ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    العدالة والتنمية.. وجهان لعملة المحاماة الحديثة    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    مترو الرياض    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    ورشة عمل لتسريع إستراتيجية القطاع التعاوني    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    أوروبا تُلدغ من جحر أفاعيها !    المرجع حسين الصدر ل«عكاظ»: ندعم تنامي العلاقات السعودية العراقية    استشهاد العشرات في غزة.. قوات الاحتلال تستهدف المستشفيات والمنازل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    رينارد يُبرر مشاركة سالم الدوسري ونواف العقيدي    دراغان: مشاركة سالم الدوسري فاجأتنا وكنّا مرهقين    أوسيك يحافظ على ألقابه ويبقى بطلاً للوزن الثقيل بلا منازع حاصداً 5 أحزمة تاريخية    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية في النواحي التشريعية والقانونية يقودها ولي العهد    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    القصيم تحقق توطين 80% من وظائف قطاع تقنية المعلومات    رحلة تفاعلية    المنتخب العراقي يتغلّب على اليمن في كأس الخليج 26    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية "أرويا"    المدينة المنورة: وجهة استثمارية رائدة تشهد نمواً متسارعاً    مشاهدة المباريات ضمن فعاليات شتاء طنطورة    وزير الداخلية يبحث تعزيز التعاون الأمني ومكافحة تهريب المخدرات مع نظيره الكويتي    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    39955 طالبًا وطالبة يؤدون اختبار مسابقة "بيبراس موهبة 2024"    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    الأمير فيصل بن سلمان يوجه بإطلاق اسم «عبد الله النعيم» على القاعة الثقافية بمكتبة الملك فهد    السعودية تستضيف غداً الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    جمعية المودة تُطلق استراتيجية 2030 وخطة تنفيذية تُبرز تجربة الأسرة السعودية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير الشرقية يفتتح المبنى الجديد لبلدية القطيف ويقيم مأدبة غداء لأهالي المحافظة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    المملكة ترحب بتبني الأمم المتحدة قراراً بشأن فلسطين    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمود درويش في "سرير الغريبة". قصائد حب تنطلق من ذاكرة التاريخ لتحتفي باللغة والشعر
نشر في الحياة يوم 17 - 12 - 1998

إذا مثلت المرأة في بعض قصائد محمود درويش رمز الأرض في وصفها رحم الولادة والموت فهي مثّلت أيضاً صورة الحبيبة في أحوالها المتقلّبة تقلّب الفصول. وغدت المرأة في معظم قصائد الشاعر تماثل الأرض تماثلاً شبه أسطوري، وغدا الحبّ استرجاعاً للحنين الأول، الحنين الى الأرض الغائبة، وهو في وجه من وجوهه حنين الى الأم التي ترمز الى بداية التكوين. وارتبطت الصورتان الحبيبة والأرض واحدتهما بالأخرى ارتباطاً حلمياً حتى أضحت الأولى صدى للثانية والعكس أيضاً. وكان لا بدّ للحبيبة أن تنتحل بعض مواصفات الأرض المفقودة وكان على الحبّ أن يتشح بحزن المنفى وكآبة البعاد وأن ينهض كنشيد مجروح يؤدّيه الشاعر العاشق بصوت مهما ارتفع يظلّ هادئاً من شدّة ما يحمل من أسى.
وطوال سنوات ظلّت المقابلة بين الأرض والحبيبة وبين العاشق والوطن مدخلاً شبه متاح للدخول الى عالم محمود درويش المتعدّد، وأصبح الكلام عن هذه الثنائية في شعره أشبه بالمقاربة الجاهزة والسهلة. غير أنّ قصائد الشاعر المتوالية عبر المراحل التي اجتازها راحت تعمّق هذه العلاقة بين الأرض والحبيبة لتحرّر الثنائية من مبدأ التقابل صاهرة الأرض والحبيبة في صورة واحدة بل في كينونة واحدة. وأضحت القصائد اللاحقة التي كتبها درويش برهافة كبيرة وشفافية قصوى وشعريّة عالية قصائد حبّ لا تتحرّر من أسر التاريخ إلاّ مقدار ما يُغرق في استيحائه. ومن مرحلة الى مرحلة أصبح شعر درويش رمزيّاً بامتياز من دون أن يتخلّى عن رمزيته. أصبح شعره سليل الرؤيا التي تعيد خلق التاريخ والواقع داخل رحم الرغبة والحلم، أصبح شعر محمود درويش شعر القضية ولكن بعدما حرّرها من معانيها الجاهزة ليرتقي بها الى مصاف الإبداع الجماليّ والوجدانيّ الصرف. ومن يقرأ نتاج درويش في مراحله المتعاقبة يلمس يقيناً حركته المتصاعدة أبداً والتحوّلات التي طرأت وتطرأ عليه لا لتتيح للبدايات أن تناقض النهايات وإنّما لترسّخ الصنيع الشعريّ في الزمن المأسوي المتنامي وهو زمن الأزمنة المختلفة: زمن الماضي والحاضر، زمن الأرض والمنفى، زمن الحنين والحبّ.
قد يكون ديوان "سرير الغريبة" كتاب حبّ أوّلاً وأخيراً. فهو من مستهلّه الى قفلته الأخيرة أقرب الى النشيد العشقي الواحد المتقطّع ظاهراً الى سلسلة من القصائد. وقد توزّعت بعض المقاطع الشعرية الى ما يشبه الحواريّة بين الحبيبة والحبيب. قصائد حبّ يكتبها الشاعر لا ليعلن عشقه أو "يتغزّل" بامرأة أو يغنّيها مغنّياً عبرها حبه لها وإنّما يكتبها بحثاً عن المعنى الأعمق للعشق وإيغالاً في أسراره كحال وجدانية ووجوديّة. لم تبق قصيدة الحبّ هنا وقفاً على العلاقة بين الشاعر والحبيبة ولا رهنّ حضور المرأة أو غيابها بل أصبحت قصيدة مكتفية بذاتها وأصبح الحبّ سراً من الأسرار التي لا تختلف عن الشعر نفسه. لم يبق الحبّ موضوعاً بل أصبح ذاتاً في تجلّياتها المختلفة. هكذا يبتعد محمود درويش أكثر فأكثر عن الغزل كما عرفه العرب وعن المعطيات التي قامت عليها العلاقة بين الحبيبة والوطن، بين المرأة والأرض ويؤسس مناخاً عشقياً تندمج فيه الغنائية العميقة بالرؤيا والرمز ويتحرّر فيه التاريخ من تاريخيّته والواقع من واقعيّته. هنا يمسي الشعر فعل معرفة تجمع بين العقل والحدس وفعل اختبار يرتكز الى الذات المشبعة بالأسئلة والشجون: "لا حلول جماعية لهواجس شخصية" يقول الشاعر. غير أنّ الذات الفردية تظل مرآة للذات الجماعية مهما أوغل الشعر في عزلته وانغلق على أسراره. تبقى الذات الجماعية كالتاريخ والأرض مثلاً خلفيّة ولو شبه غائبة يستند اليها الشعر لينطلق نحو فضائه الجمالي والغنائي الخاصّ.
ولئن عرف محمود درويش في كونه شاعر المنفى في معناه السياسيّ والجغرافي والوجودي فهو ما برح شاعر المنفى بامتياز حتى وان عاد الى ما "توافر" من أجزاء أرض ووطن. لكنّ منفاه الحاليّ لم يبق محصوراً ببعده عن الأرض الأولى بل هو تلاشى، ولكن من غير أن يتحقق حلم العودة كاملاً أو حلم الإقامة. بل ان المنفى في تلاشيه الظاهر جعل الحياة نفسها منفى بل حوّل العالم الى منفى بذاته "ان نظرت وراءكِ لن تبصري غير منفى" يخاطب الشاعر امرأته معرباً لها بأسى ان غرفة النوم وصفصافة الساحة والنهر والمقهى "كلّها كلّها تستعدّ لتصبح منفى". لكنّ الشاعر لن يلبث أن يسائل نفسه عن حاله بعد زوال منفاه، مدركاً أنّ لا شيء سيرجعه الى أرضه "لا السلام ولا الحرب": "مَن أنا دون منفى؟"، يسأل من غير أن يجيب فهو يعلم جيّداً أن مأساته الذاتية والجماعية تكمن الآن في حال التناقض التي يحياها: حال العودة واللاعودة، حال الإقامة والنفي. وفي حين يصبح العالم كلّه منفى يبحث الشاعر عن منفاه فلا يجده: بات المنفى من شدّة طغيانه غريباً عن المنفى وحياة الشاعر التي "صنعتها القوافل وانصرفت"، لم تبق تشبه الحياة فالحاضر عابر والغد "فوضوي". ويسأل الشاعر امرأته أيّ منفى تريد إذ لم يبق كافياً أن يكونا معاً كي يكونا معاً كما يعبّر ويقول: "كان ينقصنا حاضر لنرى". غير أنّ الحبيبة سرعان ما تحلّ محلّ المنفى الحاضر والغائب في الحين عينه. بل هي ستعوّض نهوضه وانهياره مذ أصبحت هي المنفى واللامنفى، الإقامة واللاإقامة، إنّها المرأة الغريبة، الشعر سريرها وجسدها سرير عاشقها الغريب بل مسكنه مثلما تقول أو يقول الشاعر على لسانها: "واسكن معي جسدي". إنّهما غريبان كلاهما لا لأنّهما بلا أرض ولا منفى فقط وإنّما لأنّهما "واحد في اثنين"، كما يعبر الشاعر مضيفاً: "لا اسم لنا يا غريبة عند وقوع الغريب على نفسه في الغريب". يصبح الشاعر "أغرب الغرباء" بحسب عبارة أبي حيّان التوحيدي في كلامه عن غربة "الداخل". فهو يكتشف غربته في غربة الآخر وهي غربته نفسها. والآخر هنا هو الحبيبة متوحّدة في الحبيب ومنفصلة عنه في الآن نفسه فهما واحد في اثنين أو اثنان في واحد.
ويمعن الشاعر في استيحاء مقولة رامبو الشهيرة "الأنا آخر" بل هو يعيد صوغها وفق ما يتراءى له ووفق انصهاره بامرأته وانفصاله الأليم عنها: "هل أنا أنتِ أخرى وأنتِ أنا آخر؟" يسألها، وعوض أن يعلن الشاعر رغبته في الاتحاد بامرأته يجاهر بالثنائية "الأبدية" والانفصال كأن يقول: "ينقصنا أن نعود الى اثنين كي نتعانق أكثر". إنّها الأسطورة الاغريقية القديمة، أسطورة الإله زوس الذي فصل الكائن المزدوج بعضه عن بعض، يستعيدها الشاعر ليعبّر عن ظمأه الى الحبّ ليس عبر الانصهار في الحبيبة انصهاراً كلّياً وإنما عبر الانفصال عنها. غير أنّ الانفصال هنا هو مثيل الانصهار فهو حافز على الحبّ وعلى المزيد من الحبّ. والظمأ الى الحبّ هو "ظمأ الى الكمال"، يقول أوكتافيو باث في كتابه الرائع "الشعلة المزدوجة". ويضيف "من دون الآخر الأخرى لن أكون أنا ذاتي". فالآخر يكمّل الأنا أي يكمّل الحبيب الحبيبة والعكس حين يتوحّدان عبر انفصالهما وحين ينفصلان بُغية أن يتوحّدا. فالآخر يصبح الأنا وتصبح المرأة الرجل ويصبح في امكان الاثنين أن "يفكّر" أحدهما "بدل الآخر" كما يعبّر أفلاطون في "المأدبة". وآنذاك تشكّل "الرغبة والمطاردة ما يُدعى الحب" بحسب رولان بارت في كتابه الشهير "مقاطع من خطاب عشقيّ". أما الشاعر الذي لم يشأ الحب اتحاداً بالحبيبة طمعاً بحبها في الانفصال عنها وعن الوحدة الخنثوية فيمدح "المثنّى" كحال عشق بين اثنين هما متحدان ومنفصلان: "فليكن نزولكِ نون الأنا في المثنى". فالشاعر والمرأة هما إثنان وواحد، واحد يحن الى الآخر حنينه الى نصفه المفقود أي الى اكتماله الذي لا يتمّ إلا في لحظة العشق القصوى. "إذا لم يكن الكلّ في اثنين فما جدوى الفراغ إذاً؟"، يسأل بارت في كتابه نفسه. ينفصل الشاعر عن جزئه الآخر ليراه وينظر اليه ويحبّه فهو يحتاج اليه كي لا يكون وحيداً بل كي لا يكون وحيداً إلا به.
وغير أنّ الشاعر لا ينفصل عن الحبيبة إلا ليمنحها فعل الأعجوبة، لينظر اليها بدهشة، ويرى نفسه فيها ويعيش نعمتها: "أنا مَن رأى غده إذ رآك". فالمرأة مستقبل الرجل كما يقول بول اليوار وذراعاها من حوله "بلاد حقيقية" وحيث تكون "يجلس الليل" ليلها الليلكيّ: "ليلكِ من ليلكٍ"، يقول الشاعر. ولا يغالي إن منح نظرتها فعل السحر كأن "تكسر كأس النبيذ وتشعل ضوء النجوم". أمّا غموضها فهو "درب الحليب"، غموض مضيء ونقيّ كليلها الذي "ينثّ غموضاً مضيئاً على لغتي". ويبلغ أثر الحبيبة شأوه حين يجعلها الشاعر في مصاف آخر ما قاله البارىء في حلمه وقد رآهما الشاعر نفسه "وكان الكلام". وفي إحدى القصائد يدعوها لأن تبتسم كي "يزهر اللوز أكثر".
قد لا يبالغ الشاعر في إسباغ مواصفات السحر على امرأته فالحبيبة كما علّمنا السورياليون هي امرأة ساحرة قادرة على الغاء الثنائيات وعلى جمع المتناقضات. إنّها المرأة الطالعة من الحلم طلوع أفروديت من صدفة البحر نقية وعذبة: "لتكن الأرض ما تومئين اليه"، يقول الشاعر مشيراً الى الأرض الجديدة التي تبتدعها الحبيبة باستمرار. وليس من المستغرب أن يتخلّى الشاعر العاشق عن فرسه كفارس عربيّ استسلم الى سطوة العشق. فالبطولات القديمة انتهت والفتوحات الغابرة آلت الى هزائم كثيرة، ولم يبق أمام الفارس العاشق إلا الحبّ بعدما فقد رجاءه وآماله. "أنت، لا هوسي بالفتوحات، عرسي..." يقول الشاعر جهاراً. ويضيف: "خذي فرسي واذبحيها لأمشي مثل المحارب بعد الهزيمة". ومن شدّة استسلامه أمام سطوة الحبيبة يعترف لها أن "دبوس" شعرها يكسر سيفه وترسه. إلا أنّ الشاعر - الفارس الذي انتصر "بيأسه" كما يقول سوف ينتصر بالشعر لنفسه وللحبيبة وللحياة والعالم معاً. والشعر المنتصر سيكون غناءً صرفاً، غناء مجروحاً ومألوفاً، غناء صافياً كلّ الصفاء، غناء ذاتيّاً هو "جوهر الشعر" بل جذوته الخفيّة، هو الشرر المتطاير منه مضيئاً ليل العالم وعتمة الحياة: "أيّ الأغاني تحبّين، أي الأغاني..." يقول الشاعر.
تجليات الغنائية
"تتجلّى الغنائية في ديوان "سرير الغريبة" أقصى تجلّياتها في شعر محمود درويش، فهي ليست فقط صوت الأنا في نغمته الأصفى والأعلى بل هي صوت الذات، صوت الداخل في ما يحفّ بهما من أسرار وأحوال. هكذا تأخذ الغنائية طابعاً تأمّليا ًخاصاً، فهي ليست ردّ فعل وجداني حيال العالم والحياة بل هي فعل اختبار ومعرفة، فعل اغراق في التجربة الداخلية التي تصهر العواطف والأحاسيس صهراً وجوديّاً. تصبح النزعة الغنائية "سلوكاً غنائياً" إذ استعرنا عبارة أندريه بروتون "بابا" السورياليين، ولا تظلّ غريبة عن منابت الحلم والدهشة والوجد. إنّها الغنائية الجديدة التي تحتفل بالشعر احتفاءها بالحبّ والألم والانتظار. يكتسب الشاعر ملامح أورفيوس الذي سحر آلهة الإغريق بموسيقاه وغنائه وعصي أمرهم وخسر حبيبته من أجل أن ينظر الى ما منعه الآلهة من النظر اليه. وإذ يعترف الشاعر "أنا أوّل الخاسرين، أنا آخر الحالمين وعبد البعيد"، يكشف عن عصيانه وعن رغبته في الكشف عن الأسرا ر البعيدة. ولن يكشف عنها إلا عبر الغناء الذي هو الشعر في أرقى حالاته وأشدّها صفاء.
إلا أن غنائية محمود درويش لا تنحصر في نزعتها الذاتية والتأملية الفريدة وإنّما تشمل اللغة كأداة وغاية. وإن كان درويش يحافظ على البنية الإيقاعية القائمة على نظام التفاعيل ترسيخاً للطابع الغنائي فهو يتخطّى الحدود الإيقاعية المعهودة مشرعاً القصائد على مناخ موسيقيّ تتهادى إيقاعاته تهادياً ساحراً. وكالموسيقيّ الذي يدمج الفنّ "الميلوديّ" بما يُسمّى فناً "هارمونياً" يدمج الشاعر الموسيقى الداخلية والموسيقى الخارجية التفاعيل والقوافي في نسيج واحد ينساب كالماء. وبدا واضحاً اعتماده لعبة الجناس اللفظي والإيقاعي الكامل وشبه الكامل وهي أكسبت بعض القصائد تناغمات موسيقية داخلية ضمن بناها الإيقاعية الأصلية. ولعلّ الصور الشعريّة كيلا أقول المجازات والاستعارات التي تنبثق داخل القصائد انبثاقاً مفاجئاً أكّدت بدورها النزعة الغنائية ذات المنحى الحلميّ الغامض والغريب في أحيان: عدم أزرق للعناق النهائي، ليل فتنتك الزائدة، غموضكِ درب الحليب... على أنّ غنائية درويش لن تلمس ذروتها إلا عبر حالتها الإنشادية أو النشيدية التي تتيح لبعض القصائد أن تستحيل أناشيد حب صرفة. وكيف لا والشاعر يستوحي بوضوح "نشيد الأناشيد" موظفاً بعض معطياته الرمزية واللغوية في سياق قصائده العشقية. ولا يكتفي درويش بذكر "النشيد" والكتاب المقدّس وهو مصدره، بل يعتمد بعض مفرداته علناً، ولكن بغية أن يكتب نشيده الخاصّ: "فاذهبي خلف ظلّك، شرق نشيد الأناشيد، راعية للقطا"، يقول، أو: "وضعت يميني على شعرها، وشمالي على شادني ظبية توأمين، وسرنا الى ليلنا الخاص...". ولعلّ قراءة بعض القصائد على ضوء "نشيد الأناشيد" تؤلّف مدخلاً من المداخل المتعدّدة الى صميم تجربة محمود درويش. فبعض شعره يحتفي بالطبيعة الفلسطينية والجغرافية احتفاء "النشيد" بهما وتصبح خارطة الأرض الجميلة خارطةً لجسد الحبيبة تماماً كما حصل في "النشيد" نفسه.
يؤاخي درويش عبر غنائيّته العالية بين النثر والشعر ويصهرهما في بوتقة واحدة هي بوتقة اللغة العاشقة أو "المؤنّثة" كما يقول الشاعر نفسه. وأمام هذا التآخي والانصهار لا يبقى من الممكن الكلام عن شعريّة النثر ولا عن نثرية الشعر التفعيليّ. يصبح النثر فضاء لغوياً يحتوي البنى الإيقاعية والشعر فضاء لغويّاً يضمّ النثر بألفة: "أحبّ من الشعر عفوية النثر"، يقول الشاعر. إلا أنّ "أنوثة" اللغة هي التي تلغي التناقض أو التنافر بين النثر والشعر في القصيدة الواحدة وتجمع بينهما في تناغم كلّي يصبح من الصعب حياله التمييز بينهما: "لكِ التوأمان: لكِ النثر والشعر يتحدان"، يقول الشاعر أيضاً. فالنثر والشعر يصبحان توأمين حين يحظيان بالحبّ أو حين ينصهران تحت ناره. توأمان يتّحدان اتحاد الجزئين في الكائن "الأندوروجيني". وإن كات المرأة هي التي تحفظ أنوثة اللغة فأنّ اللغة بدورها هي التي تحفظ الأرض. اللغة تسكن المرأة والأرضُ تسكن اللغة من كونها لغة مؤنّثة أي لغة ثنائية متوحّدة في ثنائيّتها. والشاعر الذي نادى امرأته "يا اسمي المؤنّث" لا يحقّق صورته المثلى كشاعر عاشق إلا في فعل "التأنّث" الذي ينضاف الى ذكوريّته من غير أن يلغيها أو تلغيه، ألم يقل رولان بارت: "داخل كلّ رجل يحكي غياب الآخر أنوثة ما تعلن عن نفسها"، ويضيف: "هذا الرجل الذي ينتظر ويتألم من جرّاء انتظاره يصير متأنّثاً تحت فعل معجزة". ويستخلص بارت "الرجل متأنّث لأنّه عاشق". وفي قصيدة "درس من كاما سوطرا" الرائعة يجسّد درويش حال الانتظار التي يحياها الشاعر - العاشق خير تجسيد، وفي هذه القصيدة تحضر المرأة حضوراً سحريّاً يضيء اللغة ويحرّرها من أسر الشعر والنثر معاً ويجعلها مادّة عشقية غنائية صافية. وفيها أي القصيدة لا يركن درويش الى كتاب "الكاما سوطرا" وهو يمثل "فنّ الحبّ" الهنديّ وقد كتبت مقطوعاته في القرن الخامس بعد الميلاد، بل يختصره في المعنى العميق الذي يسبغه على الانتظار. فالعاشق هو الذي ينتظر ويتألم فمن دون الانتظار لا تكتمل صورته كعاشق حقيقي. ألم يقل غيّوم أبولينير الشاعر العاشق مخاطباً حبيبته في قصيدة "الوداع": "وتذكّري أنني أنتظرك"؟
لكن محمود درويش لن يكتفي فقط ب"نشيد الأناشيد" و"الكاما سوطرا" بل يستحضر "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي وهو "رسالة في صفة الحبّ ومعانيه وأسبابه وأعراضه وما يقع فيه وله..."، وكأنه يهدف الى تسمية المصادر التي لا بدّ منها لقراءة معجزات الحبّ الإنساني. ويستحضر كذلك امرئ القيس وجميل بثينة ومجنون ليلى وبول ايلوار وسواهم خالقاً ما يشبه الخلفية الشعرية لقصائده وما يشبه الذاكرة الوجدانية التي صنعت وتصنع مجد الشعر العشقيّ. وهاتان الخلفية والذاكرة الشعرّيتان تشبهان خلفية التاريخ وذاكرته اللتين تحضران دوماً في شعر درويش وتعمّقان انتماءه الى حضارات الشعوب المختلفة. ومثلما تحضر فلسطين تحضر أيضاً أثينا وروما وقرطاج وبابل وسمرقند وباريس. فالشعر يعيد صوغ التاريخ داخل فضاء شبه ملحميّ وفي سياق رمزيّ مشرع على الميتولوجيا الأليفة.
وإذا كان "سرير الغريبة" كتاب حبّ بامتياز في كلّ ما يعني الحبّ من أيروسيه وتسامٍ، من شهوة وصفاء ومن احتراق وانتظار فهو أيضاً كتاب شعر يتخطّى التخوم المرسومة للشعر مجرّداً إياه من أسر الأنواع والمدارس مرتفعاً به الى ذرى التجربة الصافية والإبداع الأصيل.
* صدر الكتاب عن منشورات رياض الريس، بيروت، لندن 1998


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.