انحرفت السياسة الاميركية عن أولوية استمرار اللجنة الخاصة المكلفة إزالة الأسلحة العراقية المحظورة أونسكوم في العراق نحو الاستعداد للتضحية بها لأنها قد تكون عثرة في طريق السياسة الجديدة لواشنطن المستندة الى تكرار عمليات عسكرية مفاجئة بهدف زعزعة النظام. وتعزز التناقض في احتفاظ واشنطن بحق ضرب العراق في أي وقت تشاء من دون الرجوع الى مجلس الأمن من جهة، وفي سعيها الى استعادة الاجماع في المجلس من دون الاستعداد للموافقة على شروط رفع الحظر النفطي وغيره من العقوبات، اضافة الى الخلل الرئيسي الناتج عن مطالبة السلطة في بغداد بالتعاون والتعهد بإيجاد بديل لها في آن. عند هذا المنعطف عاد العراق الى وضع ما قبل العمليات العسكرية، أي بقاء العقوبات والنظام معاً، حتى اشعار آخر أو الى حين حسم معركة إطاحة النظام، والى انحسار أكبر في الثقة بالادارة الاميركية بسبب تبعثر سياستها وفشل وعودها العسكرية. أوضح نتيجة وأوضح محرّك للعملية العسكرية الاميركية الأخيرة كان تصميم المؤسسة العسكرية على إبلاغ الرئيس العراقي صدام حسين ان عهد السخرية والتلاعب على العظمة الاميركية، عبر نمط التصعيد والتراجع كلما شاء قد ولى. فسمعة العظمة الاميركية العسكرية وصدقيتها على المحك. وصدام حسين تلاعب بها أكثر من مرة. وبعد إنذار الرئيس بيل كلينتون في تشرين الثاني نوفمبر لدى موافقته على تجميد الخيار العسكري أمام تراجع بغداد، اعتقدت السلطات العراقية ان أمامها هامشاً للظهور بمظهر المحافظ على الكرامة. فاتخذت القرار البائس بمنع دخول فرق التفتيش موقع القيادة القومية لحزب البعث وتفذلكت في مسألة الوثيقة الجوية التي تحدث عنها كلينتون. قامت بهذه التحديات "التجميلية" فيما كانت في الواقع تتعاون وتنفذ ما طالبتها به "اونسكوم" في المسائل الجوهرية، بما فيها عمليات تفتيش مواقع حساسة. فعلت ذلك بقراءة سخيفة للوضع السياسي الداخلي الأميركي، ولم يكن أمام الادارة الاميركية سوى توجيه الضربة لأسباب داخلية ذات علاقة بعزل كلينتون، وعسكرية ذات علاقة بقرار الجنرالات الاميركيين. تقرير الرئيس التنفيذي للجنة "أونسكوم" ريتشارد بتلر، ساهم جذرياً في اطلاق القرار العسكري الأميركي - البريطاني. لكن سحبه فرق التفتيش قد يكون ساهم في إفشال العملية العسكرية. بالطبع لم يكن أمام بتلر سوى اتخاذ قرار سحب المتفشين. لكن سحبهم اعطى السلطات العراقية المساحة الزمنية للاعداد لاحباط غايات العملية العسكرية التي استهدفت البنية التحتية للنظام. وبذلك كان سحب المفتشين بمثابة "إنذار مبكر" للسلطات العراقية، وكان بالتالي مصدر إفشال للعملية العسكرية الاميركية - البريطانية. فهذه العملية فشلت على صعيد النتائج المباشرة في تحقيق الأهداف التي كانت في استراتيجية الادارة الاميركية. وأهمها، فصل الجنوب من خلال ضرب وسائل الاتصال بينه وبين بغداد بما يؤدي الى عزل مناطق الجنوب واقامة تشكيلات عسكرية للمعارضة الفعالة. وكان في ذهن الادارة الاميركية قيام نوع من الانتفاضة في الجنوب. هذا لم يحدث. وضمن ما لم يحدث ايضاً هو توجيه ضربة جذرية تنسف اسس الاجهزة الأمنية والعسكرية بما يؤدي الى اضعاف النظام بصورة رئيسية وحيوية. فالسلطة في بغداد استفادت من دروس سابقة عام 1991 وبعدها عام 1996 واكتسبت خبرة في اطاحة محاولات اطاحة النظام. وهذه المرة ايضاً، تمكنت السلطة من دحض محاولة الاطاحة بها ليس فقط لأنها باتت خبيرة في السيطرة الأمنية على أكثر من صعيد داخل العراق، بما في ذلك الصعيد الشارعي وانما ايضاً لأنها استفادت من "إنذار" سحب المفتشين العاملين للجنة "أونسكوم". ولهذا السبب فإن "أونسكوم" باتت "شوكة" في خاصرة السياسة الاميركية الجديدة التي تقوم على الضرب المتواصل المتكرر للعراق، بلا أي انذار. فوجود "أونسكوم" بمفتشيها، يحد من حرية أحادية التصرف الاميركي، ويفرض قيوداً تتشابك مع الرؤية والقرار الاميركي وتعرقلها. ثم ان الرقابة البعيدة المدى، وهي عبارة عن كاميرات في المواقع التي قد تتمكن من استئناف برامج أسلحة الدمار الشامل قُصفت أثناء العملية العسكرية، وعليه، فلا حاجة لواشنطن، في رأيها، للتمسك ببرنامج الرقابة بعد الآن، الى حين استبدال النظام في العراق الذي يتم عسكرياً. فالسياسة الاميركية الجديدة انتقلت من الاحتواء السياسي والديبلوماسي للعراق الى الاحتواء العسكري. والأولوية الاميركية اليوم هي لتغليب اسقاط النظام في بغداد على عملية الرقابة البعيدة المدى. وكل هذا يتطلب التضحية بپ"أونسكوم" من أجل زعزعة النظام في بغداد. فهذه اللجنة لم تعد الأداة المثالية لشد الخناق على النظام في العراق. اذ انها باتت عبئاً بعدما فقدت القدرة على القيام بمهماتها. وهي عملياً انتهت. والإدارة الأميركية اتخذت قرار الاستغناء عنها بدليل انها قصفت مواقع المراقبة البعيدة المدى، وقصفت نظام الرقابة ذاته الذي استغرق نصبه سنوات عدة. ظاهرياً وسطحياً سيستمر التعبير عن الترحيب بعودة "أونسكوم" والثقة بها وبرئيسها التنفيذي، انما لأجل قصير وموقت. واذا كان ريتشارد بتلر سيكتب يوماً مذكراته فلا بد انه سيتساءل كيف أفلح بطرد نفسه من الوظيفة وتحطيم المؤسسة التي ترأسها، أو كيف وقع ضحية فخ نصبته له بغدادوواشنطن من دون تنسيق بينهما. المعركة بين العاصمتين الآن مباشرة، بلا مبرر أو غطاء أو مساهمة من لجنة "أونسكوم" في تأجيجها أو احتوائها. وأصول اللعبة الجديدة بالغة التعقيد والغموض والاعتباطية والهزلية والانفعالية والحذاقة والغباء في آن. النظام في بغداف يعلن انه انتصر في المعركة الأخيرة. وهذا صحيح. انتصر لأن بقاء صدام حسين رئيساً، في قاموس السلطة العراقية، هو الأولوية الحاسمة. وفي بقاء النظام انتصار. اما فشل العملية العسكرية في اطاحة النظام فهو انتصار. وكل استراتيجية وتكتيك في المرحلة المقبلة هدفه الانتصار ببقاء النظام بغض النظر عن كلفة هذا البقاء. المهزوم ليس اميركا. فالولايات المتحدة تبعث حرباً الى العراق. انها ليست في حال حرب مع العراق على أراضيها. انها تصدر العمليات العسكرية ولا تستوردها. وبالتالي، فإن الهزيمة ليست للنظام في بغداد ولا للادارة في واشنطن. انها هزيمة العراق وشعبه الذي يخوض رغم أنفه معركة الاحتفاظ أو الإطاحة بالسلطة. هذه المعركة دخلت منعطفاً جديداً باتخاذ المؤسسة العسكرية الاميركية قرار منع استخدام الدبابات العراقية لقمع أي حالة تبرز في العراق، في الجنوب أو غيره. ففي الماضي كان هناك "حظر الطيران" في الشمال والجنوب واليوم هناك قرار "حظر قيادة" الدبابات أو غيرها في وجه انتفاضة ما في العراق. والهدف يشمل، أولاً، ضمان حرية استئناف العمليات العسكرية ضد النظام، وثانياً، تعزيز ضغط المحيط في الشمال والجنوب على المؤسسة العسكرية بما يؤدي الى نوع من "انقلاب البلاط". لكن المشكلة أمام هذه الاستراتيجية ان رقعة سيطرة النظام اتسعت اليوم لتضم 14 محافظة، فيما كانت عام 1991 أربع محافظات فقط تحت السيطرة. ثم ان القرار الاميركي الحاسم باستبعاد قوات برية اميركية كلياً يجعل هامش التحرك الاميركي محدوداً. يضاف الى ذلك، ان هناك اليوم في المنطقة، وفي الخليج بالذات، انحسار ثقة بالقدرة العسكرية الاميركية التي توعدت بضربة قاضية، ثم اسفرت عن شكوك وتساؤل في فاعلية العملية العسكرية. وأهل المنطقة المجاورة للعراق يفكرون ويستطلعون ان كان في وسع المجتمع هناك تحمل ضربات اميركية متتالية. توجد خيبة أمل لدى اولئك الذين راهنوا على نقلة نوعية في العراق نتيجة الضربة العسكرية الاميركية. وهم اليوم يتساءلون ان كان في مصلحتهم التصديق على ضربات لاحقة في سياسة تستغرق وقتاً. فالدول التي أبلغت بأن نتايج العملية العسكرية ستكون حاسمة غير مرتاحة للنتائج التي تمخضت عنها. ثم ان قرار زعزعة النظام في بغداد بأي وسيلة وبأي ثمن يقلق امثال سورية وايران ومصر وبعض الدول الخليجية، فلا الفوضى مستحبة، ولا الحرب الاهلية في العراق، ولا معركة طويلة يدرك كثيرون ان احتمالات تشابك تطورات المنطقة بها مخيفة ومكلفة. وعلى الصعيد الدولي، ان الانقسام في صفوف مجلس الأمن حقيقي، وتوقف العمليات العسكرية يعطي فرصة لجرد الحسابات ورسم الاستراتيجيات وبعدما بات واضحاً ان موضوع نزع السلاح أو احتواء القدرات العراقية على استئناف امتلاك هذا السلاح ليس القضية ولا الهم، فإن الأجندة الاميركية - البريطانية تعمق الانقسام. وقد تأتي بغداد نفسها بآليات تزيد هذا الانقسام تعميقاً اذا تقدمت بطروحات تطمئن الدول المعارضة للاجندة الاميركية - البريطانية في مجال نزع السلاح وتعطيها الذخيرة الكافية لمواجهة السياسة الاميركية - البريطانية. فالمعركة الديبلوماسية ترافق معركة الاطاحة العسكرية حدة وتعقيداً. وكل من المعركتين غامض وطويل. أمام جيرة العراق ان تقرر ما اذا كانت ترير هذه المعركة أو إذا كانت تريد وقفها. فإذا "صوتت" لمصلحة دعم الاجندة الاميركية - البريطانية فإن عليها ان تتحصن لإفرازاتها، في حال نجحت أو فشلت في تحقيق غايات اطاحة النظام وما يترتب على النجاح والفشل. واذا "صوتت" لمصلحة وقف العملية الفاشلة للسنوات الثماني الماضية لإطاحة النظام في بغداد، فهذه فرصتها. وما عليها سوى اعلان موقفها بصراحة. بات واضحاً ان واشنطن ولندن نسفتا القاعدة الشرعية للمواجهة مع العراق، أي مبدأ تنفيذ القرارات وأبرزها التعاون مع "أونسكوم". وبهذا أوضحتا أمام المنطقة ان الخيار هو: إما المصادقة على اطاحة النظام في بغداد، أو قرار بالتعايش معه. وقد حان زمن القرار لمحيط العراق، بجيرته المباشرة وتلك العربية والشرق أوسطية. فأميركا ليست وحدها صاحبة القرار كما يتصور البعض أو يتمنى.