تبدو الحكومة السودانية بعد طول عزلة وتوتر في العلاقات مع دول الجوار والمعارضة الشمالية وواشنطن في حال من الارتياح والثقة النسبية أدت بها الى البدء باستخدام لغة معتدلة عبرت بها عن استعدادها للحوار والمصالحة مع رموز المعارضة الشمالية في الخارج، اضافة الى اصلاح العلاقات بينها وبين مصر والترحيب بجهود القاهرة للوساطة في الازمة السودانية. وجاءت وساطة القاهرة فعالة وفي الوقت المناسب، اذ تلت تقدماً لقوات "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بقيادة جون قرنق في الجنوب والشرق ثم تعمد قرنق تخريب محادثات قمة "ايغاد" في نيروبي أواخر ايلول سبتمبر الماضي بطرحه مشروع اقامة دولتين في السودان تضمهما علاقة كونفيديرالية. وقد أربك ذلك المشروع حلفاء قرنق في المعارضة الشمالية في الخارج الذين سلموه راية القيادة العسكرية لپ"التجمع الوطني الديموقراطي" الذي يضمهم معه. ونجحت القاهرة في اقناع المعارضة بوقف التصعيد العسكري تمهيداً لمحاولات احلال السلام، واستقبلت قرنق للمرة الأولى اواخر تشرين الثاني نوفمبر كما استقبلت رئيس الوزراء السابق السيد الصادق المهدي. وبالنظر الى ان وحدة السودان الجغرافية والوطنية هي من ثوابت سياسة مصر وأهدافها الاستراتيجية، فانه لم يكن من المفاجئ او المستغرب ان تنتقد القاهرة تصريحات وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت في كمبالا يوم 10 كانون الأول ديسمبر الماضي التي دعت فيها الى قلب حكومة الرئيس عمر البشير سلماً او حرباً. وما يعزز جهود الوساطة المصرية بين حكومة الخرطوم والمعارضتين الشمالية والجنوبية انها تعمل بجد مع الحكومة السودانية لاصلاح العلاقات الثنائية. واتخذت خطوات عدة في هذا السبيل حتى الآن منها استئناف حركة الملاحة النهرية وزيادة عدد الرحلات الجوية، والاتجاه نحو توقيع اتفاق امني، اضافة الى تفعيل التبادل التجاري. في الوقت ذاته لا بد من الاشارة الى التعاون الكبير الذي ابدته الحكومة السودانية مع الأمين العام للحزب الاتحادي الديموقراطي الشريف زين العابدين الهندي الذي عاد الى بلاده العام الماضي ورأس لجنة الفكر التي اجرت حوارات في طول البلاد وعرضها تمهيداً لاصدار اعلان سياسي يتضمن توصيات في شأن ضمان الحريات العامة وحرية التعبير والتنظيم والتداول السلمي للسلطة وقيام الحقوق على أساس المواطنة والحفاظ على وحدة السودان بحدوده القائمة. وإذا تحقق اجماع على مثل هذا الاعلان السياسي الذي يعتزم الهندي شرحه لتجمعات السودانيين في الخارج فقد يشكل هذا مظلة لمصالحة وطنية اعم بعد اتفاق السلام الجيد، ولكن المحدود، الذي وقعته الحكومة مع فصائل جنوبية منشقة عن قرنق في نيسان ابريل الماضي. اما قرنق فيبدو حتى اشعار آخر، غير متحمس لانهاء تمرده وحربه.