أعتقد أن أحد الأسباب التي دفعت الرئيس كلينتون الى عقد مؤتمر قمة مع الرئيس بوريس يلتسن، حديثاً، هو محاولة اقناع الشارع الروسي وحكومته ومؤسساته بعدم التراجع عن مسيرة ما يسمى باقتصاديات السوق الحر، بمعنى تقليص دور الحكومة في قطاعات الانتاج بتنفيذها سياسة متفق عليها في خصخصة القطاع العام وإفساح المجال للقطاع الخاص حتى يتمكن من تسخير قدراته الإدارية والمالية في النهوض بالاقتصاد الكلي من خلال حافز الربح وتكوين الثروات. هذا هو أحد أركان العولمة المهمة من دون محاولة الدخول في متاهات تعريفها أو تحديد مفهومها. ولا بد من ان نوضح في هذا الصدد أن أي أمر يتعلق بسكان البشر والعالم أجمع ليس بالضرورة أحد أوجه العولمة التي نحن بمثار الحديث عنها... فمثلاً محاولة تقليل الآثار الناجمة عن تلوث البيئة والتي قد تؤثر على طبقة الأوزون التي تحجب عنا مضار الأشعة الشمسية لا شك أنه أمر يخص العالم أجمع، ولكن لا يعتبر هذا جزءاً من العولمة. كذلك موضوع حقوق الإنسان أو أي بند من ميثاق الأممالمتحدة الخاص بالتعاون الدولي ومحاولة التوصل إلى سلام منشود من خلال انشاء مؤسسات وما يتفرع منها ووضع قواعد دولية لحل النزاعات الاقليمية والعالمية. كل هذه الأمور، وما يتعلق بها أو يتفرع منها، ليست في إطار ما يسمى حالياً بالعولمة، ولو أنها مهمة للبشر والعالم أجمع. اعتقد ان ما يطلق عليه الآن بالعولمة ما هو إلا تطور اقتصادي تاريخي وترابط الأسواق وتشابكها وتأثير بعضها على البعض الآخر ولا يمكن حتى للدول العظمى من ايقاف تياره. فقبل الثورة الصناعية وعلى مدى قرنين ونصف قرن قبل نهاية الثامن عشر مرت الدول الخمس الكبرى في ذلك الوقت، وهي انكلترا وفرنسا واسبانيا والبرتغال وهولندا، في فترات نزاع وحروب دائمة وتبنوا ما يطلق عليه بسياسة التجاريين وفحواها ان كل دولة لا بد لها أن تصدر أكثر مما تستورد حتى تستحوذ على الفائض بالذهب والفضة كالمصدر الحقيقي للثروة آنذاك. معنى ذلك أن مكسب أي دولة لا بد أن يكون على حساب خسارة دولة أخرى. ومن هنا عزمت كل دولة في نزاعها مع الآخرين على اتخاذ كافة الطرق المشروعة وغير المشروعة ومنها اغراق السفن التجارية للدول الأخرى حتى تمنعها من تحقيق الهدف الأكبر، وهو زيادة صادراتها وإغراق بضائعها في مياه البحار. ولكن كلاً من هولندا والبرتغال أراد أن يخرج من تلك النزاعات المستمرة وطورا السفن الكبرى لاستشكاف مناطق جديدة في العالم والاستفادة من خيراتها ونمت الثروات فيهما بظهور طبقات رأسمالية مما شجع الدول الأخرى على نحو ذلك المنهاج وبدأت الرأسمالية تعم في تلك المناطق، خصوصاً بعد الثورة الصناعية وزيادة الانتاج والانتاجية. وتوسعت قاعدة الصناعة بمساندة تقدم التكنولوجيا الرهيب في القرنين التاسع عشر والعشرين. ولكن الفردية من دون قيود وترشيد أدت إلى استغلال الطبقات العاملة وتركز الثروات في أيدي فئة قليلة على حساب أغلبية عاملة كادحة، ومن ثم ظهرت الماركسية لمحاولة تاريخية ثورية ضد تلك الأوضاع غير المقبولة. وفي الوقت نفسه بدأت الرأسمالية في تصحيح أوضاعها وبدأت القوانين التي تحد من الاستغلال ومنع الاحتكارات تنتشر في الدول الصناعية الغربية، كذلك ظهرت نقابات العمال وتطورت وأصبحت مؤسسات لها حسابها وكيانها. هذا بالاضافة إلى التعديلات المستمرة في قوانين الضرائب كمحاولة لإعادة توزيع الثروة ومساواة الأعباء الضريبية. كل ذلك حتى تستطيع الرأسمالية أو اقتصاديات السوق في نمو كافة القطاعات وازدهارها، في الوقت نفسه التي تحاول فيه تحصينها من العيوب الذاتية من خلال المؤسسات والنظم والسياسات المالية. وفي القرن العشرين تعرض العالم لحربين عظميين وعلى رغم النزاع بين الرأسمالية والشيوعية قبل انهيار الأخيرة منهما. فكرت دول التحالف أنه لا بد من قيام نظام اقتصادي تعاوني بعد الحرب العالمية الثانية... وقد كان. ففي أثناء تلك الحرب انعقد مؤتمر بريتون وودز Bretton Woods في ولاية نيوهامبشير في الولاياتالمتحدة، واشترك فيه الاتحاد السوفياتي آنذاك والذي ما لبث أن انسحب قبل نهايته. وفي عام 1944 وقعت الدول على اتفاقية بريتون وودز والتي بمقتضاها انشئت المنظمتان العالميتان، البنك الدولي للإنشاء والتعمير بهدف تقديم القروض الطويلة المدى للانشاء والتعمير في الدول الأعضاء، وصندوق النقد الدولي بغرض تقديم قروض قصيرة المدى لإصلاح الخلل في موازين مدفوعات الدول الأعضاء. أما مشروع انشاء المنظمة العالمية للتجارة World Trade Organization فقد نوقش في هافانا في كوبا في سنة 1948، ولكن لم يصدق عليه مجلس الشيوخ الأميركي آنذاك، وكذلك لم يصدق عليه عدد من الدول وبالتالي لم يخرج ذلك المشروع، الذي قصد بمقتضاه تحرير وزيادة التجارة الخارجية، إلى حيز التنفيذ في ذلك الوقت. وحتى تتمكن الدول من الدخول في مفاوضات لتخفيض الضرائب الجمركية والقيود الملجمة للتجارة الخارجية، فقد اتفق في سنة 1947 على انشاء "الغات"، وهي الاتفاقية العامة للضرائب والتجارة General Agreerment on Tariffs and Trade في جنيف. وعقدت مؤتمرات عدة في أوروغواي Uriguay وغيرها من البلاد وأنهت أعمالها في 15 نيسان ابريل 1994 في المغرب بتسليم مهام أهدافها إلى المنظمة العالمية للتجارة التي انشئت في أول تموز يوليو 1995. وكان من أهم نقاط الاتفاق هي: 1- العمل على تخفيض الضرائب الجمركية تدريجاً. 2- العمل على تذويب القيود الناجمة عن نظام الحصص Quotas. 3- إلغاء نظام الإغراق. 4- العمل على برنامج لتخفيض نظم الدعم الاقتصادية. 5- العمل على احترام حقوق وبراءات الاختراع. 6- العمل على الاقلال من القيود المفروضة على الخدمات. وأخيراً وليس آخراً، انشاء قواعد جديدة لتسهيل الاستثمارات العالمية، خصوصاً بعد أن تطورت أجهزة وشبكات المعلومات ودخل العالم مرحلة جديدة من خلال ثورة المعلومات والاتصالات لا تقل أهمية عن نتائج الثورة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر. بل أنها في رأيي تفوق في أبعادها وسرعتها ما حدث في أعقاب الثورة الصناعية. ومن هنا بدأ تيار العولمة الجارف الذي لا تستطيع حتى الولاياتالمتحدة، على الرغم من زعامتها الاقتصادية والسياسية في العالم، من أن تتصدى لذلك التيار وذلك التطور الذي تفوق أبعاده أهم التطورات في تاريخ البشرية. ومن أهم مظاهر تلك العولمة هو التشابك الاقتصادي بين الأسواق العالمية والشركات الكبرى والمؤسسات الدولية الثلاثة: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمنظمة العالمية للتجارة. ومن خلال هذا العرض الاقتصادي التاريخي السريع، أريد أن أركز على النقاط الآتية: - أولاً، على رغم أن الولاياتالمتحدة أو حتى الدول الأخرى المتقدمة صناعياً لا تستطيع أن تقف أمام تيار العولمة كتطور اقتصادي تاريخي، إلا أن كل منها يحاول أن يسير اتجاهه حتى يتمشى مع المصلحة الاقتصادية لكل منها. وأنه لا شك من زعامة الولاياتالمتحدة في هذا الصدد لكبر حجمها الاقتصادي من ناحية، ومن تأثيرها على سياسات المنظمات الدولية الثلاث لأن التصويت على قرارات تلك المنظمات قائم على أساس نسبة حصة كل دولة في رأسمالها وأن الولاياتالمتحدة ما زالت هي أكبر مساهم فيها وبالتالي لها القدرة على إدارة دفة تلك المنظمات ورسم سياساتها ووضع الشروط التي تتطلبها من الدول من اصلاحات اقتصادية مثل الخصخصة وتقليص القطاع العام ونهج السياسات التي من شأنها تقليل العجز في الموازنة وفي ميزان المدفوعات والاسراع في تطبيق نظام السوق تشجيعاً للقطاع الخاص للعمل والانتاج وإدارة دفة الاقتصاد وجذب الاستثمارات الخارجية إلى غير ذلك من الشروط التي يضعها صندوق النقد الدولي قبل مد يد المساعدة لاقتصادات الدول التي تئن من أوضاعها الاقتصادية. - ثانياً، في الوقت الذي تتزعم فيه الولاياتالمتحدة محاولة تحديد اتجاه تيار العولمة التاريخي، نجد أن رغبة الدول النامية في التأثير على مجريات الأحداث الاقتصادية الدولية لا تنأى بالاهتمام، ففي 11 أيار مايو سنة 1998 دعا الرئيس حسني مبارك إلى مؤتمر قمة اقتصادي حضره خمسة عشر دولة، ولم تعر الصحف العالمية أي اهتمام به ولم تنشر ما دار فيه وما اتخذ فيه من قرارات على الرغم من أهمية ذلك المؤتمر في أعقاب الأزمات الاقتصادية في دول شرق آسيا. - ثالثاً، في مناخ العولمة وسرعة نقل المعلومات والأموال في أرجاء العالم، بدأت الشركات العالمية في الاندماج لتحقيق وفورات اقتصادية واعطاء تلك التكتلات الجديدة فرصة أكبر للتنافس في أسواق العالم، ونلاحظ أن الولاياتالمتحدة مثلاً بدأت تغض النظر عما إذا كانت الشركات الأميركية واندماجاتها تتعارض مع قوانين منع الاحتكار. وذلك بهدف اعطاء تلك الاندماجات ميزة نسبية تستطيع فيها ان تتنافس مع مثيلاتها في الاتحاد الأوروبي وفي الأسواق الأخرى الكبرى... فمثلاً نجد تكتل صناعة الطائرات في الولاياتالمتحدة حتى تتنافس مع ال "ايرباص" Airbus في أوروبا، وتلك التكتلات تشمل الآن قطاعات أخرى في البنوك وفروع عدة من الصناعات والخدمات، ففي 11 آب اغسطس سنة 1998 أعلنت شركة "بريتيش بتروليم" و"شركة أموكو" عن اندماجهما، وبالتالي أصبحتا تمثلان أكبر ثالث شركة بترول في العالم بعد "شل" و"اكسون"، وحتى يمكن أن نعطي صورة أوضح لتلك الاندماجات، فإن مبيعات شركتي "بريتيش بتروليوم" و"اموكو" في سنة 1997 وصلت إلى 107 بليون من الدولارات، تقريباً ضعف الدخل القومي المصري. وتسير عجلة الاندماجات بسرعة فائقة، فإن التقديرات الاقتصادية تبين أنها وصلت في مجموعها حتى الآن ما يقرب من 4700 بليون دولار والذي يمثل حوالى ستين في المئة من الدخل القومي الأميركي أو ستة وتسعين في المئة من مجموع الدخل القومي في المانيا واليابان كثاني وثالث اقتصاد في العالم. هذا الاتجاه العام نحو تكوين الاحتكارات العالمية وغض النظر عما إذا كانت تعارض قوانين منع الاحتكار، فهو أمر خطير لأن هذا التركيز سيؤدي إلى ارتفاع في الأسعار وتقليل الجودة وسيكون على حساب مصالح المستهلكين في أنحاء العالم عموماً، وفي دول العالم الثالث خصوصاً. ولا شك أن كل ذلك سيؤدي في النهاية إلى بعث تضارب المصالح كما حدث في عهود التجاريين ولكن بصور وأشكال أخرى. - رابعاً، ان اجبار عدد من البلدان على الاتجاه نحو اقتصاديات السوق الحر قد يؤدي إلى عواقب وخيمة وخيبة أمل وعدم استقرار اقتصادي، ومما ينجم عنه من عدم استقرار سياسي وقلقلة اجتماعية وتركز الثروات في أيدي القلة التي تستطيع بسط نفوذها. إذ أن نجاح الاقتصاد الحر في دفع الاقتصاد الكلي قدماً وفي رفع مستوى المعيشة لا بد أن يتأتى من خلال ضوابط وقيود ومؤسسات فعالة كنقابات العمال وصحافة حرة، لا بد ان تكون هناك مسؤولية ومرجعية مستمرة وفعالة. - خامساً، لا بد أن ننوه في الوقت نفسه إلى بعض ايجابيات العولمة، فلا شك ان الاتجاه نحو تخفيض القيود والضرائب الجمركية المفروضة على تدفق السلع والخدمات من سوق إلى سوق آخر سيؤدي إلى زيادة حجم التجارة الخارجية، مما يعود بالنفع على البلدان المتبادلة على رغم أنه من الطبيعي أن نذكر في هذا الصدد أن مكاسب التجارة الخارجية لا توزع بالتساوي بين تلك الدول المتبادلة، كذلك احترام والالتزام بقوانين حماية الملكية الفكرية وبراءات الاختراع قد تؤدي إلى نقل التكنولوجيا من بلد إلى بلد آخر وزيادة الاستثمارات بحثاً عن ظروف اقتصادية مشجعة ومؤاتية. وإنني في النهاية اعتقد ان ذلك التيار الجارف من العولمة سيستمر وسيتعمق بسرعة وشمولية حتى تحدث تصحيحات تاريخية ذاتية للآثار السلبية منها على رغم فداحة الثمن التي قد تتلازم مع تلك التصحيحات. كذلك اعتقد ان بلاد العالم الثالث لا بد أن تغير من سياساتها حتى تتمكن من الاستفادة من المزايا الايجابية للعولمة مثل جذب الاستثمارات والتركيز على القطاعات التي تتمتع بالمزايا النسبية حتى توسع من قاعدة صادراتها من خلال تلك العولمة. * استاذ الاقتصاد في جامعة جورجتاون.