يحتاج الإنسان في هذه الحياة إلى الأمن والاستقرار والخبز والحرية، وتحتاج الدول كذلك إلى الأمن والاستقرار والخبز والحرية كمقومات أساسية للوجود والتطور، وقد كان العالم منقسماً حول ترتيب الأولويات لهذه المعطيات التي تعتبر ركائز الديمقراطية في العصر الحديث، حيث شهدنا بعد الحرب العالمية الثانية نظاماً عالمياً جديداً ثنائي القطبية حيث قادت الولاياتالمتحدةالأمريكية المعسكر الرأسمالي في مواجهة المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي وقد تعدى الأمر وجود معسكرين يضم كل معسكر ترسانة أسلحة متطورة كما تعدى الأمر الحرب الباردة وتصادم السياسات إلى خلاف فكري عقائدي، وكما هو معروف فقد اعتمد الاتحاد السوفييتي النظرية الاشتراكية بالتركيز على الديموقراطية الاجتماعية لتحقيق المساواة ومحاربة التفاوت الطبقي بينما اعتمدت الولاياتالمتحدةالأمريكية النظرية الرأسمالية التي تقوم على الديموقراطية السياسية وما يتبعها من حرية تجارة وأسواق مفتوحة.. وبعد سقوط المعسكر الاشتراكي اندفعت الولاياتالمتحدة في العمل على صهر العالم في بوتقة واحدة تحت شعار العولمة في ظل أحادية قطبية. ويحذر كثيرون من تغول الرأسمالية خاصة في زمن الحروب الوقائية التي يعتبرها البعض هدما لأسس العولمة التي يفترض اعتمادها على الوسائل الاقتصادية لتحقيق أغراضها ضمن توافق عالمي تدريجي، ويشهد العالم بين حين وآخر احتجاجات وحالة اصطفاف بين التيارات الشعبية لمناهضة العولمة عل هامش انعقاد اجتماعات البنك الدولي، كما يشهد العالم تفاعلات شعبية في كل مرة ينعقد فيها المنتدى الاقتصادي في «دافوس» ويعتبر البعض ان المنتدى الاقتصادي العالمي الذي أسسه في سويسرا «كلاوس شواب» قبل 23 سنة هو المعبر الحقيقي عن سياسة العولمة، خاصة ان العالم الرأسمالي يضع كل ثقله وراء استمرارية ودورية انعقاد اجتماعات هذا المنتدى سنويا، ويمكن القول إن هذا المنتدى هو أبرز منبر تجري فيه المرافعات وتسلط فيه الأضواء على سلبيات العولمة وعلى الاختلالات الاجتماعية والتفاوت بين الدول، ورغم المشاركة الواسعة من قبل بلدان العالم وحضور رؤساء وشخصيات بارزة من العالم النامي إلا ان ذلك لا يغير في جوهر سياسات المنتدى في خدمة «العولمة» مع أن رئيس هذا المنتدى «كلاوس شواب» يؤكد ان هذا المنتدى الاقتصادي يطور عمله ليكون له ضمير اجتماعي. وهنالك أكثرية في العالم لا تؤمن بإمكانية خلق مضمون اجتماعي للمنتدى الاقتصادي وهي أكثرية لا حول لها ولا قوة ولكنها ترفع صوتها بالاجتماع والمظاهرات في كل مرة تنعقد فيها اجتماعات منظمة التجارة العالمية او اجتماعات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، واختارت قوى طليعية أخرى أن ترد على المنتدى الاقتصادي بأيجاد منتدى اجتماعي ومع ان هذا المنتدى لا يستند إلى قوة عظمى مثل أمريكا إلا انه يلفت الانتباه إلى أن تغول الرأسمالية سوف يضرب ما تبقى من توازن سواء داخل المجتمعات المحلية أو التوازن بين الشمال والجنوب، ومع تزايد التفاوت بحيث أصبحت هنالك أقلية لا تزيد على 5% تملك أكثر مما تملكه نسبة ال 95% من البشر ويكفي أن نشير إلى إحصائيات الأممالمتحدة التي تؤكد أن أغنى 230 شخص في العالم يملكون أكثر من 3 مليارات هم الأفقر في العالم. ويكفي أن نتوقف عند الشعار الذي يرفعه المنتدى الاقتصادي في دافوس كل عام وهو «لا تنمية اقتصادية مستدامة من دون أمن، ولا أمن في عالم يضم بلداناً غير مستقرة ولا مزدهرة ولا تتوقع الازدهار» لكن المفارقة هي ان الأمن لا يصنع بالقوة العسكرية والاستقرار لا يتحقق مع تزايد الاختلافات الاجتماعية ولا بديل عن العدالة وملامسة هموم الجائعين والبائسين ، ومراعاة حريات الأوطان وسيادتها إلى جانب حريات الإنسان وكرامته، ولا بد من توقف الصراعات ونزعات الشر والرغبة في الهيمنة والسيطرة ونهب ثروات الآخرين أو احتلال أوطانهم أو تعريضهم للضغوط ولا بد أن يتوقف الجشع والاستئثار بالثروة من قبل دول تعتقد أن القوة هي السبيل الوحيد لحكم العالم بالرغم من أن تجارب التاريخ أثبتت أن السياسات العنصرية أو سياسات التسلط عبر القوة لا تخدم الإنسانية ولا مستقبل البشرية. ومنذ بدايات القرن الماضي تعالت الأصوات التي تحذر من الأخطار المترتبة على بناء عالم مادي بحت حيث كان الاستعمار الغربي لدول العالم الثالث أحد أبرز تجليات الرأسمالية التي جعلت من المصالح الاقتصادية كما أشرنا ايديولوجية وعقيدة تبنتها دول العالم الصناعي لتثبت أقدامها في حلبة صراع المصالح، وقد ترتب على ذلك صراعات وحروب أبرزها وقوع الحربين العالميتين الأولى والثانية في النصف الأول من القرن الماضي. وكما هو معروف فان الحرب الباردة كانت صراعاً بين الديمقراطية الغربية عبر الحرية السياسية والاقتصادية كعنوان للرأسمالية وبين الديموقراطية الاجتماعية كعنوان للاشتراكية، وقد شكل الانتصار الحاسم للرأسمالية نقطة انطلاق لنشوء العولمة وبالرغم من الشعارات البراقة للعولمة مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية والحريات العامة فان الاختلالات الاجتماعية التي تسببت بها حرية التجارة وآليات السوق قد زادت الفجوة بين الأغنياء والفقراء في العالم، وقد شهدت الأعوام الأخيرة زيادة نسبة الفقراء والمعوزين بشكل واسع، وقد حدث كما أشرنا تفاوت مرعب بين الأغنياء الذين لا يمثلون إلا نسبة ضئيلة وبين الفقراء الذين يمثلون الأكثرية الساحقة وهنالك تفاوت بين دول الشمال وبين دول الجنوب..، ،كما هو معروف فإن المنتدى الاجتماعي الذي تأسس قبل عشر سنوات كان محاولة للاحتجاج عل التغول الاقتصادي على حساب الاجتماعي لكن هذا المنتدى الاجتماعي لا يمتلك أية قدرات عسكرية أو سياسية إلا أن الشخصيات العالمية البارزة التي تشارك فيه تريد أن تقول إن الضمير الإنساني لا يموت وإن الحياة لا يمكن أن تكون مادية بحتة، ولا يمكن أن يستمر اكتساح الرأسمالية المتوحشة للعالم على هذا النحو الذي يستند إلى مبدأ الدارونية التي تقول إن البقاء للأفضل أو للأقوى، فلا بد من الإيمان بأن الخبز والحياة الحرة الكريمة هي حق لكل إنسان لأن ذلك هو المقياس الحقيقي للتقدم والرقي الإنساني وهو الركيزة الوحيدة للاستقرار والأمن والسلام لكن كما يقول الأستاذ سيد ياسين: «المناداة بالعدالة الاجتماعية لن تحل المشكلة لأن المطلوب من كافة المثقفين النقديين في العالم هو ممارسة الإبداع الأصيل لصياغة بدائل واقعية وفعالة لسياسات العولمة الاقتصادية». وهذه البدائل لا ينبغي أن تصاغ في إطار التعبير الانقلابي للنظام الرأسمالي الراهن فذلك اتجاه يبدو غير واقعي ولكن في مجال تعديل عدد من المواد المجحفة في معاهدة منظمة التجارة العالمية وهو المجهود الذي تقوم به مجموعة ال 15 والتي تحاول من خلال تشخيص سلبيات العولمة تقديم بدائل واقعية. ويقول الأستاذ ياسين: «إذا استعرضنا المحاولات النظرية التي تهدف إلى تغيير الممارسات الرأسمالية الراهنة التي تتم في إطار العولمة يمكن أن نجد نظريات تحاول من خلال تفكير اقتصادي ثوري تغيير الطبيعة الأصلية للنظام الرأسمالي الراهن». ولعل خير ما يعبر عن هذا الاتجاه التنظيري الذي مارسه عبر سنوات طويلة أستاذ اقتصادي امريكي بارز هو مايكل البرت في إطار مشروع الاقتصاد التشاركي Participatory Economies والذي يرمز له بكلمة «بارايكون» (ParEcon) وهي المقاطع الأولى لكلمة الاقتصاد التشاركي بالإنجليزية. وهدف البروفيسور البرت بكل بساطة هو تأسيس علم اقتصاد جديد يحل محل الاقتصاد الرأسمالي ويقوم على عدة قيم أساسية هي المساواة والتضامن والتنوع والإدارة الذاتية التشاركية. وفي تقديرنا أن هذا المشروع النظري الطموح والذي يشارك فيه عديد من المنظرين الاقتصاديين الأمريكيين لن يقدر له النجاح لأنه تقف دونه عقبات مؤسسية كبرى بالإضافة إلى شراسة الدول الرأسمالية في الدفاع عن مكاسبها الرأسمالية المهولة التي تجنيها من سياسات العولمة الاقتصادية. غير ان ذلك لا ينبغي أن يحول دون أن يكون موضوع مناهضة العولمة الراهنة وما تمثله من هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية على رأس جدول أي حوار جاد بين الثقافات.