ثنائية الشعر - الغناء ثنائية اشكالية حافلة بالأسئلة والحذر والممانعة، بل ان مجرد جمع هذين الأقنومين في ثنائية قد يرفع حاجباً ويثير همهمة ويوجه اتهاماً. لكن هذه الثنائية المضضية حافلة بالمعاني والدلالات، اذ ليس الغناء اليوم ضحية الكلمة السطحية والخفيفة والدُرجات المتجددة كل عام أو كل بضعة أعوام، ولا الشعر ضحية برج عاجي أو جهاد شخصي في دهاليز الأنا وبؤر الغموض، بل ان في أساس توجه كل منهما مسلمات أساسية راسخة ومنطلقات معرفية تقف على طرفي نقيض تقريباً. وموقفاهما هذان، على نقيض ما يعتقد الكثيرون، طارئان وجائران وخاليان من الأفق وبياض الأشرعة. الغناء يهتم المغني أساساً باليومي والهامشي، انه يلاحق بلا هوادة، وبحرارة خافقة اللحظات الحميمة، الشخصية والعامة في الآن نفسه لدى الأنا الجماعية. انه يستبعد أناه كلياً الا ما حفلت به من قواسم مشتركة مع الأنا الجماعية، فنراه يعنى بالحب والعشق وألم الفراق واللوعة والاشتياق والحزن لفقد الحبيب والأسى لخيانته. انه يرفع السعادة شعاراً له، فإما أن يغني سعيداً بأجنحتها اللامعة في السماء الزرقاء، وإما أن يندب حظه التعيس الذي حرمه من واحة الأمل ورفيف الحلم. ويبدي المغني مرونة ملحوظة، فنراه يعرج على القرية وعيشها "الهنيء"، وعلى الوطن وجناته الممتدة على مد النظر. وعندما التهب هذا الوطن وخيّم التوتر على الواقع الذي دأب على التحليق فيه، غنى الأغنية الحماسية والنضالية والثورية، وامتشق الكلمة المعبّرة عن الثورة والرغبة في القتال والاستشهاد والنصر. وعندما انتهت الحرب الأهلية انكفأ عائداً الى أحاسيس الأنا الفردية الجماعية وخلجاتها يغني لها الفرح والبهجة، في ما اعتنى بعض المغنين ببؤس الطبقات الشعبية فخصوها بأغانٍ تعبر عن حسرة هذه الجماهير وشعورها بالغربة في العيد الذي يعبر، لا ليحمل الفرح، بل ليذكر بالتعاسة، ويعكس ببريق لامع باهر للعيون تفاوت الحلم والواقع، الحزن الرازح والسعادة المتفلتة. والمغني، في جميع هذه الدروب الغنائية، يستفيد، بشكل كبير ومؤثر من كل معطيات العصر، من وسائل الاتصال المسموعة والمرئية، فيهتم بالتلفاز وآلة التسجيل والمذياع والفيديو، ويسجل الأشرطة الصوتية كاسيت والأشرطة الصوتية البصرية كاسيت فيديو/ فيديو كليب كما يعنى بالأفلام السينمائية، ويسعى الى خشبة المسرح، وهو الآن يهتم باقتحام العاقول ]أي الكومبيوتر - ونشير الى أن التسمية العربية الحاسوب ما عادت تتلاءم مع الأجيال الجديدة والمستقبلية من الكومبيوتر[. واللافت أيضاً أن هذا المغني حرص على الخروج لجمهوره في أفضل حلة ممكنة، فسعى الى أن يكون في مظهر الشخص الأنيق والمترف، وتأنق ما وسعه ذلك، وبالغ أحياناً، وبخاصة المغنيات، في تلك الأناقة والرشاقة، وخرج بالتالي أمام جمهوره في صورة الإنسان الناجح والسعيد الذي اقتحم الحياة المعاصرة خير اقتحام، ففاز بمباهجها وتنعم بإمكاناتها. ولعل هذه الحقيقة هي سبب هذا الاقبال الكثيف على برامج الهواة التلفازية التي تخرج المطربين الواعدين، وبالتالي تفتح أمامهم دروب غدٍ مشرقة. فالمغني إذن يرى أن تحركه الأساسي هو باتجاه الجمهور، ومعه وبه، وأمنيته الكبرى الأغنية التي تضرب الأرقام القياسية أي التي تعجب أكبر عددٍ من المستمعين. وسعادته الغامرة أن يلح الجمهور في طلب أغنية له لم يغنها، أو طلب اعادة غناء أغنية فرغ من أدائها، انه يرى طريقه تمضي قدماً بفضل هذا الجمهور ولذلك يحرص على اثارته ودفعه الى الغناء معه وترداد المقاطع الغنائية كي تنعدم الهوة بينه وبين المستمع. ويتحد الاثنان في شفافية الأغنية ومتعتها، لذلك لا يعتبر الشريط المسموع الكاسيت هدفاً بذاته، ولا يرى الشريط المسموع - المرئي الفيديو كليب وحدة قائمة مستقلة، بل يراهما وسيلتين إضافيتين الى قلوب المستمعين وركنين أساسيين في تنمية جمهوره. فالمغني لا يتوجه الى مستمع منفرد بل الى الجمهور العريض، ولا يطلب من أي مستمع جهداً أو فكراً، بل نراه على العكس من ذلك يقصّر الأغنية، ويتوسل اللحن الغني بالموسيقى المطربة والكلمة التي تدغدغ وتناغش بسرعة وتنسجم تماماً مع ايقاع الحياة السريع. الشعر وعلى النقيض من ذلك تماماً، تقريباً، نرى الشاعر يهتم بالمصيري والنهضوي والأساسي، فيتطلع الى الأنا الجماعية من خلال أناه الفردية المتمردة والمتألمة، يود أن يجر الجميع الى المستقبل الأفضل والغد الزاهر. فإذا نظر الشاعر الى الحبيبة لم يرها مجرد امرأة عاشقة، بل رآها تمثل الأرض والثورة والوطن المدمى والغد المنتظر. انه يغرق في الجانب المأسوي، ويثور على الواقع الراهن في سبيل الخلوص الى المستقبل المتمنع والمتفلت باستمرار، فيرى نفسه السندباد الذي يبحر في الأخطار بحثاً عن حجر التفوق وبلسم الأيام الهانئة، ويرى نفسه الفادي الذي جاء ليحمل تعاسة العالم ويفدي بنفسه خطاياه ويحمل أوزاره. ونراه يتقمص شخصيات الشعراء الصعاليك والمتمردين والآبدين وتفوح في قصائده روائح الدم والعفن والموت وترتفع أشعة الشمس وأجنحة الفينيق. لذلك لا يتطلع الشاعر الى ما يرضي الجمهور، بل يلاحق الإبداع، أي ما هو ضروري للحضارة والرقي، وهو لا يسعى الى النجاح الجماهيري بل الى البطولة الفادية، لذلك نراه يتأبد في مسيرته الشعرية بل وفي أموره الشخصية أحياناً، في مظهره الخارجي أو سلوكه الشخصي، أو ثيابه المفضلة أو الكتابة التي يعتمدها، ويراها جميعها من متممات الشعر الحق، ومن الملامح الأساسية في مسيرته الشعرية. انه لا يهتم بأن يعجب بل يود ان يصدم، لا يريد ان يسلي بل أن يوقظ، أن يفتح الأعين على الحقيقة المستترة. انه لا يريد بريق النجاح الجماهيري بل بريق الكفاح. انه ينادي بالثورة في اللغة وفي الوزن وفي الصورة الشعرية وفي المعنى وفي الدلالة ويرفض الراهن ويراه حافلاً بالتخلف وحارساً للركاكة المتفشية في أوصال المجتمع. لكن المفارقة الكبرى في مسيرة الشاعر أنه يدعو الى الحداثة وما بعد الحداثة والنهضة والثورة والخروج على التخلف الذي يرخي بثقله على المجتمع وحركيته، لكنه يصر على اعتماد وسيلة واحدة تكاد تصبح متخلفة، وهي الكتاب أو الكلمة المقروءة، فنراه يأنف من التلفاز والأشرطة المسموعة والأشرطة المسموعة/ المرئية، مع أنها لا تتناقض مع السماع المنفرد المتمعن والقراءة الفعالة لا المنفعلة. انه لا يهتم بالتلفاز والسينما والمسرح، بل ان عدداً ساحقاً من الشعراء يفضل القارىء المنفرد المتمعن ويحذر من المنبر الذي يتطلع اليه المغني بشوق ويجول فيه راقصاً بفرح وغبطة. الشاعر يعادي، وهنا بؤرة المفارقة وطعنة الدهشة، كل وسائل الاتصال التي انتجتها الحداثة التي يدعو اليها. وليس هذا المنحى محكوماً بقدرة مالية أو إمكانات تسويقية لا يملكها الشاعر، فهو لا يظهر اساساً اية قناعة أو أقل اشارة الى استعداده للاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة. وهو إذ يريد تثوير المجتمع وقيادة الجماهير، يضيق ذرعاً، أحياناً كثيرة، بهذه الجماهير، فمن الشعراء من رفض بإصرار القاء قصيدة له طلبها الحضور بحجة انها خطابية أي غير ابداعية، ومنهم من يطلب من القارىء تخصيص وقت طويل لقراءة القصيدة، وهو أمر ما عاد ينسجم مع ايقاع الحداثة ولهاث الحضارة اللتين يتوخاهما وتهف نفسه اليهما. فلا عجب ان نرى الشاعر يمثل للجمهور المعاناة بأقسى صورها، ونكد العيش ومرارة الحلم وعناد البحث عن أفق يفر أمام أقدامنا باستمرار. ولعل من الأمور البالغة الدلالة ما صرح به أكثر من شاعر من أنه زجر أولاده عن سلوك طريق الشعر وجلجلته! طلاق المحبين هذه الثنائية المضضية تكشف تناقضاً عميقاً لم يشهده أي عصر من العصور بين الشعر والغناء، فالشاعر الجاهلي الأعشى اعتمد الموسيقى في القاء شعره وعرف بصناجة العرب. وفي العصر الأموي، التصق الشعر بالغناء التصاقاً حميماً بحيث ترك كل منهما أثره واضحاً في الآخر، وقيل ان طويس المغني الذي اشتهر في ذلك العصر كان أول من صنع الهزج والرمل. وفي العصر العباسي كان المغنون الكبار أمثال زرياب الذي أضاف وتراً خامساً الى العود وطوّر ريشته فجعلها من قوادم النسر بعد أن كانت تصنع من الخشب، والأمير إبراهيم بن المهدي، وإسحاق الموصلي، يحسنون نظم الشعر، بل ان واحداً من أهم مصادر الشعر العربي، وهو كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، وُضِع أساساً لتسجيل أهم مئة صوت أي أغنية في العصر العباسي. وكانت هذه الأغاني جميعها مستلة من شعر الشعراء الفحول بلغة الأصمعي أو الشعراء المبدعين بلغة عصرنا الحالي. وكانت الجواري اللواتي طبعن العصر بطابعهن يتقن الغناء ويحفظن العديد من القصائد والأبيات الشعرية، وبعضهن عُرف باتقان نظم الشعر كعنان جارية الناطفي ودنانير جارية البرامكة وعريب جارية المأمون وغيرهن. وقد بارى بعضهن الشعراء، ليس في نظم الشعر فقط، بل في ارتجاله والاتيان بجيّده وأتمّه. ولعل غرام الشاعر ابن الرومي بالمغنية وحيد يلخص تلك العلاقة الحميمة القائمة بين الشعر والغناء. وفي الأندلس ترك الشعر أثراً هائلاً في الشعر العربي والأوروبي، فأسهم في ولادة الزجل والموشح، وفي ظهور "التروبادور" الذين حاكوا، كما يقول المؤرخ فيليب حتي، المنشدين العرب في كل شيء تقريباً، كما كان بعض العناوين التي أطلقها شعراء البرو÷نسال على مقطوعاتهم الغنائية ترجمة لعناوين عربية. وفي العصر الحديث عني بعض المغنين بجيد الشعر كسيد درويش ومحمد عبدالوهاب، وعرف الشعر/ الغناء قمتين كبيرتين، الأولى مع أم كلثوم والثانية مع فيروز، فامتزج الاثنان في وحدة كاملة متكاملة كان لها دوي هائل ولا يزال. إن هذا التناقض الحالي في ثنائية الشعر/ الغناء هو تناقض طارىء ومفتعل وحرون، فالشاعر يأخذ على الأغنية خفتها وضحالة طاقة الكلمة فيها لكنه لا يحاول أبداً النظم للغناء بل يترك ذلك لمن عرف بالنظم للغناء. كما أنه لا يحاول الإبحار في عالم الموسيقى مع أنه يرفض أوزان الخليل ويتطلع الى ثورة في الوزن تتلاءم مع معطيات العصر الحالي وآفاق الحضارة التي يود ارتيادها. فكيف ينجح في مسعاه بعيداً عن اتقان الموسيقى أو الإلمام بها بشيء من التعمق؟ ولا بد من القول ان شعر التفعيلة وإبادة القافية أو تنويعها العشوائي لا يمكن اعتبارهما ثورة ايقاعية بديلة لأوزان الخليل بل هما مجرد تبسيط أو مخرج سهل لأزمة الحداثة الإيقاعية في الشعر العربي. ولا بد من طرح سؤال جوهري في هذا المجال، ولا يمكن أن يجيب عنه إلا عالم في الموسيقى. إذ من المعروف أن الموسيقى تقوم على التناغم والانسجام، وعرف عن بعض الموسيقيين الكبار كموزار كتابته النوتة الموسيقية رأساً على الورق، وليس اثر عزف على آلة موسيقية، فثمة هندسة هنا شبيهة بالهندسة الرياضية. فهل شعر التفعيلة الذي يجعل في سطر تفعيلة واحدة وفي سطر آخر تفعيلات عدة ومن دون اي ترتيب منظم للقافية، يحافظ فعلاً على الانسجام الموسيقي؟ بمعنى هل هو صحيح المنطلق من الناحية الإيقاعية؟ لقد أثار العديد من النقاد والشعراء العواصف في وجه قصيدة النثر، لكن أحداً لم يتوقف عند هذه المسألة الإيقاعية في شعر التفعيلة، وهي مسألة تحتاج الى بحث جدي وتمعن مجد. أما المغني الذي كان يختار دائماً أغانيه من عيون الشعر، فإنه اليوم يرمق الشاعر بشيء من الريبة والضجر إذ لا يجد، إلا نادراً، ما يصلح للغناء، وهو يسعى بجدية الى اتقان الموسيقى والتلحين لكنه لا يسعى خلف الكلمة الشعرية. ونكاد نفتقر اليوم الى المطرب الشاعر الذي يقرأ الشعر وينظمه. وليست المسألة هنا عدم وجود موهبة شعرية لدى المغني، إذ أننا لا نلمح سعياً ولا محاولة ولا غراماً بالشعر الذي قد يكون من أهم أركان الأغنية ان لم يكن اهمها على الإطلاق. فتناقض ثنائية الشعر/ الغناء أشبه بطلاق المحبين، وفي عودة وفاقهما واتفاقهما فائدة وإفادة، وحتماً وثبة جديدة وثابتة في دروب الواقع وآفاق الغد. * كاتب لبناني