هل بدا أمل السلام في السودان يتحقق رغم ان - الأمل- لغة هو (رجاء ما يستبعد وقوعه). ام أنها أضغاث أحلام شيطانية تنتاب السودانيين بصورة متزايدة كل يوم ثم تغتال بمقولة قائد جيش نابليون(الشيطان في التفاصيل). مشاكوس وناكورو حسما معظم القضايا الخلافية الرئيسية المتمثلة في ( قضية تقرير المصير وقضية الدين والسياسة وقضية الديمقراطية كمنهج للحكم ،فضلا عن الترتيبات الأمنية لنشر القوات وحجمها ( تم توقيعه يوم أمس الأول). ولكن إلى أين يتجه السودان؟.. أو بالأحرى كيف يمكن للسودانيين التخلص من أم المشاكل الأفريقية (قضية الجنوب)؟ التي تحولت الي محرقة راح ضحيتها مئات الالاف من الشباب وخلفت وراءها الاف المعاقين واليتامي والارامل ، وادخلت البلاد في نفق مظلم من الصراع العقائدي والعرقي ومطامع خارجية في الثروات النفطية الهائلة الكامنة في باطن الارض والى ركود اقتصادي يكتنف السودان منذ استقلاله في 1956 فضلا عن الفقر وانتهاك حقوق الانسان والاغتيال والتشريد . الأجواء التي تتخلل جولة المفاوضات الحالية في نيافاشا تأتى علي سياق زئبقي. فبينما تبشر التطورات اليومية التي تشهدها المباحثات بميلاد اتفاق شامل غير منقوص للسلام ، ترى قلة ان الشكوك تحيط بإمكانية التوصل لاتفاق من خلال هذه الجولة، نسبة لعدم التوصل الكامل في جميع القضايا مثار الخلاف و لنفسية جون قرنق التي الفت المراوغة وجبلت عليها ومخاوف الشماليين من وجود جهات وراء الاتفاق تسعي لفصل الجنوب ثم تفكيك السودان الي دويلات في الغرب والشرق . وبين هذا الفريق وذاك يبقي السؤالان الكبيران ( كيف سيتعامل السودان شماله وجنوبه مع القانون الأمريكي المعد والمسلط علي الرقاب في حال فشل المفاوضات او تعثرها لسبب او آخر؟ ثم الى اي مدي سيتم تنفيذ اتفاق السلام بعد توقيعه في حال التوصل لاتفاق شامل ، وهل سيضمن الاتفاق مصالح الشماليين والجنوبيين علي حد سواء ويكون نهاية للحرب الأهلية الأطول في القارة الأفريقية ويغلق باب المطامع الخارجية والتدخلات الدولية في الشؤون المحلية؟؟ لقاء السحاب .. طه قرنق وصف مراقبون وخبراء ان التحركات الماكوكية التي قام بها نائب الرئيس السوداني علي عثمان طه في نيفاشا بان لها اكبر الاثر في تقدم المحادثات والعبور بها الي اتفاقات تكاد تلامس حلم السلام . رغم ان المراقبين تجاوزوا اللقاء الثنائي لطه وقرنق بان القوى الخارجية وتحديدا الولاياتالمتحدة قد فرضت عليهما إيجاد صيغة مشتركة للتعايش السلمي قبل حلول اكتوبر المقبل. غير ان ذلك لم يمنع تزايد الامال السودانية (لاول مرة منذ 20 عاما) في إمكانية وضع نهاية للحرب الأهلية من قبل اعلان الاستقلال ، باعتبار ان المحادثات الجارية والتي استمرت أكثر من ثلاثة أسابيع أسفرت عن اتفاق شبه كامل على معظم القضايا الخلافية والتوصل الي تفاهم بشأن الترتيبات الأمنية والعسكرية ونشر القوات وحجمها خلال الفترة الانتقالية. فيما يعكف وفدا التفاوض في صياغة مسودة اتفاق نهائي في كل ما تم التوصل اليه. كما انه ينتظر ان يستمر الفنيون لاكمال الديباجة الأساسية والتفصيلية وطرق تنفيذها) تمهيدا للعمل المشترك لست سنوات يعقبها استفتاء للجنوبيين لتقرير مصيرهم اما انفصالا (وهذا ما عمل الطرفان للابتعاد عنة) او سودانا موحدا (وهو الهدف المنشود). مشاكوس.. اقتراح الحلول أكدت وثيقة قسمة السلطة (مسودة إطار عمل لحل القضايا العالقة الناجمة عن المداولات التفصيلية لبروتوكول مشاكوس)، التي أعدها وسطاء الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا -إيغاد- وتسببت في فض الجولة الأخيرة من مفاوضات السلام السودانية من دون تحقيق تقدم، أنه (ستكون هناك شراكه وزمالة في عملية صنع القرار داخل مؤسسة الرئاسة) السودانية. وقسمت الوثيقة المناصب الوزارية والعليا بتخصيص نصفها لحزب المؤتمر الوطني الحاكم بقيادة الرئيس عمر البشير، و منحت الحركة الشعبية لتحرير السودان الربع وتركت الباقي ليتولى الطرفان تقسيمه على بقية القوى السياسية في البلاد ومعظمها معارض. وحددت الوثيقة قسمة الرئاسة بحيث يصبح الرئيس الحالي عمر البشير -أو خليفته أو مرشحه- رئيساً وقائداً عاماً لقوات الشعب السوداني المسلحة . ويصبح الرئيس الحالي للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان جون قرنق- أو خليفته أو مرشحه- نائباً للرئيس ويشغل في الوقت ذاته منصب رئيس حكومة جنوب السودان ويكون قائداً عاماً للحركة لتبقي كما هي. جولة ناكورو تهدد الوحدة وبالرغم من إن الوثيقة التي تم الاتفاق عليها في مشاكوس كانت شاملة كل القضايا الخلافية ما عدا الترتيبات الأمنية التي لم يتوصل الطرفان فيها آنذاك لحل نسبة لعامل الوقت الا انه في جولة محادثات ناكورو الكينية قدم اصدقاء الايجاد وثيقة اخرى كانت بمثابة تهديد لوحدة السودان. الامر الذي دعا الطرف الحكومي إلى رفضها وطلب من الوسطاء تقديم وثيقة جديدة، باعتبار ان الاتفاق السابق الموقع في ماشاكوس ضمن أن يظل السودان أمة موحدة، لكن الوثيقة الجديدة تحدثت عن وزارتين للدفاع وبنكين مركزيين، أحدهما للشمال والآخر للجنوب.فضلا عن صلاحيات واسعة لجون قرنق بحيث يجمع بين منصبي حاكم اقليم الجنوب ونائب الرئيس السوداني ، وان يكون منصب نائب الرئيس حكرا عليه او أي جنوبي اخر يتولي هذا المنصب مع إعطاء فيتو على قرارات الرئيس السوداني ، وان يتولي مع البشير الرئاسة لثلاث سنوات مناصفة (ثلاث سنوات لكل) وان يشغل الجنوب 33% من مقاعد البرلمان القومي علي ان تعطى الحركة 26% من هذه المقاعد و7% لبقية الاحزاب والتنظيمات الجنوبية ، و 25% من المقاعد بمجلس الوزراء ، بالاضافة الي 2% من عائدات البترول للولايات المنتجة (معظمها في الجنوب) و48 % لحكومة الجنوب ، وغيرها من البنود التي استدعت وزيري خارجية مصر وكينيا لانتقاد جون قرنق وهيئة الايجاد علانية والاشارة الى انهما بذلك يعرقلان المسيرة السلمية. في المقابل كان زعيم حركة التمرد يهدد إن الحرب في السودان قد لا تنتهي إذا لم تقبل الحكومة السودانية مقترحات السلام التي يقترحها الوسطاء. مشيرا الي إن البديل سيكون استئناف القتال المتوقف حاليا بموجب اتفاق لوقف إطلاق النار. محادثات نيفاشا والعصا الامريكية في غضون ذلك حذرت أمريكا طرفي النزاع من عواقب وخيمة اذا فشلت هذه المفاوضات قبل حلول أكتوبر 2003 ، وجاء تهديدها المباشر ( ان الأسرة الدولية لن تظل صامتة اذا فشلة المفاوضات القادمة وسيواجه الطرف المسؤول عن افشالها عواقب وخيمة . ان الولاياتالمتحدةالأمريكية ستقطع علاقاتها مع الحركة الشعبية لتحرير السودان كما ستفرض عقوبات عليها اذا كانت السبب في افشال هذه الجولة ، كما انها ستطبق - ما تسمية - قانون سلام السودان الامريكي اذا كانت حكومة الخرطوم هي المسؤولة عن الفشل - واعطت الولاياتالمتحدة حسب هذا القانون نفسها حق فرض العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية وتسليم البترول السوداني لعهدة المجتمع الدولي ومنح المعارضة مائة مليون دولار سنويا لمدة ثلاثة سنوات لتنشيط العمل العسكري ضد النظام القائم ثم ادراج جنرالات الحكومة ومدنييها في بند مجرمي الحرب في الحرب السودانية الدائرة منذ الاستقلال فضلا عن ان الولاياتالمتحدة لن تتورع في فتح ملف تنظيم القادة الذي نشط في السودان في الفترة من 1992 وحتي 1996 . وهنالك من يقول ان تلك التهديدات المباشرة وراء جدية الطرفين اكثر من قبل فقد اصبحت المفاوضات فاعلة وظلت تحقق تقدما سريعا الي الامام للوصول الي سلام عادل وشامل . كما عملت هذه الضغوطات علي استئناف المفاوضات في نيفاشا بين قياديين كبيرين من الطرفين . ولكن بالرغم من ذلك لم تسلم المفاوضات من ظهور أجواء التوتر حتى أخر اللحظات الحسمية ، ساعدها في ذلك الانباء التي يسربها أعضاء من الوفدين لأجهزة الإعلام التي بدورها تخلق نوعا من الضبابية القاتمة نقاط الخلاف من ابرز النقاط الخلافية التي ظلت مسار خلاف دائم بين طرفي التفاوض هي تقاسم السلطة وتوزيع الثروة والمراجعة الدستورية وتمثيل جنوب السودان في مجلس الوزراء وحصص الجنوب في الخدمات المدنية والاتصالات بين الحكومات المركزية والاقليمية وحكومات الولايات والرئاسة، وعلمانية العاصمة القومية وعدد المقاعد المخصصة لجنوب السودان في المجلس التشريعي والجدول الزمني للانتخابات خلال فترة السنوات الست التي تؤدي الى اجراء استفتاء بشأن الحكم الذاتي في الجنوب. العاصمة في ظل السلام رفضت الحكومة السودانية قبل جولة نيفاشا بشدة وعلى لسان النائب الاول علي عثمان محمد طه مطالب المتمردين بعدم تطبيق الشريعة الاسلامية في العاصمة الخرطوم بينما تمثلت وجهة نظر حركة التمرد التي تمثل المسيحيين والوثنيين في جنوب البلاد انه يتعين ان يكون للخرطوم وضع خاص حتي يشعر جميع السودانيين خلال فترة الست سنوات بالمساواة في عاصمة قومية . مطالبين في ذلك بعاصمة علمانية تستوعب الجميع . وقال المتحدث باسم الحركة ياسر عرمان نريد الخرطوم كالقاهرة التي بها الف مئذنة. اقترحت الحكومة علي الحركة نقل العاصمة خلال الفترة الانتقالية الى جوبا في الجنوب ومن ثم نقل كل الوزارات والمؤسسات الحكومية الكبري ومقار البعثات الدبلوماسية اليها . غير ان الحركة الشعبية رفضت ذلك المقترح لتفوت بذلك علي السودان بناء مدينة جديدة بكل مواصفات المدينة الحضارية والعصرية وكاملة بكل البني التحتية والطرق والجسور والاتصالات والمواصلات النهرية والبرية والجوية من خلال المطار الدولي فضلا عن التطور المعماري والسياحي والاقتصادي الذي كان يمكن ان تشهده جوبا . البشير وقوى الداخل يتجاهل الكثيرون الجهد الذي قامت به مؤسسة الرئاسة في الداخل فقد قام الرئيس السوداني عمر البشير بعد رفض الحكومة للوثيقة التي قدمتها الايجاد في ناكورو بخطوة اعتبرها الخبراء والمراقبين بانها ذكية وفي توقيت مناسب . حيث انتقل بمشروع السلام بكامله وما توصلت اليه المفاوضات في أيدي قوى المعارضة الداخلية. طالبا العون للمستقبل السوداني دون تحزب او طائفية او عرقية او مذهبية للمشاركة في بلورة موقف موحد لجميع قوي السودان الداخلية لتكون ردا على وثيقة ناكورو، والتزم في ذلك ان تكون توصيات قوى الداخل محل تقدير من الحكومة التي تستعد لجولة جديدة . مما جعل قرنق يحس بان الكفة تتجه للميل ضده. اضف الي ذلك بعض الأحزاب والقوى السياسية السودانية والتجمع المعارض بالداخل استجابت لنداء البشير واعلنت التمسك بما جاء في وثيقة مشاكوس. وجاء هذا الاتفاق بعد سلسلة لقاءات واجتماعات لتلك القوى بحثت مستقبل السودان بعد اتفاق السلام واكدت على ضرورة توسيع قاعدة المشاركة لضمان استمرار الاتفاق والوصول به الى الغايات المنشودة من السلام والاستقرار . والتقي البشير بقيادات القوى الداخلية في لقاء مكاشفة ووضوح وصراحة مفتوح . وبالتالي استطاع ان يكسب قوي الداخل بالكامل. وهنالك ايضا جانب آخر له اثره في الشارع العام حيث نشرت عدة مقالات تدعو الشماليين لاعلان الانفصال ورحب البعض بفصل الجنوب اذا كان سيوقف اراقة الدماء كما تحدثوا بصراحة عن ان الجنوب يعيش عالة علي الشمال منذ الاستقلال ويبتذه. لقد مل الجميع الحرب وسئموها ، الجنوبيون نفسهم ادركوا ان الحرب لن تحقق لهم اهدافهم وان الدعم الخارجي الذي يجدونه مهما كانت قوته لن يستطيع اجبار الشماليين علي التنازل عن قناعاتهم المشروعة ، وفي المقابل ادرك الشماليون ان الحرب حرث في الماء ومعوق للتنمية واهدار لمقدرات الشعب السوداني وحظه من التطور والرقي اسوة ببقية الدول العربية. الزعماء الثلاثة ( الصادق ،الميرغني ، الترابي) وجد الصادق المهدي زعيم الانصار(من اكبر طائفتين في السودان مع الختمية) بأنه سيكون مغردا خارج السرب فآثر المشاركة فكان ان اصدر حزب الامة المعارض بيانا اكد فيه رفضه للحلول الجزئية والثنائية والتزامه بمبدأ الحوار مع كل الأطراف بهدف الحل السياسي الكامل الذي يقوم على السلام العادل والتحول الديمقراطي. غير ان البيان اعتبر ان تغييب القوى الأساسية من مائدة التفاوض والمشاركة سيفقد الاتفاق مقومات القبول والاستمرار واكد ان نجاح الاتفاق مرتبط بالتحول الديمقراطي والإجماع الوطني. كما اثني محمد عثمان الميرغني زعيم طائفة الختمية علي مبدأ توسيع المشاركة وان لا يقتصر اتفاق السلام علي طرفين دون البقية من القوى المعارضة في الداخل والخارج. فيما يظل ثالث الثلاثة الدكتور حسن عبدالله الترابي مغيبا من الساحة السياسية بسبب اعتقاله الجبري لاكثر من عام ونصف. الامر الذي يبرز استفهام كبير في هل باع قرنق الترابي؟ باعتبار ان السبب الرئيسي وراء اعتقال زعيم حزب المؤتمر الشعبي الدكتور الترابي هو توقيعه لاتفاقية مع جون قرنق في لندن. ويؤكد مراقبون ان هؤلاء الزعماء يمثلون واحدا من ابرز العوامل التي قد تهدد تنفيذ مسيرة السلام وذلك لاتجاهاتهم الفكرية المتباينة ولمسيرتهم السياسية الزاخرة بالمواقف المعارضة منذ بزوغ نجمهم في الساحة السياسية عام 1964 بالاضافة لقواعدهم العريضة في السودان. مصر ودول الجوار لم يتبلور تحرك مصري ملموس او ظاهر في ظل المفاوضات السودانية الجارية بالرغم من ان مصر تعي وتدرك تماما المأزق الحقيق الذي يمكن ان تدخل فيه مقابل مطامح السياسات الاسرائيلية في السيطرة على مصادرت المياه وإرسال كميات قليلة منها الي مصر فضلا عن فتح ثغرات امنية في الجنوب المصري يمكن ان يكون على المدى القريب املا لتنفيذ الاستراتيجية الإسرائيلية التي تتحرك لإقامة اسرائيل الكبري من الفرات الي النيل. وهذا هدف قابل للتحقق إذا استمرت السياسة المصرية في التراجع خاصة في القضايا الاستراتيجية. وعلى ذلك يبقى انتظار الدور المصري بالاضافة الي دول الجوار التي يتهدد امنها واقتصادها بالمشكلة السودانية عند دخول الاتفاق السلمي مرحلة التنفيذ الفعلي خلال الفترة الانتقالية. ضحايا السلام ان الاتفاق بين الحكومة والحركة ليس غاية اذا كان كل طرف منهما يشعر في هذه المرحلة بانه حقق انتصارات تشفي الغليل واجبر الخصم للتنازل والمراجعة عن كثير الامور العالقة او القضايا ،ومن ثم عليه التحفز لاقتناص الاخر او افتراسه في المرحلة المقبلة . يجب ان يدرك السياسيون سيما من كانت تتسلط عليهم الاضواء وينعم بموقع مميز سواء كان في الحكومة او الحركة او قوى المعارضة الداخلية او الخارجية بان للسلام صك تضحية لابد ان يجزي وفاتورة لا بد ان توفى وثمنا لابد ان يسدد. فمن ينكص عن تقديم تلك التضحية سيسهل لفظه. مصافحة.. هل تعيد السلام؟ رفع الأيدي فرحا بتجاوز العقبة