تفوق الكتب التي صدرت عن سكوت فتزجرالد وارنست همنغواي عدد مؤلفات الاثنين معاً، لكن الكتاب الجديد عن علاقتهما يثير الاهتمام مجدداً بهما. "همنغواي ضد فتزجرالد: صعود وسقوط... صداقة أدبية" لسكوت دونالدسون عن دار ج.ماري يتحدث عن الصديقين اللذين التقيا في باريس وتفاهما بسرعة وشربا معاً خمس زجاجات أثناء الذهاب إلى ليون. كان فتزجرالد "متحمساً كفتاة" قال همنغواي عن رفيقه الذي حقق الشهرة والثروة في 1920 مع "هذا الجانب من الجنة" الذي تحدث عن ضياع جيل ما بعد الحرب وتحطم أحلامه. كان همنغواي مغموراً يومذاك وسيقول عن "صديقه" في ما بعد "مخنث وجبان وضعيف" وسيسكت فتزجرالد بخنوع كأنه يسلم بأنه يستحق الاحتقار. لم يكن همنغواي على العوز الذي أوحى به أثناء إقامته في باريس إذ كان يتلقى مساعدة مالية من اعتماد زوجته الأولى. وأخفى انتقاده الدائم لفتزجرالد حسداً لم ينته عندما صار هو الأشهر والأغنى بعد سنوات واقتفى أثر فتزجرالد في رحلته الأوروبية إذ نزل في الفنادق الفخمة نفسها التي استضافت زميله من قبل. انتقد همنغواي فتزجرالد لإهداره موهبته "الذهبية الجميلة" وافتقاره الى النظام وخضوعه لمطالب المجلات الشعبية التي تنازل فيها عن مركزه الأدبي. تركيزه على انتقاد فتزجرالد أخفى خوفه من أن يكون الثاني صاحب الموهبة الطبيعية الأكبر وبالتالي العبقري بينهما. عرّفه فتزجرالد على النافذين في الوسط الأدبي ولم يستطع همنغواي أن يغفر له مساعدته وكونه بالتالي في المركز الأقوى. عجز همنغواي عن كتابة الروايات الطويلة وعندما جربها في "لمن تقرع الأجراس" انتقدها فتزجرالد في مجالسه الخاصة لسطحيتها: "لها عمق رواية "ريبيكا" لدافني دي مورييه". كان نصح همنغواي بإحداث تغييرات في "الشمس تشرق أيضاً"، أمر أنكره مؤلفها، وما لبث أن واجه الانهيار بعد "غاتسبي الكبير" التي نشرت في أواسط العشرينات. صعد نجم الكاتب المهووس بالقوة والرجولة نال جائزة نوبل في 1954 في حين توجه فتزجرالد الى هوليوود لكي يكسب عيشه من كتابة السيناريوهات، وتوفي في 1940 عن أربعة وأربعين عاماً من دون أن يستطيع إكمال "آخر ملوك المال" التي حولت الى فيلم فاشل من بطولة روبرت دي نيرو. لم يتخلّ فتزجرالد عن زلدا عندما جنت ورأى همنغواي إخلاصه إشارة أخرى إلى الفشل: "يا لسكوت المسكين. كان عليه استبدال زلدا قبل خمسة أو ستة أعوام عندما كانت لا تزال صالحة للبيع". همنغواي في المقابل تزوج أربع مرات لكنه اتفق مع غريمه في الإدمان على الكحول. "هل تستطيع أن تسمي كاتباً أميركياً واحداً لم يمت من الكحول باستثناء هنري جيمس؟" سأل فتزجرالد صحافياً. همنغواي لم يكن من أنصار تدمير الذات علانية وقال إن المرء لا يوجد إلا إذا سكر ولكن عليه أن يشرب كرجل بالطبع. يتساءل دونالدسون ما إذا كان هناك جانب جنسي في علاقة الاثنين لكنه لا يجد أي دليل. فتزجرالد ارتدى ملابس نسائية عندما كان طالباً في برنستون. وقال: "أنا نصف أنثى". وهمنغواي نشأ كأنه فتاة في طفولته، وربما كان ذلك ما دفعه الى التأكيد الملح لرجولته في الصيد وحب مصارعة الثيران والشرب. وهذا دمّره في النهاية، كما فعل مع فتزجرالد، إذ انتحر ببندقية صيد في 1961 عن اثنين وستين عاماً. دونالدسون يستنتج أن فتزجرالد كان الشخص الأطيب وهمنغواي الكاتب الأفضل والأكثر إثارة للاهتمام. لكن البروفسور ماثيو بروكولي عثر على رسالة لفتزجرالد يذكر فيها أنه أنهى كتابة روايته الثالثة التي سيعطيها عنوان "غاتسبي الكبير" قبل سفره إلى فرنسا. والمعروف أنه ادعى أنه كتبها خلال أشهر الصيف الحارة في الريفييرا ودفع النقاد الى تمجيد انفجار الإبداع الذي أنتج الرواية الأميركية الكبيرة. إنما أصل الغنى لأن ديفيد معلوف كاتب ناجح نصر نحن اللبنانيين على أصله اللبناني وقد يجد المتعصبون بيننا في هذا الأصل السبب الأكيد لنجاحه. لكن الكاتب المولود في بريزبان معروف بأنه استرالي، ومجموعته الأخيرة تجلب له الإطراء بلا حدود في الصحافة البريطانية. Dream Stuff الصادرة عن دار شاتو وونداس "مجموعة ممتازة" و"رائعة" بحسب "ديلي تلغراف" وهو معها في أفضل حالاته وفق "الأوبزرفر" التي تقول إنه مباشر من دون أن يكون منفتحاً وجافاً ولكن غنائي مع ذلك. يحترم المسافات بين الكلمات وبين الأشخاص ويعرف ما الذي يجب أن يتجنبه ومتى يترك القارئ وحده. هذا الإذعان للفسحة الذي يقترب أحياناً من العبادة أمر استرالي، والمشهد الطبيعي الذي يخيم على شخصياته قد يكون مميتاً أو مغوياً أو كليهما. كتابته الجميلة، تقول "الأوبزرفر"، تهويدة عادية لكنه لا يبحث عن التهدئة دائماً، فالحياة تشبه الحلم لأنها غير قابلة للسيطرة عليها. "الإندبندنت" نشرت قصة "لسان جاكو" التي تتحدث عن برية تتحول الى المكان السري واللاواعي في حياة الناس وتزخر بالمشاعر الجنسية والأغراض المفقودة التي لا يلبث أصحابها أن يجدوها. يقرر المسؤولون بناء مركز تجاري عليها سيحرم ناسها من الأحلام والإشباع. يختمها معلوف بالقول: "إذا كان هناك فدان بري واحد في مكان ما سنجعله المكان. إذا أخذوه منا سنحفظه في رؤوسنا. إذا لم يكن هناك مكان كهذا سنخترعه. نحن هكذا". ينظر معلوف بحنان الى النساء ويضمن لهن حقهن في الحب وإن كن عاهرات. والد جاك يفقد في المعركة فتعاشر أمه الجنود الأميركيين. ذات ليلة يراها في الفراش مع أحدهم ويخيل إليه أنه والده قبل أن يتبين أنه الجندي الذي صادقه. يقبل جاك ما يراه ويوحي معلوف أن الفتى يكبر ويتعلم كيف يبحث عن سعادته ومن دون أن يلقن القارئ شيئاً. وسالي اعتادت استخدام الجنود في فييتنام جسدها في محاولتهم مقاومة الخوف والإلفة مع الناس. بعضهم يفرض الظلام عند لقائه بها ولا يقول كلمة واحدة كأنه في هربه من العالم يصنع آخر في لحظات. سالي المتعبة من تقديم السلوى للآخرين تريد ما يقدم لها العزاء، ومثل جاك تقترب من السعادة. تقول "الأوبزرفر" إن معلوف مثل كل كتاب الطراز الأول يجعلك تدرك بدقة مواقف تعجز أن تصفها بكلمات فيأتي ليحددها لك بدقة. معلوف يعيش في سيدني وبدأ ينشر منذ 1962 مع "دراجة وقصائد أخرى". أصدر خمسة دواوين شعر وعشرة أعمال روائية وقصصية منها "العالم الكبير" التي نالت "جائزة كتاب الكومنولث" و"بري فيمينا اترانجيه" في 1991. وفي 1993 رشحت روايته "تذكر بابلي" لجائزة بوكر البريطانية. باخ عندما يبالغ كما كان شكسبير يبدأ مسرحياته بمشهد صاخب ليجذب انتباه المشاهدين كذلك يبدأ كريستوفر وولف سيرة "باخ: الموسيقي العالم" بحادثة تناقض مكانة باخ الراسخة في عالمنا. في 1737، وكان المؤلف في الثانية والخمسين، هاجم صحافي شاب "الموسيقي المأجور" وقال إن أسلوبه "طنان وفوضوي وفيه فن مفرط" أي صناعة. في النصف الثاني من القرن نفسه سيجد فولفغانغ أماديوس موتسارت نفسه في موقف مشابه. حرّض موسيقيو البلاط الإيطاليون امبراطور النمسا ضده فانتقده بعد إعجاب قائلاً إن موسيقاه "مفرطة في النوتات". لا نناقش اليوم حقيقة كون باخ من أعظم الموسيقيين الكلاسيكيين، لكن أهل زمنه لم يتوصلوا كالعادة الى الاستنتاج نفسه. كان يوهان سيباستيان باخ شديد الحساسية من تفاوت فنه مع المراكز التي شغلها. عمل طوال حياته مع الكنائس واجتهد للحصول على لقب موسيقي البلاط لدى ملك بولندا لكي يحسّن الانطباع عنه لدى الآخرين. ركّز على كون الموسيقى علماً أي جهازاً منظماً من المعرفة، وكان صديقاً لأساتذة في جامعة لايبزيغ كانوا "علماء" في حقول أخرى. كان غزير الإنتاج وألف مقطوعة قصصية كل أسبوع مدة ستة أعوام. لوحة لإلياس غوتلوب هوسمان تصوره يحاول العزف في غرفة تضم امرأة تخبز وسبعة مراهقين وأطفال يغنون ويسرحون. يصعب تخيل قدرته على الإنتاج هو الذي تزوج مرتين وأنجب عشرين طفلاً. الصحة الجيدة فسّرت الكثير الى أن توفي بالسكتة بعد أربعة أشهر من خضوعه لعمليتين لإزالة التعتيم المياه الزرقاء من عينيه على يد جراح بريطاني. توفي في 1750 عن خمسة وستين عاماً، وفي الذكرى المئتين والخمسين لوفاته تنظم برامج لعزف مقطوعاته الكنسية ال199 في أوروبا. وفي الخريف المقبل يعزف اندراس شيف على البيانو الأعمال الأساسية والأوكسترالية لباخ في لندن. الكلمات خارج الورق هل يحق للكاتب أن يستغل أياً كان لكي يؤلف كتاباً؟ أقنعنا أنفسنا بأن معرفة حياة المبدعين تسمح بمعرفة أفضل لأعمالهم، لكن هل ينطبق ذلك على الأكاديميين أيضاً؟ ربما كان الكاتب الأميركي سول بيلو ساذجاً وبريئاً عندما رأى أن الأمر ما عاد مهماً بعد موت صديقه آلان بلوم، لكن الاتهامات بالخيانة والتساؤلات الأخلاقية التي تعني له الكثير دفعته الى المراجعة. في مقابلة مع "نيويورك تايمز" قال الكاتب الحائز على جائزة نوبل إنه كان يجهل حساسية موضوع المثلية الجنسية إلى أن كشف أن بلوم كان مثليا مات بالإيدز في روايته الأخيرة "رافلستاين". موقف الناس منها يناسب القرون الوسطى لا زمننا، و هو أسف لفضحه صديقه: "لا أحب الشعور الذي رافقه أو إحساسي بالطيش". كان بلوم صديقاً حميماً لبيلو وأثار إعجاب رونالد ريغان ومارغريت تاتشر عندما نشر "إغلاق العقل الأميركي" في 1987 ودافع عن الثقافة والقيم التقليدية ضد هبوط المستوى وتحطيم المقدسات التي أتت بها الستينات. كان بيلو من شجّع بلوم على نشر ما يؤمن به وكتب له المقدمة، وكان كلاهما أستاذاً في جامعة شيكاغو. وعندما توفي بلوم في 1992 عن اثنين وستين عاماً قيل إنه عانى من سرطان الكبد. "الفن لا يبرر كل شيء" قال كثيرون، وبيلو نادم الى درجة سيلغي معها كل إشارة الى الإيدز أو تهويمات رافلستاين بلوم عن العلاقات المثلية في الطبعة الثانية. هناك وقت يعتقد الكاتب فيه أنه يتعامل مع كلمات لا روح لها إلا على الورق.