انقسم المحللون السياسيون ومتخذو القرار في الكثير من دول العالم حول تقويم نتائج ما توصل اليه السيد كوفي أنان الأمين العام للامم المتحدة مع الحكومة العراقية من ترتيبات. فمنهم من رأى باختصار ان هذه الترتيبات الجديدة هي بداية حقيقية لتأهيل النظام العراقي للدخول من جديد الى الساحة الدولية، والبعض ذهب على عكس ذلك التحليل تماماً. فقال إن الترتيبات التي توصل اليها الأمين العام للامم المتحدة هي بداية الطريق لوضع العراق تحت شكل جديد من الوصاية الدولية. وراح كل يدلي بحججه تأكيداً أو نفياً لما يذهب اليه أو يعارضه، وتدخلت المخيلة العربية ايضاً في بعض التحليلات بعشقها التاريخي لنظرية المؤامرة، التي نعرفها جميعاً، حين ذهب البعض الى القول بأن القوى الدولية تريد بقاء صدام حسين لخدمة أغراضها في المنطقة، وغير ذلك كثير مما يصب في نظريات المؤامرة! وبصرف النظر عن مجمل التحليلات فإنه من المؤكد ان الترتيبات التي وصل اليها الأمين العام، على رغم تعقيد آلية الوصول اليها وكذلك آلية تنفيذها، لم تحكن لتتحقق لولا ان سمع النظام العراقي في بغداد قرقعة السلاح وأزيز الطائرات بجانبه، ولولا انه فهم ان هناك أهدافاً ربما غير ظاهرة وراء ذلك التكديس من السلاح. ولكن السؤال الأهم هو: من هنا الى أين؟ وهل خضع النظام العراقي أخيراً لمتطلبات الدول والعصر ليقدم ما كان يجب ان يقدمه منذ هزيمته الدولية عام 1991؟ أم ان الذي يقوم به هو مجرد مناورة جديدة وسيتحين الفرص للخروج عما تعهد به في وقت قريب، ويعود الى ما تعود عليه؟ وأين المصلحة الحقيقية للشعب العراقي، الذي يمكن ان تفرج ضائقته الاقتصادية بعد رفع سقف مبادلة النفط مقابل الغذاء. ولكن، بالتأكيد، لن تحل ضائقته السياسية وهي الأهم؟ ثم ما هو الموقف الاميركي اليوم في الخليج؟ هل يعتبر ما حققه المجتمع الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة إذعاناً عراقياً ونهاية لكل المناورات، أم انه تقليص من جانب آخر لدور الولاياتالمتحدة وهيبتها الدولية؟ هذا إن أخذنا بالصيحة العراقية الاعلامية والسياسية بأن ما حدث هو انتصار سياسي على سياسة القوة الاميركية!. اذا بدأنا في محاولة الإجابة عن السؤال الأخير وهو دور الولاياتالمتحدة في منطقة الشرق الأوسط وفي الخليج بالذات، فإن الولاياتالمتحدة تواجه بعد الأزمة خيارات واضحة، وهي التحول من استراتيجية "الأمن التصحيحي" الذي قامت به حتى الآن الى تحقيق أو المساعدة على تحقيق "الأمن التعاوني"، فمن الصعب ان تقدر الولاياتالمتحدة على تحشيد القوة العسكرية كلما أراد النظام العراقي وفي الوقت الذي يختاره خصوصاً انه قد فعل ذلك أكثر من مرة خلال السنوات الثماني الماضية. فما هي شروط الأمن التعاوني اذن؟ الأمن التصحيحي الذي قامت به الولاياتالمتحدة كدولة عظمى خلال العقدين الماضيين حتى الآن، باتفاق مع حلفائها أو بمعزل عنهم في بعض الأوقات، هو التدخل الديبلوماسي المصحوب بالقوة العسكرية، تلويحاً أو استخداماً، لمنع الاعتداء أو تغليب قوة ترى فيها تحقيق مصالحها الحيوية أو مصالح حلفائها على قوة معادية لهذه المصالح أو للسلام العالمي، حدث ذلك في أمثلة عديدة في منطقتنا نورد منها للتذكير: تدخل الولاياتالمتحدة لدعم الثورة في افغانستان، أو تأييد الوحدة اليمنية، أو ترجيح كفة العراق في حربها مع ايران، وحدث ذلك ايضاً بتمكين الأكراد في شمال العراق من مناطق آمنة بعد محاولة اجتياحهم من جانب النظام العراقي، ويحدث ذلك مثلاً منذ سنوات في سيناء حيث توجد قوة اميركية على الحدود الفاصلة بين اسرائيل ومصر، أي انها تقوم بممارسة الأمن "التصحيحي" كما هي الحال في الأزمة الأخيرة مع العراق، عندما أحضرت قوات برية وبحرية "لإقناع" العراق بالامتثال نهائياً للقرارات الدولية. ولكن الى متى ستقوم الولاياتالمتحدة بهذا الأمر في حال تكراره؟ التوقيع الأخير بين العراق والأمين العام للامم المتحدة هو نهاية السياسة التي سماها المخططون الاميركيون ب "الاحتواء المزدوج" وما اسميه بپ"سياسة الأمن التصحيحي". والمطلوب الآن هو الأمن التعاوني في محيط الخليج أو في محيط الشرق الأوسط. وهذا الأمن التعاوني لن يتأتى في الخليج على الأقل إن لم تتفهم الاطراف المطلة علىه انها لا تستطيع ولا يمكنها منفردة مواجهة نيات السيطرة والهيمنة كالتي يفكر فيها النظام العراقي حتى اليوم. المشكلة الكامنة في التوصل الى أمن اقليمي تعاوني ان العراق - ولا أقول وحده فقط، لكنه المثال الأسوأ - هو الأكثر ممانعة في التوصل الى مثل هذا الترتيب، اذ ان الدولة العراقية تعاني منذ نشأتها من إعاقة داخلية وخارجية عميقة، زادت عمقاً وتعقيداً مع وصول البعث العراقي للسلطة، ثم تعمقت مع تحول السلطة من يد حزب الى يد عائلة ورجل واحد بدأ منذ الثمانينات تحقيق هذه الاعاقة التي كانت دائماً تدفع النظام العراقي الى تصدير مشكلاته الى الخارج. يعرف المتتبعون لأحوال العراق السياسية أن الوضع غير المستقر والمحتقن الى حد الانفجار فيه أدى ولا يزال الى مغامرات خارجية عديدة وباهظة الكلفة، وان هذه المغامرات تمت لأن النظام العراقي كلما وصل الى مرحلة تاريخية تستوجب تقديم استحقاقات ديموقراطية ومشاركة في السلطة لفئات الشعب العراقي المختلفة وإقامة مجتمع مدني حديث يسود فيه القانون ومجتمع سياسي يتنفس الحرية، اختار القفز الى مغامرة خارجية لصرف الأنظار عن تلك الاستحقاقات أو تأخيرها تحت شعارات زاعقة ورنانة مثل أن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". حدث ذلك أكثر من مرة في بداية العقدين الماضيين في الثمانينات والتسعينات في الحرب مع ايران وبعدها عند احتلال الكويت. لقد تحول حزب البعث العراقي من حزب ذي شعارات قومية، على الأقل في أدبياته المنشورة، الى حزب أفراد، وراح يستعين بعائلة لها من الأنصار بمقدار ما تقدمه من امتيازات. وفي المسيرة الطويلة نسبياً في الحكم العراقي، انقلبت القيادات الشابة والمتهورة في العراق على القيادات التقليدية، والضباط الصغار على الكبار، وأزيحت البورجوازية المدنية الناشئة في العراق بحديثي النعمة من أصول ريفية، وطبق هذا التسلل في الانقلاب داخل الأسرة التكريتية الواسعة، بانقلاب الصغار على الكبار، والأبناء على الاعمام والاخوال. وأصبح عدي وقصي من خلال علاقتهما بأجهزة إرهاب السلطة هما القابضان على الأمر في بغداد، وعلى رقاب العراقيين، وعرفنا ب "فدائيي صدام" و"كتائب صدام"! وانتقل مصدر الخوف من الأب المشبع بالخوف من فقد السلطة الى الابناء، وحوله الأخيرون الى تسلط وحرموا فيه فئات الشعب العراقي من كل أشكال التنفيس السياسي. استطاع بعض الغربيين المحايدين الذين أتاحت لهم ظروف الوضع العراقي القائم زيارة بغداد في السنوات الأخيرة من صحافيين وديبلوماسيين التعرف عن كثب ومن الداخل على جمهورية الخوف، وعادوا بقصص يعرفها العراقيون والمطلعون على الشأن العراقي، وقد كانت خافية على قطاعات من الغربيين وقطاعات عريضة من العرب. ولم يعد الشيعة العراقيون أو الأكراد هم فقط المطاردون والمحرومون من المواطنة والمشاركة، بل أصبح أولئك الذين ساعدوا النظام من أهل الوسط والسنة مطاردين ومشكوكاً في ولائهم. ولم تعد السلطة في بغداد ذات القاعدة المتآكلة ترغب في المشاركة أو الانفتاح، وأصبح العراقي المتعامل مع السلطة يحمل نفسية العوام وطبيعة العبيد خوفاً من الحد الأدنى من العقوبات وهو الإعدام لأي بادرة سياسية مهما صغرت. لقد فقد النظام العراقي القائم منذ فترة طويلة السند الايديولوجي الذي قام عليه حكم النظام في الأصل، اذ أعدم صدام حسين بعض رفاقه في سنة 79 بتهمة التخابر مع سورية التي كانت تعد العدة قبل أيام من الاعدام لوحدة اندماجية معها، وسحب الجيش العراقي قبل ذلك سنة 70 قواته من الأردن ومنعها من المشاركة في حماية الفلسطينيين بحجة "منع تدخل اميركي يحتل أجزاء جديدة من الوطن العربي" كما قالت وثائق الحزب بعد ذلك، ودخل حرب 1973 على الجهة السورية بعد ثلاثة أيام من بدء القتال، واستخدم رفضه لقرار مجلس الأمن 338 ذريعة لسحب قواته من الحدود السورية المهددة، ودخل حرباً ضروساً مع ايران ثم تخلى بعد ذلك عما طالب به واستولى عليه من أراضٍ قال انها عراقية، وها هو يذعن الآن ومن جديد لتفتيش القصور التي أدعى انها سيادية، وقبل عملياً بسلطة شبه مستقلة تسيطر على نحو 20 في المئة من أراضي العراق في الشمال، كما قبل بمنطقة حظر للطيران على 80 في المئة من أجواء البلاد، الى درجة ان البالون الدولي الذي دخل أجواء العراق قبل شهرين أخذ الموافقة من السلطات الدولية، ثم قبل نظام صدام أخيراً برقابة دائمة على المصانع العراقية وبكاميرات الفيديو. اذا كان اختراق الأمن العربي في فلسطين سبب صراعات قائمة حتى اليوم، وشغل العرب، فقد جاء النظام العراقي باختراق جديد للأمن العربي استنزف ويستنزف الكثير من الطاقة العربية المهمة وحوّل الانتباه عن المعركة الأصل في فلسطين الى منطقة الخليج، بحثاً عن تصدير مشكلات داخلية محتقنة لا يريد ولا يقدر على حلها، هذه هي بعض "انجازات" عبقري بغداد، والخاسر الأكبر فيها هو الشعب العراقي، ثم شعوب الخليج، وفي النهاية الشعب العربي كله. الغريب ان هناك ضجة وادعاء اعلامياً بالانتصار! تقوم به الماكينة الباقية من إعلام النظام مع مجموعة اخرى خارجة مضللة أو مشبعة بالوعي الكاذب وهي أبعد ما تكون عن هموم الشعب العراقي الحقيقية. وهي قاعدة استنها النظام منذ انتصاراته الكبيرة والمتكررة على العالم وايران والأكراد والشعب العراقي؟! والحقيقة ان العراق اليوم هو في الواقع تحت الانتداب الدولي، والوثيقة الأخيرة التي حملها كوفي أنان الى نيويورك تؤكد في أول فقرة منها إقرار الحكومة العراقية بكل قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، فالعراق مباحة أراضيه للتفتيش، ودخله النفطي القادم ستشرف على صرف عائداته لجنة دولية برئاسة محاسب أميركي، والوضع الداخلي موسوم بالعنف المتطاير. وفي العراق اليوم توضع مصالح القائد والنظام فوق مصالح الدولة والوطن، والعنوان الكامل لما حدث هو تحميل مصائب للوطن لاستمرار الفوز بالسلطة، بعدما سقطت كل أوراق التوت الايديولوجية. في زمن أكد فيه التاريخ لكل ذي بصيرة سقوط الشمولية السياسية مرة واحدة والى الأبد، وفي سلطة شمولية عراقية كهذه تنزع الى العدوان الداخلي والخارجي كوسيلة لبقائها، من المحتم ان تنزع أسنانها العسكرية وتحرم عليها المغامرات الخارجية، ويصبح صدام حسين مجرد حارس موقت على بوابة العراق، حتى يتسنى تدبير بديل مناسب من داخل الشعب العراقي الذي قاوم دائماً الخضوع لحكم الفرد وقدم في انتفاضته الأخيرة أكثر من ربع مليون مواطن تمهيداً لحكم شعبي ديموقراطي يؤهل العراق لشراكة حقيقية في أمن الخليج التعاوني، اذ ان قوة العراق الحقيقية هي في إقامة نظام عادل يشعر فيه المواطن بالمساواة ويعيش حراً كريماً، فأين الانتصار؟ القوى الدولية لا تناقش الآن مقولات بغداد في الانتصار، ويقيني ان بعض همها بجانب الحفاظ على الأمن الاقليمي هو مستقبل الشعب العراقي. ما يناقش في الحقيقة هو هل باستطاعة النظام العراقي الوفاء بتعهداته أم يعود عنها كما فعل دائماً؟ إن أوفى بالتعهدات فإن العراق سيظل تحت وصاية دولية طويلة الأمد، وان رجع عنها فإن اطاحته هذه المرة من الخارج والداخل هي تحصيل حاصل. ولن تهم بعد ذلك أهازيج الانتصار مهما علت. والمخرج المتاح هو دعوة العراقيين واستعدادهم لبناء عراق يتناغم مع العصر بعيداً عن الشمولية وبعيداً عن الحروب. لا اعتقد ان ما شهدناه حتى الآن من الدراما العراقية هو خاتمة المطاف، والمسؤولية الحقيقية اليوم عائدة الى العراقيين وهم الشعب الخاسر - الخسارة الكبرى - حتى الآن في هذه اللعبة الجهنمية، والمسؤولية عائدة بالتحديد لقواه الحية، التي كان بعضها يعتقد حتى الأمس القريب ان النجاة قد تأتي من الخارج، وهي لن تأتي إلا برصّ الصفوف العراقية التي كانت المعارضة فيها مقموعة حتى سنة 90 - 91 وهي الآن تتكاثر صفوفها وتتسع، وما حدث من اتفاق أخير هو امهال لا إهمال دولي، فإذا ظهر في الافق بنيان متماسك لمعارضة عراقية ديموقراطية من كل ألوان الطيف السياسي العراقي اقترب العراق من الدخول في عصر يستحقه ويتطلع اليه.