارئ الكريم ما وعدتك به. المنتدى الأدبي: تأسس في إسطنبول في صيف 1909 مباشرة بعد حل جمعية الإخاء وبديلا عنها، ولم تكن لأهدافه أي علاقة بالسياسة، لذلك نال اعتراف حكومة الاتحاديين كمنظمة ثقافية تهذيبية علنية. فكانت أنشطته الاجتماعية والثقافية مماثلة لأنشطة جمعية الإخاء المنحلة، وقدّم خدمات عديدة للنخب العربية. حيث أصبحت مقرّاته في إسطنبول وفروع العراق وبلاد الشام مراكز لاستقبال وتجمع المثقفين العرب، وحصلت مكتباتها على دعم ومطبوعات ممنوعة من مصر والجاليات المهاجرة في الأمريكتين. عمل هذا المنتدى على الدعوة للفكرة القومية وتوسيع مداها، بدون أن يدفع في تطويرها. واسْتُخْدِم في الحقيقة لتغطية نشاطات منظمات الحركة القومية العربية السرية ونشر أفكارها، خصوصا عن طريق أعضائه المتجولين. ولتداول جريدته العلنية «لسان العرب» التي صدرت في إسطنبول، ونشراته السرية التي كانت توزع بعد طباعتها في جريدة «المفيد» البيروتية. كما ساهم في توثيق العلاقات بين الزعماء العرب والاتحاديين الترك، خلال شهر العسل بينهم إثر انعقاد المؤتمر العربي في باريس 1913، فأصبحت لجنته الإدارية وسيطا معترفا به رسميا في المفاوضات التي تمت بين الطرفين. وحضر ندواته مشاهير الأتراك وقادتهم، كما اتسعت قاعدته لتضم عدة آلاف من الطلاب العرب. لكن قادته تحولوا إلى معارضين أَشِدَّاء بعد اتضاح سياسات التتريك، فقامت الحكومة بحل المنتدى خلال الحرب العالمية الأولى، وشنقت أربعة من أعضاء لجنته القيادية بتهمة الخيانة. الجمعية القحطانية: تأسست بصورة سرية في إسطنبول في أواخر عام 1909، على يد بعض قادة المنتدى الأدبي ومجموعة من الضباط العرب في الجيش العثماني؛ الذين كانوا قد أسهموا في الثورة التركية. هدفت الجمعية القحطانية أساسا لتحقيق مشروع جديد وجريء هو تحويل الدولة العثمانية إلى «مملكة ذات تاجين» ردا على سياسة المركزية التي انتهجها الاتحاديون. بحيث تؤلف الولايات العربية مملكة واحدة لها برلمانها وحكومتها المحلية ولغتها العربية الرسمية، فتكون جزءا من امبراطورية تركية-عربية، تماثل في تكوينها امبراطورية النمسا والمجر، ويضع سلطانها العثماني على رأسه تاج المملكة العربية بالإضافة إلى تاجه التركي، وبذلك يمكن تحقيق وحدة أقوى عن طريق الاعتراف بالتعدد الواقعي. وقد برزت في هذا المشروع الأفكار العملية ذات الأهداف المحددة والملموسة، بتأثير من العقلية العسكرية لقادة المشروع من الضباط العرب وعلى رأسهم الفريق عزيز علي المصري الذي كان قد لعب أدوارا عسكرية مشهودة. بدأ مركز هذه الجمعية الرئيسي في إسطنبول، ثم افتتحت لها فروع في خمس مدن عربية. ونظرا لطبيعتها السرية، فقد كان اختيار أعضائها يتم بعناية ودقة، على الرغم من أحقية كل عضو بضم عضو جديد بدون استئذان المركز العام، مع اشتراط أن تكون وطنيته العربية فوق مستوى الشبهات، وأن يكون قادرا على كتم السر. استكمالا لذلك، استخدمت الجمعية كلمة سر ومجموعة من الإشارات الرمزية للتعارف بين أعضائها، مستمدة من الطقوس الماسونية. لكن مع تعاظم نشاط هذه الجمعية خلال العام الأول من نشأتها، خصوصا في كونها مثّلت أول محاولة لتنظيم عسكري تآمري بين الضباط العرب على المستوى القومي، فقد أدّى الحذر من انكشاف أمرها في ظل القمع التركي المتزايد، إلى تعمد إهمالها من قبل قادتها. فماتت كما نشأت بدون إعلان مع بداية الحرب العالمية الأولى! وسيكون لبعض قادتها أدوار بارزة في التاريخ السياسي العربي اللاحق. الجمعية العربية الفتاة: هي إحدى أخطر الجمعيات العربية السرية التي كان لها أكبر الأدوار في تاريخ الحركة القومية. تأسست في باريس بتاريخ 14 نوفمبر 1909، على يد ثلاثة من الطلاب السوريين الذين كانوا يتابعون دراستهم العليا هناك بعد إسطنبول هم: عوني عبدالهادي، وأحمد قدري، ورستم حيدر، ثم انضم إليهم ثلاثة طلاب سوريين آخرين وعراقي واحد. وقد بدأوا بتسميتها «جمعية الناطقين بالضاد»، ثم اكتفوا باسم «الفتاة»، قبل أن يطلقوا عليها اسمها الكامل محاكاة لجمعية «تركيا الفتاة». هدفها السياسي الرئيسي كان نيل الاستقلال العربي داخل إطار الدولة العثمانية المزدوجة العرق على نمط يشبه تركيب إمبراطورية النمسا والمجر. أما أهدافها الاجتماعية والتربوية كما ذكرها زين نور الدين زين في كتابه (نشوء القومية العربية، دار النهار، الطبعة الأولى، بيروت 1972)، فقد انصبّت على بذل الجهد «لرفع شأن الأمة العربية إلى مصاف الأمم الراقية الحرة المستقلة الكبرى» بشرط ألّا يمس ذلك وحدة الدولة العثمانية أو يقضي عليها. وفي هذه الأهداف يتضح تأثير أطروحات الأب الروحي للقومية التركية ضياء كوك ألب الذي كان قد اقترح في تلك الفترة إقامة دولة مزدوجة العرق تسمى الدولة التركية العربية برئاسة خليفة عربي. ثم عدّلها عام 1918 إلى اتحاد يضم دولتين مستقلتين هما الأناضول وعربستان. كما اتفقت تلك الأهداف في الحفاظ على الوحدة العثمانية ضمن اللامركزية، مع المبادئ التي كان يدعو إليها حزب الحرية والائتلاف العثماني الجديد؛ الذي تابع تقاليد رابطة الأمير العثماني سلطان زاده محمد صباح الدين (سِبْط السلطان عبدالمجيد الأول، وتلميذ عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي إميل دوركايم، وأحد قادة جمعية تركيا الفتاة). دعا أعضاء الجمعية في البداية إلى بعث الشعب العربي، مع تأييد مبدأ اللامركزية ضمن الامبراطورية العثمانية، لكن جنوح الاتحاديين وتعصبهم دفعهم إلى المطالبة باستقلال الأقطار العربية، وإلى الكفاح من أجل تحرير العرب من السيطرة التركية ومن أي سيطرة أجنبية أخرى. وقد اعتمدت الجمعية مبدأ السرية في جميع أعمالها، وحافظت عليه إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى. فطلبت من أعضائها ممارسة الكتمان الشديد، بالإضافة إلى ما هو مطلوب توفره فيهم من المتانة الخلقية والإخلاص والجرأة والاستعداد للتضحية والفعالية النشيطة. محققة بذلك ممارسة مثلى للمناضل الحزبي، ساهمت في حمايتها وعدم انكشاف أسرارها حتى في أشد حالات القمع التركية؛ التي جرت باسم محاكمات الديوان العرفي بعاليه، وأعدم نتيجتها اثنان من مؤسسيها مع أعضاء آخرين. وعلى الرغم من وجود سجلات منظمة لهذه الجمعية بإدارة سكرتيرها العام محمد المحمصاني (أعدم في 21 أغسطس 1915 في حملة الإعدامات الشهيرة التي أَمَرَ بها أحمد جمال باشا المعروف بجمال باشا السفّاح)، ومن اجتماع لجانها أسبوعيا مع تسجيل قراراتها في سجلات خاصة، فقد حافظت على سريتها باعتماد رموز وتعابير شكّلت شيفرة خاصة للمكاتبات والاتصال، ثأثرا أيضا بالتقاليد الماسونية. والتي ظهر أنها لم تكن بلا فائدة عندما عاد أعضاؤها إلى أوطانهم، وتعرض كثير منهم للتحقيق والتعذيب. كما انعكس طابع العمل السري على تركيب الجمعية وهيكلها التنظيمي؛ الذي تكوّن من مستويات متدرجة ثلاثة حسب ما ذكرته خيرية قاسمية في كتابها (الحكومة العربية في دمشق، دار المعارف، القاهرة 1971): 1. السواد الأعظم، ويضم المرشحين الجدد الذين لا يعرفون بعضهم بعضا، ويخضعون لفترة تدريب وتجربة مدتها ستة أشهر. 2. مجلس الشورى أو الهيئة العامة، وتضم الأعضاء الموثوقين الذين اجتازوا فترة التجربة. 3. اللجنة العليا أو الهيئة المركزية القيادية، وتضم ستة أعضاء. وانسجاما مع طبيعة عملها السرية في ظل ملاحقة الاتحاديين، فقد اعتمدت الجمعية نظاما متشددا في قبول أعضائها، يقوم على تدرج واختبار دقيقين. كما أوعزت لأعضائها بالتسلل إلى الجمعيات الأخرى للاطّلاع من جهة على تحركاتها وأخبارها، ومن أجل العمل على توحيدها من جهة أخرى. وبعد انتقال مقرها العام إلى بيروت عام 1913، ثم إلى دمشق عام 1914 مع عودة مؤسسيها إلى أوطانهم وتزايد منتسبيها في بيروتودمشق وصيدا والعديد من المدن العربية الأخرى، لم يظهر النشاط السياسي لأعضائها إِلَّا من خلال الشرعية التي نالها حزب اللامركزية العلني. كان أهم أعمال هذه الجمعية التهيئة لانعقاد المؤتمر العربي في باريس عام 1913، حيث شارك أربعة من أعضائها القياديين في تكوين لجنته التحضيرية المؤلفة من ثمانية أعضاء. وفي أوائل الحرب العالمية الأولى اتصلت الجمعية بقيادة الثورة العربية الكبرى، وبفيصل بن الحسين عند توقفه في دمشق عام 1914. ونسّقت هي وجمعية العهد مع فيصل بن الحسين، وضمّتاه إلى صفوفهما وسلمتاه ميثاقا للدولة العربية الموعودة ومصورا لحدودها؛ تبنته قيادة الثورة العربية الكبرى وصار أساسا لمراسلات الحسين-ماكماهون الشهيرة؛ التي أطاحت بها لاحقا اتفاقية سايكس-بيكو ومقررات مؤتمر الصلح. وقد ساهم كبار أعضاء «العربية الفتاة والعهد» في الثورة العربية الكبرى وفي قيادة جيشها. أما بعد خروج الأتراك وتحرير سوريا، فقد تحولت جمعية العربية الفتاة إلى ما يشبه الحزب الحاكم في سوريا من خلال تحالفها مع فيصل بن الحسين، وانتقل عدد كبير من ضباطها ومثقفيها إلى سوريا وأصبحوا من كبار موظفي حكومة فيصل بن الحسين التي قامت في سوريا بين عامي 1918 و1920، وعمدت الجمعية إلى ممارسة النشاط السياسي العلني باسم «حزب الاستقلال العربي» في 15 فبراير 1919. وزاد عدد أعضائها ونفوذها في العراق بالإضافة إلى فلسطينوسوريا، ثم افتتحت في دمشق «النادي العربي»، كما عملت على عقد «المؤتمر السوري العام» الذي ظهرت من خلاله كتلة برلمانية مثلتها باسم «حزب التقدم»، إلى جانب الكتلة الديموقراطية الجماهيرية التي تزعمها الشيخ كامل القصّاب. وكان حزب التقدم وراء مشروع دستور «المملكة العربية السورية»، الذي عكس التأثيرات الأوروبية في وعي النخبة السورية، وأظهر ميلها نحو الحداثة خصوصا لجهة منح المرأة حق الانتخاب، فكان مقدرا له بذلك أن يكون الأول بين الدول الإسلامية، لكن ذلك المشروع قد كتبت نهايته مع إنذار الجنرال غورو ومجيء الاحتلال الفرنسي. الذي انخرطت إثره الحركة العربية بمجملها في المشروع الغربي. ستكون جمعية العهد وحزب اللامركزية الإدارية العثماني وجمعية بيروت الإصلاحية مادة المقال القادم، ثم سأختم هذا العرض في المقال الذي سيلي المقال القادم بالحديث عن المؤتمر العربي الأول الذي انعقد في باريس عام 1913، وبه سيتوقف حديثي عن مرحلة بدايات الوعي القومي العربي، حيث سأنتقل إلى الحديث عن الوعي القومي العربي في مراحله الأحدث، وتفاعل ذلك الوعي مع المستجدات السياسية التي أعقبت زوال الامبراطورية العثمانية من الوجود، ووقوع أجزاء كبيرة من العالم العربي تحت الاستعمار الأوروبي، وبروز المسألة الفلسطينية قبل تحولها إلى ما صارت تُعْرَف به لاحقا «القضية الفلسطينية». * باحث وكاتب سعودي