كتاب فيكين شيتيريان «جروح مفتوحة: الأرمن والأتراك وقرن من المجزرة» (منشورات هِرست)* ممتع بمقدار ما هو مؤلم. الممتع فيه جمعه بين البحث الرصين، والعمل الروائيّ، والكتابة الصحافيّة التحقيقيّة التي تتّسع لأصوات الآخرين وآرائهم. وعلى مدى هذا النصّ الطويل نسبيّاً، نقع على نُبذ من تواريخ المدن والمناطق، لا بل البيوت والكنائس وتحوّلات اللغة الناجمة عن سياسات «التطهير الثقافيّ». بيد أنّنا نقع أيضاً على فصل آخر في تاريخ الألم الإنسانيّ. والمؤلم في هذا الكتاب مزدوج: من جهة، هناك المجزرة الأرمنيّة نفسها التي يسردها شيتيريان ويوثّقها، مع ما مهّد لها، كما يرويها بمآلاتها في الدياسبورا والتحويل الدينيّ القسريّ، ومن جهة أخرى، هناك درجة الإنكار الهائل الذي واجهها ولا يزال. فلئن عانى الهولوكوست اليهوديّ طويلاً من الإنكار حتّى بات الإنكاريّون «مدرسة» قائمة بذاتها، فقد اصطدم الهولوكوست الأرمنيّ، ولا يزال، بإنكار منظّم تقف وراءه، بحماسة ومواظبة، الدولة التركيّة وإلى حدّ بعيد المجتمع التركيّ. الإنكار الأوّل انحصر في الهوامش. الإنكار الثاني استقرّ في المتن. هرانت دينك سيكون من الصعب، في هذه المساحة المحدودة، الإحاطة بمحاور الكتاب كلّها. فهو يأخذنا عميقاً إلى كلّ ما كان، ومَن كان، على تماسّ مع الكارثة الأرمنيّة: الروس والأكراد والفلسطينيّين والأذريّين، ولكنْ أيضاً الفرنسيّين والأميركيّين والبريطانيّين وسواهم. إلاّ أنّ شخصاً واحداً يهيمن على الكتاب من صفحته الأولى إلى صفحته الأخيرة: إنّه هرانت دينك، الصحافيّ والناشط الذي اغتيل في 2007، فكان الصحافيّ الثاني والستين الذي يُغتال في تركيّا منذ ثورة 1908. لقد اهتمّ دينك بتعريف الرأي العام التركيّ بالحقيقة الأرمنيّة المحجوبة، وبالعذابات اليوميّة لأرمن تركيّا، لكنّه كان يعوّل على تغيير يأتي من داخل تركيّا، فيحملها على مراجعة ذاتها وماضيها، بدل الضغط عليها من الخارج. لهذا تفرّد في معارضته جعل الإقرار بالمجزرة شرطاً لقبول أنقرة في الاتّحاد الأوروبيّ. ودينك كان أوّل أرمنيّ منذ 1915 يحتلّ موقعاً في الفضاء التركيّ العامّ، وينشئ علاقات متينة مع بعض رموزه. ولهذا حوّله اغتياله أيقونة ورمزاً للمثقّفين الليبراليّين الأتراك، كما شكّل الاغتيال صدمة للوعي الغافل والمرتاح إلى غفلته. والحال أنّ الأرمن مثّلوا الآخر المطلق لذاك الوعي على مدى عشرات السنين، وعلى تقلّبات العهود ما بين سلطنة عبد الحميد والأتاتوركيّة. ففي عهد السلاطين الخلفاء، حال اللون الدينيّ للأرمن واليونان دون مشاركتهم في الحياة السياسيّة. أمّا مع أتاتورك، فكان لإخراجهم من الفضاء العامّ أن حرم النزعة الإصلاحيّة دعم القوى التي تملك احتياطيّ التغيير الاجتماعيّ ومقدّماته، ما وضع الإصلاحيّين وجهاً لوجه أمام المحافظين، وأخضع الأوّلين بالتالي لضغط الأخيرين كما أجبرهم على التراجع أمامهم. هذا المسار، الذي تكرّر في بلدان أخرى كمصر وبلدان عربيّة أخرى، عرف استثناءه العابر إبّان نضال «تركيّا الفتاة» لإطاحة السلطان. فقد نشأ آنذاك تنسيق وتكامل مع الثوريّين الأرمن، بل انعقدت صداقات شخصيّة بين الطرفين في المنافي. غير أنّ الإصلاح لم يعد أولويّة «الاتّحاد والترقّي» بعد الاستيلاء على السلطة في 1908، إذ انتقلت الأولويّة للحفاظ على الإمبراطوريّة المتداعية. فعند الضبّاط «الاتّحاديّين»، كما عند الكماليّين بعدهم، ساد الاعتقاد أنّ صون الدولة إنّما يتأتّى عن خلق هويّة جديدة لا مكان معها للهويّات الفرعيّة. لقد اصطدم قوميّ الاتّحاديّين غير الديموقراطيّ بقوميّ الأرمن الديموقراطيّ. وعن هذا الإجماع لم يشذّ اليسار التركيّ. فوفقاً لروايته، اختار الأرمن (واليونان والأشوريّون) الوقوف إلى جانب القوى الكولونياليّة فجنوا على أنفسهم. والتحليل هذا إنّما استند إلى ربط الأقلّيّات بمفهوم البورجوازيّة الكومبرادوريّة الوسيطة بين الإمبرياليّات والسوق المحلّيّة. لكنْ إذا صحّ، مثلاً، أنّ ولاية سيفاس عرفت قبل الحرب العالميّة الأولى 32 مصرفيّاً أرمنيّاً من أصل 37، فإنّ 14 ألف عامل صناعيّ من أصل 17700 كانوا أيضاً من الأرمن. هكذا يبقى لافتاً ذاك التبسيط في النظر الذي منع شاعراً شيوعيّاً كناظم حكمت من أن يأتي على ذكر المجزرة الأرمنيّة، وهو ما يصحّ لاحقاً في روائيّ كأورهان باموك. الرواية التركيّة رواية الإجماع القوميّ التركيّة (التي تشبه مثيلتها العربيّة) تذهب إلى أنّ كلّ شيء كان على ما يرام إلى أن تدخّل الغربيّون مطالع القرن العشرين فحلّ الخراب. لكنْ قبل ذلك، وهو بعض ما تتجاهله الرواية، حُكمت العلاقة التركيّة– الأرمنيّة، بل المسيحيّة، بخلفيّة معقّدة: ذاك أنّ ثنائيّة المسلم– الذمّيّ قضت بالتمييز أصلاً، فمُنع الذميّ من حمل السلاح أو ركوب الحصان والجمل دلالةً على القوّة والتمكّن. وإذا ظلّ مستحبّاً تحوّل المسيحيّ إلى مسلم، فإنّ التحوّل المعاكس يبقى «ردّة» تعرّض صاحبها للعقاب الأليم. صحيح أنّ هذه الخلفيّة غير الصحّيّة، بما ترتّبه من نتائج سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة، إنّما فجّرها الاحتكاك بأوروبا. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ فحوى ذاك الاحتكاك كان الفشل العثمانيّ في الامتحان الجديد، وهو ما تأدّى عنه إنزال العقوبة القاسية بالأقلّيّات المسيحيّة، لا سيّما الأرمن. ذاك أنّ الأمور لم تكن سيّئة دائماً. ففي ذروة التوسّع العثمانيّ لم يجر التوكيد على الإسلاميّة، بل عرفت السلطنة مراحل كان السلاطين فيها يستمدّون بعض شرعيّتهم من التوكيد على أنّهم استمرار للإمبراطوريّة البيزنطيّة. ففي القرن الخامس عشر مثلاً، اتّخذ لنفسه «الغازي» محمّد الثاني لقب «قيصر الروم» بعد فتحه القسطنطينيّة، زاعماً الانتساب إلى العائلة الملكيّة البيزنطيّة. لقد بدأ التوكيد الدينيّ بالظهور مع خسارة البلقان حيث عاش معظم الرعايا المسيحيّون العثمانيّون، فيما شرعت أمواج اللاجئين المسلمين تتدفّق على السلطنة. وفي إطار التراجع اندرج استقلال اليونان في 1829، وهي السنة نفسها التي تنازل فيها السلطان عن مولدافيا لروسيا. وتلاحقت تطوّرات الانحدار ما بين غزو فرنسا للجزائر وهزيمة السلطنة مجدّداً أمام الروس في 1878 كاشفةً عن حجم التأخّر العثمانيّ قياساً بما يجري في أوروبا. فالسلطنة ليست فقط «الرجل المريض» استراتيجيّاً وعسكريّاً، بل هي أيضاً الغريب كلّ الغربة عن الثمار التي طرحتها الثورتان الصناعيّة والفرنسيّة. لقد خسرت الإمبراطوريّة العثمانيّة ما بين 1878 ونهاية الحرب العالميّة الأولى 80 في المئة من أرضها و75 في المئة من سكّانها، فاستنتجت قيادة «الاتّحاد والترقّي» أنّ وجود أقلّيّات مسيحيّة داخل الإمبراطوريّة خطر ينبغي تدبّره. والانقلاب هذا انعكس خصوصاً على العلاقة بالأرمن الذين دفعوا أكبر أكلاف الفشل العثمانيّ على الجبهات جميعاً. فحتّى مطالع القرن التاسع عشر، مع انتشار العصيان غرب السلطنة وجنوبها، كان الأرمن لا يزالون بين أكثر الجماعات ولاء للدولة. ذاك أنّ التمرّد لم يكن يقتصر على الأمم المسيحيّة، بل شمل مصر بقيادة محمّد علي، وكذلك اليمن والحجاز. ثمّ إنّ الانحسار الذي أصاب الجماعة اليونانيّة في السلطنة، بنتيجة انتفاضة 1821، حمل على معاملة البورجوازيّة الأرمنيّة بوصفها «الملّة الصديقة». لكنْ في أواخر التاسع عشر، غدا الأرمن، من دون أيّ تمييز بينهم، يُعتبَرون خطراً داخليّاً كبيراً، وهذا علماً بأنّ أرمن السلطنة كانوا بالغي التعدّد اجتماعيّاً وأنثروبولوجيّاً، لا سيّما بين سكّان المدن، وأغلبها غرب السلطنة، وفيهم التجّار والصناعيّون والمصرفيّون، والفلاّحون الذين يشكلّون قرابة ثلاثة أرباع المجموع، ممّن عاشوا في أرمينيا التاريخيّة إلى الشرق، وكان إحساسهم بالأمن والحماية حادّاً. فشل الإصلاح لكنّ الفشل كان اجتماعيّاً وسياسيّاً قبل أن يكون عسكريّاً. ففي أواخر القرن الثامن عشر حاول العثمانيّون استدراك تأخّرهم بتبنّي الإصلاحات، فابتدأ الأمر بتحديث الجيش على نحو يتيح التنافس مع الأمم الأخرى. لكنْ ما إن سار هذا الإصلاح قدماً حتّى تبيّن أنّ استمراره مشروط بالإصلاح الضريبيّ، ومن ثمّ نفض الإدارة العامّة. ذاك أنّ معظم العائدات الضريبيّة كانت تتبخّر في أيدي «الأعيان» المحليّين و «ملتزمي» الضرائب قبل وصولها إلى السلطة المركزيّة. وعلى نطاق أوسع، تبدّى أنّ نجاح الإصلاحات في رفع إنتاجيّة الإمبراطوريّة يتوقّف على السياسات الداخليّة، خصوصاً كفّ يد المؤسّسات والبنى الهرمة أو الطفيليّة، كالأخويّات الدينيّة ذات النفوذ على السياسة والإدارة والتعليم، فضلاً عن حكّام المناطق ورؤساء القبائل. لكنّ برنامجاً كهذا يهدّد أسساً راسخة في البناء العثمانيّ أهمّها سيطرة «الملّة الحاكمة» على الأقليّات ذات الصلة الأوثق بالإنتاج والتعليم الأحدث. لقد فشلت الإصلاحات، بمعنى ما، نتيجةً للنقص في جذريّتها الذي حملها على التصالح مع البنى الموروثة والمتهرّئة. لهذا جاءت محاولتها تقليد ما فعلته القوى الأوروبيّة الصاعدة تفتقر إلى القاعدة الاجتماعيّة التي نهضت عليها تلك القوى. فالبورجوازيّة العثمانيّة كانت ضعيفة لأنّ غلبة العنصر الأقلّيّ عليها حرمها الدور السياسيّ، فيما ظلّ «علماء الدين» القبضة الضاربة في محاربة الإصلاحات، ومعهم الأعيان التقليديّون وبعض البيروقراطيّة والجيش. وزاد الطين بلّة أنّ أجزاء الإمبراطوريّة الأشدّ تقدّماً، والتي عرفت بعض التحوّل الاجتماعيّ – الاقتصاديّ بتأثير احتكاكها بالرأسماليّة الأوروبيّة، كانت انفصلت عن الوعي الثقافيّ للسلطنة قبل أن تنفصل عن السلطنة نفسها. وكان مفهوماً، والحال هذه، أن تتحوّل الصراعات المحلّيّة الناجمة عن فشل الإصلاحات صراعات دينيّة وطائفيّة، على ما حصل في جبل لبنان وبعض المدن السوريّة. ذاك أنّ التفاوت بدا حادّاً جدّاً أكان في الوظائف الاقتصاديّة أم في التعليم، حيث كانت نسبة عموم المسيحيّين المتعلّمين إلى نظرائهم المسلمين نسبة 6 إلى 1. والتفاوت هذا إنّما نجم عن مقاومة الدولة العثمانيّة التعليم الغربيّ بوصفه «مسيحيّاً»، بدل اعتباره «علمانيّاً»، فيما كان الأرمن واليونان يعتبرون التعليمَ مفتاحاً للصعود الاجتماعيّ، مستثمرين فيه كما في الطباعة والصحافة. وحين قرّرت السلطنة إقامة إدارة مركزيّة، وسُرّح الأمراء الأكراد شبه المستقلّين، ممّن كانوا يفرضون الأمن، بطرقهم العشوائيّة والاستبداديّة، في مناطق السكن الأرمنيّ، وجد أولئك الأمراء تعويضهم في نهب الأرمن الذين كانوا أصلاً يدفعون ضريبتين، واحدة للعثمانيّين وأخرى لهم. ومثلما شكّل إخفاق التحديث المناخ الأعرض للعدوان، كان النزاع على الأرض سببه المباشر، خصوصاً مع تدفّق النازحين المسلمين من البلقان أو القوقاز والحاجة إلى إيوائهم. وإذ تحوّلت روسيا عنصراً مؤثّراً في النزاع الداخليّ، وهي كانت تستخدم أوضاع الأقلّيّات المسيحيّة ذريعةً لتدخّلها، أعاد عبد الحميد توطيد الصلة بأمراء الأكراد وأغواتهم، فأنشأ لهم «الخيّالة الحميديّين» كواحد من تعابير تراجعه عن المسار الدستوريّ والإصلاحيّ. فلمّا انتفض الأرمن في زيتون وساسون اعتراضاً على الضرائب وعلى انتزاع الأرض، توافرت الذريعة لتنفيذ الاقتصاص منهم. وعلى العموم تأدّى عن مذابح العهد الحميديّ في 1894-5 مقتل ما بين 200 و300 ألف أرمنيّ ومسيحيّ آخر، ثمّ كانت مذابح 1897 التي ما أن انتهت حتّى أخبر عبد الحميد السفير البريطانيّ فيليب كوري بأنّ «المسألة الأرمنيّة أُغلقت أخيراً». لكنْ بعد ثورة 1908، التي لاحت بوصفها الخلاص لشعوب السلطنة، سريعاً ما تبدّى الفارق الضخم بين رفاق الأمس. فالأرمن ذوو مطالب قوميّة وإصلاحيّة مفتوحة على ميول اشتراكيّة فيما الأتراك لا ينوون إلاّ إنقاذ السلطنة المتداعية. هكذا وقبل مضيّ عام على الثورة، بدأت المذابح في أضنة ومحيطها، فقضى أيضاً ما بين 200 و300 ألف ودُمّرت أملاكهم. وبعد عام، وخوفاً من تدخّل أوروبيّ بذريعة المشكلة الأرمنيّة، بدأ تهجير أرمن تلك المناطق للقول بانعدام المشكلة. 1915... وفوق الفشل في التحديث والهزائم أمام روسيا، جاءت الهزيمة المذلّة في البلقان عام 1913 ثمّ الحرب العالميّة الأولى، لتعزّزا الوجهة إيّاها. وتحت وطأة تلك التطوّرات نشأت التنظيمات الحزبيّة والشبابيّة الأرمنيّة، المتأثّرة أيضاً بالأفكار الأوروبيّة الرائجة، إلاّ أنّ أعيان اسطنبول الأرمن لم يتخلّوا عن محافظتهم وولائهم للدولة، متّهمين الشبيبة الثوريّة باستفزازها واستجلاب انتقامها على «ملّتهم». وكما نعرف جيّداً، حصلت المجزرة، إبّان الحرب العالميّة الأولى، فتبخّرت أعداد ضخمة من الأرمن في تلك الأيّام الكالحة، في المقاطعات العثمانيّة الستّ وفي المدن الكبرى، وفي عدادها اسطنبول. وبطريقتها أحسّت كلّ فئة وشريحة في المجتمع الأرمنيّ بالتمهيد ليوم 24 نيسان (أبريل) 1915 المشؤوم: المثقّفون البارزون اعتُقلوا ثمّ عُذّبوا ثمّ اختفوا. القوّات الأرمنيّة التي تقاتل على الجبهات دفاعاً عن السلطنة سُرّحت ثمّ صُفّيت. مؤسّسات الطائفة من مدارس وكنائس وصحف أغلقت... لقد اعتمد «الاتّحاد والترقّي» سياسة تجمع بين التهجير وتصفية المهجّرين وتتريك أبنائهم، بحيث امتلأت مدن المنطقة بأيتام أرمن وضعوا في عهدة السلطات التركيّة العاملة على تحويلهم إلى الإسلام واستبدال هويّتهم الأرمنيّة بهويّة تركيّة. وقد استقبل بعض أبرز المثقّفين الأتراك، كخالدة أديب ونيجيار هانم، مشروع التتريك بحماسة فيما تطوّع أساتذة أتراك بالتوجّه إلى سوريّة للمشاركة فيه. لكنْ أيضاً، وبعد انتصارات أتاتورك، أُنزلت مذابح بالأرمن الذين كانوا قد ظنّوا، في 1919، أنّ في وسعهم العودة إلى ديارهم. آنذاك، في مطالع العشرينات، وجد الأرمن أنفسهم مقطوعين عن أرضهم التاريخيّة ومشتّتين في العالم – في القوقاز والشرق الأوسط كما في أوروبا وأميركا الشماليّة. ومن أصل مليوني أرمنيّ عثمانيّ، بقي 300 ألف في تركيّا، ثلثاهم نساء وأولاد مخطوفون، بينهم 100 ألف في اسطنبول. أمّا دولة أرمينيا الحديثة الاستقلال فقرابة نصف سكّانها البالغين 720 ألفاً كانوا لاجئين هربوا من أراضي الدولة العثمانيّة. الميراث الأتاتوركيّ لقد أُسّست جمهوريّة أتاتورك فوق نسيان الهزائم والإخفاقات المرّة. كان ينبغي أن يمضي الاحتفال بالتحرير صاخباً من دون ما ينغّص، أكان عنوان هذا التنغيض مجزرة الأرمن أم هزيمة الحرب العالميّة الأولى وما سبقها من هزائم. وهي، بالطبع، وجهة بدأت قبل أتاتورك، لكنّها تصلّبت وتمأسست على يديه. فمحواً للجريمة، غُيّرت أسماء القرى من أرمنيّة إلى تركيّة بأمر من طلعت، أحد ثلاثيّ «الاتّحاد والترقّي» وأشدّهم ارتباطاً بالمجزرة (وكان عبد الحميد منع استخدام كلمة «أرمينيا» في الوثائق الرسميّة). ولم يتردّد طلعت في اعتبار أنّ الهدف من سرقة الأملاك الأرمنيّة إنشاء «اقتصاد وطنيّ» و «بورجوازيّة مسلمة». وكان من بين المعالم العمرانيّة الكثيرة التي سُرقت من مالكيها الأرمن قصر أتاتورك الرئاسيّ في أنقره، وما بات لاحقاً قاعدة أنجرليك العسكريّة. لقد مضى النظام الكماليّ في إنكار المجزرة، ومن هذا القبيل طُوّرت رواية تقول إنّ الأرمن جنوا على أنفسهم لكونهم متمرّدين ومعتدين تعاونوا مع الجيوش الأجنبيّة فوجدوا أنفسهم يخوضون «حرباً أهليّة» مع المسلمين. لكنّ الأرقام تكذّب هذا التفسير بالسياسات والمواقف العارضة وبردود الفعل عليها. وهنا بعض قليل جدّاً من تلك اللوحة التي أنتجها عمل منهجيّ في الاستئصال تواصل عقداً بعد عقد: - في عينتاب حيث عاش، قبل الحرب العالميّة الأولى، 36 ألف أرمنيّ من أصل 80 ألفاً، هناك اليوم «عدّة آلاف، لكنْ ما من أحد يقرّ بذلك إذ يخسرون وظائفهم، وقد يتسبّبون لأنفسهم بمشكلات أخرى». - في قيساريّة ومحيطها، عاش 52 ألف أرمنيّ في 31 بلدة وقرية، وكانت لديهم 40 كنيسة و7 أديرة و56 مدرسة يدرس فيها 7019 تلميذاً. وفي مدينة قيساريّة نفسها كان هناك قرابة 19 ألف أرمنيّ يشكّلون أكثر من ثلث السكّان. اليوم هناك ثلاث عائلات أرمنيّة في المدينة. - من أصل 2538 كنيسة أرمنيّة في الأناضول، هناك الآن سبع فقط. - في 1942، ومع فرض «ضريبة الثروة» الشهيرة، التي كان هدفها الأبرز تفليس الأقلّيّات، كان على الأرمنيّ أن يدفع نسبة 232 في المئة من دخله قياساً بأقلّ من 5 في المئة هي الضريبة المفروضة على المسلم. - حتّى الثمانينات لم تأت الكتب المدرسيّة على أيّ ذكر للأرمن العثمانيّين. - حتّى 1993 و1994 ظلّت مقابر الأرمن موضوعاً للانتهاك والنبش في اسطنبول. - بعد زلزال 1999 أعلن وزير الصحّة التركيّ أنّ تبرّعات الأرمن واليونان بالدم لن تُقبل حتّى لو أدّت إلى إنقاذ ضحايا. - تشكّلت ثقافة هذائيّة حيال الأرمن حتّى بات كلّ ما تراه تركيّا سيّئاً إنّما يُنسب إليهم، وإليهم وحدهم. فهم وراء «حزب العمّال الكردستانيّ»، ولعبد الله أوجلان «جذور أرمنيّة»، وحتّى عبد الله غل، وكان رئيساً للجمهوريّة، ما إن بدا على استعداد لمحاورة الأرمن حتّى اتّهمه نائب من «الحزب الجمهوريّ» بأنّه «أرمنيّ سرّي». - في النزاع اللاحق بين الأرمن والأذريّين، وقفت أنقرة على طول الخطّ مع أذربيجان وسلّحتها وشجّعتها على أمل إضعاف أيّ صوت قد يذكّر بمسألة أرمنيّة وبأرمن. سوابق ولواحق لقد تحوّلت مجزرة 1915 إلى محطّة في تاريخ الجريمة، وكذلك إلى مصدر مُعدٍ لتوليد المزيد من الجرائم. ففي رواية أنّ هتلر نفسه استشهد ب «إبادة الأرمن» في أحد خطبه السرّيّة عام 1939 ليشجّع أتباعه على اتّباع سياسة عدوانيّة ليس هناك مَن يحاسب عليها. وفي الأحوال جميعاً وُجد عدد من الجنرالات الألمان في تركيّا «الحليفة» إبّان المجزرة، وقد عرفوا بها، قبل أن يحتلّوا لاحقاً مواقع بارزة في النظام النازيّ. ويبدو أنّ الجنرالين فون دير غولتز وفريتز برونسارت فون شيلّيندورف، لعبا دوراً أساسيّاً في إقناع أنور، أحد ثلاثيّ «الاتّحاد والترقّي»، بإعلان «الجهاد» الذي كان أثره بالغ السوء على أقلّيّات السلطنة المسيحيّة. في المقابل، كان للعنف الذي مورس على الأرمن أن طبّع وسهّل العنف الذي مارسته الدولة التركيّة لاحقاً حيال معارضيها، كما حيال جماعات أخرى على رأسها الأكراد. فقد تلازم ظهور المسألة الكرديّة في تركيّا مع تصفية الأقلّيّات المسيحيّة، لا سيّما الأرمنيّة. ذاك أنّه مع انهيار السلطنة العابرة للقوميّات المسلمة، أنكر الأتراك في 1924-5 الوجود المستقلّ للأكراد وسُموّهم «أتراك الجبل». هكذا بدأت تكرّ، في 1921، سبحة الانتفاضات الكرديّة والعلويّة مصحوبة بقمعها الشرس، لتبلغ ذروتها مع انتفاضة درسيم في 1936. والحال أنّ هذه الأخيرة جاءت ردّاً على قوانين حكوميّة صدرت في 1934 تجيز استعمال العنف خدمةً لغرض «استيعاب» السكّان والمناطق. الإنكار والإقرار لخدمة السياسة المنهجيّة في الإنكار والاستئصال التاريخيّ والثقافيّ، نُشرت الكتب وعقدت المؤتمرات المدعومة رسميّاً. وقد تواطأ الإعلام والأكاديميا ودور النشر في تركيّا، فضلاً عن الأحزاب السياسيّة على اختلافها، في الإصرار على هذا الموقف نفسه. لا بل، ومن بين ما لا يُحصى من ضغوط سبقت 1981 وتلتها، هدّدت الدولة التركيّة في ذاك العام بالانسحاب من حلف الناتو إذا ما قدّم متحف الهولوكوست في واشنطن دي سي معرضاً عن المجزرة الأرمنيّة، كما هدّدت بالانتقام من الأقليّة اليهوديّة في تركيا! لكنّ الصمت الدوليّ الواسع عن المجزرة الأرمنيّة اخترقه صوت رجل كبير: إنّه رافايل لِمكِن، ذاك القانونيّ البولنديّ واليهوديّ الذي صاغ لاحقاً مفهوم «المجزرة» وتعريفه القانونيّ، بالارتكاز تحديداً على تصفية المسيحيّين في الإمبراطوريّة العثمانيّة. والحال أنّه ما بين فجيعة المأساة والرغبة في التكيّف، وتكييف الأبناء، مع أنماط حياة أخرى في بلدان اللجوء، بقي الناجون لنصف قرن يتجنّبون الكلام في موضوع مأساتهم. لكنْ في 1965 بدأ يتغيّر الأمر مع التظاهرات الصاخبة التي انفجرت حيث وُجدت كتل أرمنيّة كبرى، بمناسبة الذكرى الخمسين للمجزرة. وفي 1973 أمكن للأمم المتّحدة أن تمرّر في إحدى وثائقها إشارة إليها بوصفها «المجزرة الأولى في القرن العشرين». إلاّ أنّ جهداً تركيّاً محموماً ومدعوماً بأكثريّة المندوبين أدّى إلى شطب العبارة. كذلك ساهم في كسر الصمت حدثٌ آخر شهدته أواسط السبعينات: إنّه «الجيش السرّيّ لتحرير أرمينيا»، أو اختصاراً «أسالا»، الذي نشأ في حضن «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» في بيروت ونفّذ أعمالاً إرهابيّة اختلطت نتائجها الضارّة بنتيجتها المفيدة التي هي جعل الرأي العامّ العالميّ، وإلى حدّ ما التركيّ، على بيّنة من وجود مشكلة أرمنيّة. في هذه الغضون كان يتزايد عدد الكتّاب والمؤرّخين والصحافيّين الذين يتحدّثون عن المجزرة أو، إذا كانوا أتراكاً، يُقرّون بها. وما بين أبحاث ومذكّرات برزت أسماء أرمنيّة وتركيّة كسركيس توروسيان وفاهاكْن دادريان ورايموند كيفوركيان ورجيب زراكولو وعايشه نور زراكولو وإيف تِرنون والرجل الأسطوريّ تاينر أكشم والصحافيّ حسن جمال (حفيد جمال باشا، ثالث الثالوث الاتّحاديّ) وفاطمة موجي غوتشيك وفتحيّة شِتِن وسواهم. كذلك بدأت تتسرّب قصص تكسر القلب عن تجارب ومعاناة أفراد تفرّعوا من مئات آلاف الأرمن الذين حُوّلوا دينيّاً بالقوّة. لقد لوحظ مثلاً أنّ أرمن اسطنبول، على رغم الهجرات التي جرفتهم إلى أوروبا وأميركا، حافظوا على عددهم الثابت الذي تراوح بين 50 و60 ألفاً. أمّا السبب فكان التدفّق الدائم من أناضوليّين «مسلمين» كانوا ما إن يصلوا إلى اسطنبول حتّى يعودوا مجدّداً إلى مسيحيّتهم. كذلك بدأ مثقّفون أكراد يقرّون بدور العشائر الكرديّة في الجريمة الأرمنيّة، وإن مال بعضهم إلى أنّ تلك العشائر كانت تنفّذ أوامر الدولة. وفي 2008 أطلق أربعة مثقّفين أتراك، هم جانكيز أكتر وباسكين أوران وأحمد إنسل وعلي بايراموغلو، ما عُرف ب «حملة الاعتذار» التي جمعت ألف توقيع خلال 24 ساعة، لكنّ عرائض أخرى مضادّة كانت سريعاً ما تواجهها، جامعةً أعداداً أكبر كثيراً من الموقّعين. على أنّه، وفي مقابل ذلك، انكسر تحريم التعامل مع المجزرة في الدوائر الجامعيّة والبحثيّة في الغرب وبدأ ينكفئ ويضمر. وكان الحاسم في هذه الوجهة رغبة أنقرة في الانتساب إلى الاتّحاد الأوروبيّ، ولأنّ «حزب العدالة والتنمية» كان متحمّساً لأوروبا، كما كان المستفيد الطبيعيّ من أيّ ضربة تنزل بالمؤسّسة العسكريّة– الأمنيّة، وب «الدولة العميقة»، ترافق صعوده مع انفراج في طرح الموضوع الأرمنيّ وتداوله. كذلك أمكن الكشف عن اغتيالات طاولت، بين من طاولتهم، ناشطين أرمنيين. ولئن لم تختف الجسور التي تصل هذا التنظيم الأمنيّ بالقوميّين الأتراك، فإنّ صلة الاستمراريّة كانت بادية أيضاً مع «المنظّمة الخاصّة» التي أسّسها الاتّحاديّون عشيّة الحرب الأولى واضطلعت بدور بارز في المجزرة. هكذا بدأت تنعقد لقاءات وحوارات تركيّة – أرمنيّة لم يكن «العدالة والتنمية» بعيداً منها وكان راعياً لبعضها. ومن داخل العمليّة هذه صعد دور هرانت دينك، ومن ضمنها أيضاً اغتالته «الدولة العميقة» ذات الصلات العضويّة بالقوميّين المتطرّفين. لكنْ لئن جاء اغتيال دينك ليوسّع، هو أيضاً، نطاق التعريف بالمسألة الأرمنيّة، فإنّ شوط التعويل على «العدالة والتنمية» ظلّ قصيراً. ذاك أنّ هذا الحزب الإسلاميّ الجذور يصعب أن يخرق الإجماع على ذاك التواطؤ المَرضيّ الذي جعل علاقة الأتراك بتاريخهم، وفقاً للمثقّف التركيّ مراد بلجه، «مجموعة من الأكاذيب». وما بقيت الجروح مفتوحة، وما بقيت الأكاذيب أكاذيب، بما فيها الديموقراطيّة، يصعب الرهان على تقدّم واستقرار تركيّين، أكان على رأس السلطة علمانيّون أم إسلاميّون، عسكريّون أم مدنيّون، ذاك أنّ النوم على الجريمة، كائناً من كان النائم، لا ينتج إلاّ الكوابيس. * يُفترض في أيّ وقت أن تصدر النسخة العربيّة عن هذا الكتاب، بترجمة الزميل حسام عيتاني، عن دار رياض نجيب الريّس.