فزع غريب من نومه على أصوات انفجارات هزت كيانه وزعزعت الوجود من حوله. فتح عيناه مرتعباً متلمساً رأسه وبدنه، بينما تتلون الظلمة التي تحيط به بين حين وآخر بتوهجات بارقة. ما زالت عالقة في ذهنه صور كابوس خانق رأى فيه نفسه وحيداً في خندق بين أشلاء الرفاق، وامرأة تشبه أمه ملفعة بالسواد تريد الانقضاض عليه وهو يحاول من دون جدوى الفرار والصراخ، لكن رعباً أسود يجمد حركته ويكتم صوته. امتدت يد غريب في مجاهل العتمة بحثاً عن بندقيته، لكنه تحسس شيئاً لم يتوقعه، بلاطات أرض صقيلة باردة، كأنه في غرفة وليس في خندق! تجمد في نومته محاولاً تفسير الأمر، من بين الضجيج الموحش وثب أمامه سؤال أشبه بثعبان مستنفر: - "وين آني... بأي خندق وأية حرب...؟". مرت في ذاكرته مشاهد الحروب التي عاشها، عابثة، كشريط من مقاطع أفلام مشوهة. منذ الثامنة عشرة وهو يمضي عمره متنقلاً بين خندق وخندق، حتى تاهت عليه الأعوام وتراكمت الأحداث ولم يعد يتذكر من حياته غير الحروب: حروب أكراد وحروب إيران وحروب كويت وأميركان، وحروب لا تنتهي مع ذاته الممزقة بين أحلام الحرية وتعاسات العمر. تمرق أمامه مشاهد الخيبات بألوان باهتة يغطيها دخان وغبار: معبودته ايمان بعيونها الخضر وأسلافها الباشوات، تنهش قلب صباه وترحل مثل إلهة خؤونة... راية الثورة الحمراء الشامخة في قلبه كسنديانة مقدسة، تذبل منخورة بعثّ الحقيقة. رفاق وأصحاب معفرون بأديم الوطن ينتثرون في عصف المنافي كأوراق يابسة... حتى أوروبا التي ظلت منذ أزمان تغفو في أعماقه كحورية أبدية، بدت الآن في ذاكرته مريضة شاحبة من التخمة والثمالة... يا له من ماضٍ أحمق بائس، أشبه بحكاية شعبية تزدحم فيها أحزان وخيبات وأحلام مؤجلة! ها هو غريب وحيداً طريداً، ليس له غير كيانه واسمه وحفنة من الآمال البعيدة بالنجاة والحرية، بها يعيش ويتمسك بآخر توهجات الحياة. يقبع حائراً وسط البرد والظلام وضجيج الانفجارات، يفتش في أعماقه عن حاضره. تجوس كفاه بلاطات الأرض والبدن بحثاً عما يعيد إليه ذاكرته ويجيبه على نداءاته المتصاعدة: - يا رفاق يا أصحاب... وين أنتم... الوحشة تخنقني والاذلال يجتاحني وأنا حائر تعبان من التسكع في دروب النسيان... انتبه غريب إلى نافذة بلا ستائر قريبة منه. فتحها قليلاً وأخرج رأسه وغارت عيناه في العتمة والمطر وعصف الريح بحثاً عن حاضره. على قدح البروق شاهد أمامه زقاقات من بيوت يعمها صمت وظلام. شكل البيوت لا يوحي بأنها قرية، بل زقاق يشبه أحياء بغداد الشعبية التي أمضى عمره فيها. بالتدريج راح يتناهى له من بيت قريب انين نسوي ممتزج بضجيج السماء وهطيل المطر. للحظات سرت بجسده مويجات لذة وهو يتنصت إلى تأوهات الشبق التي أعادته إلى ذكريات عتيقة منسية. سنوات طويلة مرت منذ أن مارس الحب آخر مرة. لا زوجة ولا عشيقة، إلا حكايات حب خائبة لم تمنحه غير مداعبات عابرة وحسرات حارقة. حتى البغايا أصبحن مستحيلات في الأعوام الأخيرة بعدما تجاوزت أسعارهن محصوله الشهري. فجأة انقطعت نشوته وشعر بشيء من العار وهو يكتشف أن ذلك الانين كان وجعاً وشكوى راح يتصاعد مصحوباً بأصوات بشرية قلقلة متسائلة. مع تكاثر الصخب راحت تتناثر هنا وهناك أضواء شموع وفوانيس ومصابيح يدوية، ثم اتضحت نداءات رجال ونساء وأطفال متقاطعة صاخبة وهي تردد: - يا جماعة عذرا، جاها الطلق... يالله يا جماعة المرا راح تولد... فكر غريب متسائلاً عن ماهية هذه اللكنة التي سبق له أن ألفها وعرفها، لكنها ليست عراقية؟ وقبل أن يتعمق بتفاصيل الأمر اضطر إلى أن يغلق النافذة متحاشياً أمواجاً مطرية عاصفة. انطوى على نفسه بحثاً عن الدفء فوق فراشه الخالي من الأغطية، وشرع جاهداً أن يجمع شتات الذاكرة بحثاً عن جواب للغز وضعه الحالي. فبينما هو على هذا الحال، إذا به ينتبه إلى صوت غامض يتناهى إليه من بعيد، تبيّن أنه لم يكن آتياً من الخارج، بل من أعماق الدار! بالتدريج أخذ الصوت يتوضح بنغمات بشرية، رجالية، متصاعدة كأنها تراتيل أو صلوات مفعمة بعنفوان وشكوى، أثارت في نفسه خلجات صداقة وامان. فردد بصوت هامس: - امرأة أتاها المخاض ورجل يشدو العنفوان؟ بدا غريب وهو يتلفظ هذه العبارة مثل ساحر يلهج بتعويذة ستفتح له أبواب قلعة الحقيقة الغائبة. هكذا بطيئة خفية، مثل نبتات برية، راحت الذكريات تنمو في بوادي روحه، وتنمو ثم تنمو في احشائه وتتصاعد إلى فمه فترتعش شفتاه ويتوتر لسانه ثم ينفتح فمه ليتمخض عنه ذلك الجواب الذي سيحل له لغز حاضره: - الاستاذ... اوه، هذا صوت الاستاذ... صوت الاستاذ... هكذا خرجت الكلمات رقيقة طيبة وهي ترفرف حوله كنفحات من الحقيقة تحط على صدره لمسات حنونة توقظه من غيبوبة السؤال. فيزفر بپ"اوف..." شاعراً براحة وامان. ها هو الآن يكتشف حقيقة وضعه الحالي. إنه بعيد عن الخنادق والحروب، بل هو بعيد عن العراق بأكمله. منذ أسابيع وهو يعيش في دمشق التي هرب إليها بعد جهود ومخاطر. يسكن في بيت "الاستاذ" في مخيم فلسطين عند أطراف العاصمة، بانتظار الحصول على جواز مزور وتأشيرة سفر إلى أوروبا. فكر حينها بپ"الاستاذ"، يقينا انه يتحدث الآن مع رفاقه أعضاء المنظمة الثورية التي يقول إنه يقودها منذ أعوام، وخلاياها السرية تنتشر في أنحاء العراق. طالما كرر على مسامعه بلغته المعهودة التي تمزج بين الشعر والسياسة: - يا غريب... نحن نعد لتفجير ثورة شاملة تمحق الظلام وتعيد النور إلى ربوع الوطن... منذ أن سكن في بيت "الاستاذ" وحديثه لم ينقطع عن منظمته ومشاريعه، ويلومه على الخضوع للهزيمة وترك الوطن وحيداً يحتضر. يذكره بأحلام ماضية عن جنان الحرية والسلام التي ظل ينتظرها منذ أيام وعيه الأولى. بتجاربه المريرة التي يعتقد بأنها لم تستطع أن تطفأ جمرة الحياة فيه لأنه في حقيقته إنسان مفعم بإرادة الوجود والتشبث بالأمل والخلود. يُذكره بكلامه الذي كان يردده أيام النضال، بأن الحياة، يا أصحاب، ما هي إلا انثى شرسة لا تمنح لذتها إلا لمن يتوغل في أدغال عفتها، يقتحم أسرارها، يخط عهد الوفاء والامان على صفحات قلبها، يخصبها بعرقه ودمه وارهاصات حلمه، يبلغ بها ذروة الوجود وغيبوبة الوجد، حتى الخلود في أنوار الأبدية... هكذا كان "الاستاذ" يردد على مسامع غريب ويبعث فيه أحلامه المندثرة تحت ركام الخيبات وأوجاع الحروب. بعد أسابيع نجح أن يخلخل قناعاته بالهجرة إلى أوروبا التي كان مستعداً أن يقبل فيها حتى ملجأ بائساً في بيت مهجور يجد فيه بعض الامان وعيش الكفاف، لينقذ نفسه من ذكريات وطن لم يمنحه غير الجوع والخوف والاذلال. لكنه الآن، بتأثير حكايات "الاستاذ" ومشاريعه الواعدة، يخضع من جديد لضميره المعذب ويحس بالعار من حبه لذاته ورغبة رحيله إلى أوروبا. بعد مداولات وترددات، اتخذ أخيراً قراره بتأجيل مشروع الهجرة والعودة إلى الوطن من أجل الإسهام بالثورة. على رغم تجاربه العسكرية، إلا أنه وافق على أن يمضي أسبوعين في إحدى معسكرات المقاومة الفلسطينية للتدرب على حرب العصابات. بالأمس مساء عاد إلى الدار، بانتظار الأوراق المزورة التي ستمنحه هوية جديدة يعيش بها في الوطن. ظل ظلام الغرفة يتبدد بين حين وآخر بوهج بروق وصواعق تهز زجاج النافذة العارية من ستارتها. شعر غريب بتفاقم آلام البرد، فقرر التحرك بحثاً عن غطاء يمنحه الدفء، ما أن تقدم بضعة خطوات بحثاً عن زر الكهرباء حتى اصطدم بطاولة صغيرة سقطت مع قنان تكسرت محدثة ضجيجاً مقرفاً حاداً. تجمد في وقفته حائراً محرجاً مفكراً بپ"الاستاذ" ورفاقه الذين سيهرعون لاستكشاف فعلته! ظل ينتظر وينتظر لكن الرفاق لم يأتوا. يبدو أن الجميع مشغولون بالاصغاء إلى خطاب "الاستاذ" ومشاريعه. أخيراً تشجع لأن يستمر في محاولته. فتقدم على قدح السماء وبخطوات حذرة متعثرة لتجنب نثار الزجاج، وقفز نحو الحائط القريب وراحت كفاه تجوسان المجهول، وما أن تلمست أصابعه الزر حتى ضغطه بتلهف، مرة، وثانية وثالثة. لكن من دون جدوى... الكهرباء كعادتها مقطوعة وسط ريح هوجاء ومطر لعين. قرفص على الأرض متكأ على الحائط وشرع بسحب الشظايا من قدمه وهو يئن ويلعن. خطر له ان يستعين بپ"الاستاذ"، ويطلب منه العون للعثور على غطاء وشمعة، انه صاحب البيت أليس كذلك؟ شعر حينها ببعض الارتياح لهذه الفكرة. للمرة الأولى يتجرأ على ازعاج "الاستاذ" في اجتماعه. إنها ستكون فرصة مناسبة للالتقاء بالأعضاء القياديين للمنظمة. حتى الآن لم يتح لغريب أن يشاهد أو يلتقي أياً منهم، على رغم وجوده في الدار منذ أسابيع. خلال الليالي يقبع في غرفته يتنصت من بعيد إلى ضجيج الاجتماعات التي كانت تدوم أحياناً حتى الفجر حيث تخفت الأصوات ثم تنقطع بعد عبارات الوداع واللقاء القريب. في اليوم التالي كان "الاستاذ" يستيقظ ظهراً، محمر العينين، شاحب الوجه، ترتسم عليه علامات الارهاق والعصبية، وبين حين وآخر يتمتم مع نفسه بعبارات متوترة تبدو من بقايا الليلة السابقة. يحلق لحيته بسرعة وارتباك ثم يرتدي بدلته السوداء الأنيقة وربطة عنقه الحمراء الفاخرة، ويترك الدار وهو يردد على عادته، بأنه على موعد مهم مع رجال المعارضة العراقية والقيادات الحزبية السورية والفلسطينية واللبنانية من أجل التنسيق والتحضير للثورة القادمة... هكذا كان يقول في كل مرة... استمر غريب يقترب ببطء وتعثر من باب غرفة الاجتماع، وهو يتلمس طريقه على وهج بروق وصواعق تحيل ظلال جسمه على الجدار إلى هيكل ذئب جريح يزحف على هدى كلمات ترتج بصدى جبلي ممتزج برعود وعصف ريح. على رغم البرد والتعثر والنعاس وأوجاع الجراح، إلا أنه في أعماقه ظل يحس ببعض الفرح، لأنه أخيراً سيلتقي الرفاق القياديين. يقيناً انه سيتعرف إلى بعضهم من رفاقه القدماء. ألم يكن "الاستاذ" مسؤوله الحزبي في بغداد، قبل أن يقرر الانشقاق في الخارج وتأسيس منظمته الجديدة. منذ صغره تعود أن يلقبه بپ"الاستاذ"، لأنه حقاً كان استاذه في المدرسة. حتى بعد أن أصبح مسؤوله في الحزب كان كثيراً ما يسهو ويناديه بپ"استاذ" بدل رفيق. كان "الاستاذ" مناضلاً حقيقياً ومثقفاً تعود منذ صباه السجون والتشرد، وهو يمضي وقته في الكتابة والحديث عن عذابات الفقراء وظلم الأغنياء والتعلق بحلم العدالة والمساواة. لم ينس غريب تلك الأمسيات التي كانوا يجتمعون فيها عند بساتين دجلة. بعد أن ينهي مواضيعه السياسية، يلقي عليهم قصائد مفعمة بالتمرد والتضحية التي تجعله أحياناً يذرف الدموع. في الحقيقة أنه كان مثل الغالبية السائدة، يؤمن بأن الكفاح الحقيقي هو الذي تقترن فيه كلمات الوطن والحياة والسعادة واللذة، بكلمات التشرد والسجون والمشانق، بحيث يبدو العذاب طقساً مقدساً والاستشهاد غاية جليلة! لاحظ غريب أن الباب غير مغلق بالكامل، بل كان يرتعش بريح تتسلل من الشق مع ضوء ناري شاحب وضجيج رعد مصحوب بصوت "الاستاذ". ما أن وضع أصبعه ليطرقه حتى اندفع الباب، وانفتح تلقائياً كاشفاً عن كل ما في الغرفة. تجمد غريب في وقفته مبهوتاً غير مصدق ما يرى! اجتاحته ارتجافات برد ودهشة وهو يحدق في ذلك المشهد العجائبي: "الاستاذ" وحيد عارٍ، جلس بخشوع، رافعاً رأسه نحو السماء المطلة من النافذة المفتوحة. الغرفة عارية معتمة إلا من فانوس بضوء شاحب يضفي على هيكله المبلل وشعره الذي تتلاعب به الريح هيئة اسطورية كأنه تمثال إله عتيق في معبد من زمن الطوفان. الجدران عارية إلا من لوحة كبيرة غامضة، ألوانها تقدح بوهج صواعق وبروق، فتنبعث فيها الحياة وتصير نافذة تطل على عالم حقيقي في ماض سحيق تجري فيه اسطورة البحث عن الخلود: في الوسط يبدو البطل غلغامش واقفاً يحمل على كتفه صديقه انيكدو جريحاً محتضراً. على يمينه تنتصب عشتار شجرة صفصاف تمتد جذورها في ضفاف النهر، تحمل بين كفيها قارورة خلود تشرب منها أفعى رقطاء ملتفة حول جسدها. على يساره ظهر اتونابشتم حكيم الطوفان يجمع المخلوقات في سفينته ويعلن للناس... و... و... وفجأة يصدح صوت مفجوع، كأنه ينبعث من أعماق اللوحة: - "آه ربي! صوتهم يصرخ في قبري تعال... كيف لا انفض عن صدري الجلاميد الثقال... كيف لا اصرع أوجاعي وموتي... كيف لا اضرع في ذل وصمت... ردني ربي اعدني للحياة... وليكن ما كان، ما عانيت من محنة الصلب وأعياد الطغاة..."*. تسمر غريب مبهوتاً لا يدري ما يفعل وهو ينظر إلى "الاستاذ" خاشعاً يلقي أشعاره بصوته الصارخ وهيئته الخرافية. يظل متجمداً حائراً اجتاحته قشعريرة حمى وسط ريح ورذاذ ومشهد كابوسي لم يخطر بباله أبداً... اطلق صرخة غاضبة زفر خلالها شبح هزيمة كاد يقطع أنفاسه: - يا استاذ... يا استاذ...! واندفع بقوة نحو النافذة ليغلقها، لكنه ما أن اقترب منها ومسك مصراعيها حتى فاجأته صرخة مبحوحة من حنجرة "الاستاذ" وامتدت قبضته مرتجفة عنيفة وشدت بقوة على ذراع غريب وهو يخاطبه بلغة بليغة اقرب إلى الدعاء: - ابتعد أيها الغريب... اراك أتيت تفسد عليّ ساعات توحدي مع قوى الثورة والعنفوان... ابتعد أيها الغريب... ارحل عني يا رسول البؤس وذكريات الظلام... نفض غريب عنه يد "الاستاذ" وخاطبه بحدة ورجاء: - يا استاذ... اشبيك؟ أنا رفقيك وتلميذك غريب... ارجوك خليني أغلقها... البرد راح يمرضك يا "استاذ"... أرجوك... لكن قبضة "الاستاذ" ازدادت شراسة بينما امتدت فجأة يده الأخرى بمسدس وضع فوهته على قلب غريب وهو يخاطبه بكلمات متوترة مخبولة: - دع النافذة مفتوحة يا سليل المهزومين لأن عبرها ستعود من حيث أتيت... عد إلى آلهة الخيبة والنسيان... رصاصة واحدة تكفي لتفجير قلبك المعبأ بأنفاس الموت... ارحل... عد أيها البائس الغريب. وإلا أطلقت... تحت تهديد المسدس وصرخات "الاستاذ" وإصرار عينيه المتوهجتين ببريق الانتقام، اضطر غريب للخضوع والقفز من النافذة. سقط من علو أمتار عدة على أرض مخيم فلسطين وارتطم رأسه بعمود الكهرباء وألتوت رجله. حاول أن يقاوم الانهيار فأبقى ظهره مرتفعاً وراحت أصابعه تتشبث بالأطيان، لكن قواه ما برحت تتخاذل. ترك جسده يستلقى ناشراً ذراعيه وقد اصطبغ وجهه بالدماء النازفة من أنفه ومن الجرح الذي ارتسم على جبينه وتعفر كيانه بالأطيان والمطر، حتى بدا مثل شهيد والأرض صليبه. أثناء لحظات الغيبوبة الأخيرة، أحس بقطرات المطر صلبة مثلجة تخترق لحمه وتذوب في دمه الساخن وهو يفور، ويفيض ثم يفيض، ليصير بحراً تعصف فيه ريح تسمو بموجاته إلى الأعالي والأعالي ليصير روحاً من اثير نور تطوف في كون من نور. كما لو ان روحه مدفوعة بشوق وحنين إلى حب قديم، راحت تمضي في عوالم أليفة بأبدان سالفة سبق أن عاشت فيها: نطفة في لجة طوفان... حنين يطوف بين أمواج... وليد يحبو على ضفاف... طفل يتقافز في غابة... شاب يعيش في مغارة... ثم رجل يشيد مدناً ويخوض حروباً لا تنتهي ضد جحافل غزات مدججين بجوع وطواحين تدمر المدن وتفتك بالبشر وتطلق على النهرين وحوش الطوفان لتبيد الإنسان وتغسل عن الطون نسله الفاسق... حتى تعيد الحياة دورتها من جديد: نطفة تنبثق من طوفان تصير جنيناً ووليداً وطفلاً وشاباً، ثم تكتمل بإنسان تنهشه حروب ويغرقه من جديد طوفان يتصاعد ويتصاعد حتى يصير روحاً من نور تهيم في الأعالي نحو حشود من نور... تقترب وتقترب، وفي اللحظة التي تكاد فيها تبلغ الحشود وتتحد فيها، يقدح الأزل بوهج ساطع مصحوب بتراتيل صداحة ترج الوجود وتفجره بأنوار وألوان خلابة تصدح بتراتيل تعلو وتعلو وتعلو... حتى تستحيل إلى هلاهل وصرخات بشرية: - عذرا ولدت... يا جماعة عذرا ولدت... مبروك يا ناس... مبروك... فتح غريب عينيه على وهج بروق وصرخات وليد مفعمة بالحياة وسط هلاهل وصخب ناس في الزقاق. لا يدري كم من الأزمان مرت عليه وهو مستلق على ظهره بين وحل وأوجاع برد وجراح. المطر لم يكف عن التفاقم، كأن السماء أرادت أن تفرغ كل مياه الكون على أرض الشام. على رغم ذلك، فإن شفقاً نحاسياً بدت شعاعاته مثل سيوف الهية تخترق قطعان غيوم كأنها وحوش سماوية تود ابتلاع الأرض. من بين صرخات الوليد وصخب الناس وهلاهلهم تصاعد في الفضاء صوت "الاستاذ" صادحاً: "مطر... مطر... مطر... في كل قطرة من المطر... حمراء أو صفراء من اجنة الزهر... وكل دمعة من الجياع والعراة... وكل قطرة تراق من دم العبيد... فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد... أو حلمة توردت على فم الوليد... في عالم الغد الفتي، واهب الحياة... مطر... مطر..."**. كانت قطرات المطر والدم والدموع تنحدر على وجه غريب وتنساب عبر فمه، فتسري في جسده أحاسيس غريبة فيها أوجاع من خلجات لذة وعنفوان... كان طاقة السماء بأنوارها وانفجاراتها تنبثق في كيانه وتشيع في شرايينه قوة جديدة مفعمة بغضب وفرح. مثل طفل راح يحبو فوق الوحل، يقاوم قدمه الملتوية، وبإصرار لم يعرفه من قبل ينهض من سقطته وهو يعرج... مثل كائن خرافي ينبثق من أوحال الخيبة ودم الكوارث، ينهض غريب ذلك العراقي الطريد، ملطخاً بأطيان محنته ونزيف صليبه، مستجمعاً في روحه انكسارات عمره وهزائم حروبه التي ظلت تتكور وتتكور في أحشائه ثم تتفجر بصرخة هوجاء احتشدت فيها كل أسماء الأرباب والآباء والقادة والاساتذة الذين منحهم ثقته منذ ميلاده وحتى هذه اللحظة: لا... لا... لا... حتى جلجلت اللا بيوت مخيم فلسطين وارجاء الشام وتعالت أصداؤها في سماوات الشرق وظلت تتسامى نحو عوالم لا تنتهي... * مقطع من قصيدة "حب وجلجلة" للشاعر خليل حاوي. ** مقطع من قصيدة "انشودة المطر" للشاعر بدر شاكر السياب. * كاتب عراقي مقيم في جنيف.