في مقهى «بوكس أند كافيه» الواقع في شارع الرينبو في العاصمة الأردنية عمان، جلست لينا عجيلات محررة مدونة «حبر» الذائعة الصيت في الأردن مع خمسة من أصدقائها يتحدثون عن «الحراك الأردني». لسنا أعضاء في «جماعة 24 آذار» التي تتولى قيادة التحرك، حرصت لينا على القول. الأحاديث الكثيرة وغير المتسقة التي شهدتها الجلسة في المقهى تعيد تذكيرك بحقيقة بدأت تتحسسها منذ اليوم الأول لوصولك إلى عمان، وتتمثل في أن الأردنيين منشغلون بأنفسهم هذه المرة. العراق ليس موضوعاً رئيساً ولا فلسطين، وحتى سورية المشتعلة في الجوار، هي اليوم الموضوع الثاني في أولويات «الهذر» الأردني. في السنوات السابقة كنا نذهب إلى الأردن لاستكشاف «حماس»، أو للبحث عن معلومات جديدة عن تنظيم «القاعدة» في العراق أو للقاء مسؤول فلسطيني! اليوم الأمر مختلف، والملفات الأردنية مفتوحة على مصراعيها، وذلك بفضل الربيع العربي. صحيح أن المملكة لم تشهد ثورة، وأن حجم ما تسميه المعارضة «الحراك» ما زال محدوداً، إلا أن الأردن واقعي إلى حدّ يعرف فيه مسؤولوه بدءاً من الملك وصولاً إلى الدائرة الأدنى في هرم السلطة، أن لا أحد مستثنى من استحقاقات الربيع. لكن، وعلى رغم أننا حيال مشهد أردني مستجد لجهة انشداد المملكة إلى الداخل، إلا أن القضية التقليدية في الأردن ما زالت تقض مضجع الإصلاح. إنها مسألة «الهوية» وقد انتقلت من كونها مركباً إقليمياً تتحكم به علاقات المملكة الخارجية ومسارات السلام، إلى مستوياتها الداخلية المرتبطة بقانون الانتخابات وقبله بالتعديلات الدستورية المقترحة من قبل لجنة شكلت بناء على طلب من الملك عبدالله الثاني. لكن المملكة غير مهددة ب «ثورة»، والحراك مقتصر على بعض النخب العمانية، إضافة إلى مناطق أقصى الجنوب والشمال، تلك التي تسمى بالمناطق الشرق أردنية. ويجمع المراقبون هنا في عمان على أن الاردنيين من أصل فلسطيني ما زالوا حتى الآن خارج الحراك، على رغم أن جماعة الإخوان المسلمين، وهي القوة الأكثر تمثيلاً لهم، على رأس الأحزاب التي تتشكل منها المعارضة. وللاستنكاف الفلسطيني عن «الحراك» الأردني مضامين كثيرة على ما يبدو، فهو في أحد وجوهه تقية تمارسها جماعة الإخوان المسلمين الأردنيين في سياق مساومات كثيرة تتولاها في هذه المرحلة، إلا أنه أيضاً نكوص فلسطيني عن الانخراط بورشة داخلية أردنية، ذاك أن الداخل في الوعي الأردني هو شأن سكان شرق الضفة يمارسه هؤلاء بإيجابية ويستجيب له الفلسطينيون بسلبية. لكن لحقيقة اقتصار الحراك الأردني على أهل شرق النهر وجوهاً أخرى، فالحراك ليس ثورة على الإطلاق، على رغم ملامسته في بعض المدن مستويات مرتفعة لجهة المطالب. هو حتى الآن حركة احتجاج مارستها نخب حزبية عمانية واستجابت لها شرائح مهمشة في مدن الجنوب والشمال، أي تلك الشرائح المتضررة من بيع الدولة القطاع العام، لا سيما في مناطقها، كمعامل الفوسفات التي كانت الأولوية في التوظيف فيها لأبناء هذه المناطق. وبهذا المعنى يبقى الحراك محكوماً بالسقف الشرق أردني الذي لا يرقى إلى مستوى تهديد النظام. لعلها المرة الأولى التي يسمع المرء فيها عبارة «الغرب أردنيين» في عمان! قالها خالد صديق لينا عجيلات، في الجلسة التي جمعتنا في «بوكس أند كافيه» عند غروب ذلك النهار. خالد الشاب الشرق أردني المتذمر من ذلك «الشقاق العقيم» الذي تكابده الهوية الأردنية، كرر أكثر من مرة هذه العبارة. إنهم أردنيون على ما يقول، وإذا كنا نحن من شرق النهر فهم من غربه. لم يكترث كثيراً إلى أن غرب النهر هو الآن بعد فك الارتباط خارج حدود المملكة، فإذا كان لا بد من اسم لهؤلاء المواطنين فلا بأس باستعادة عبارة الغرب أردنيين. في هذا الاستعجال سرعة لا تشبه الأردن، ذاك أن المملكة تُدقق برصانة العبارة وبمدى مطابقتها للجغرافيا والديموغرافيا. وشبيبة «بوكس أند كافيه» الأردنيون، أقل اقتراباً من الهموم التقليدية للسياسة بمعناها الأردني. لا يشعرون مثلاً بأن موضوعة فك الارتباط تستحق كل هذا الانقسام، ثم إن دينا، الأردنية من أصل فلسطيني، تعنيها ضائقة الهوية من باب حجز الأخيرة على مواطنتها وليس من باب التضييق على طموحاتها، الأكيدة، في استعادة الأرض. إنهم أقلية في عمان، ولا يمكن وسم المدينة بهم، لكن زائر عمان يشعر بأنهم مؤشر على شيء ما يحصل في المدينة نتيجة التقائهم في «بوكس أند كافيه» أو في عشرات المقاهي المشابهة له في شارع الرينبو وفي متفرعاته. الحقيقة أن ما يجرى في المدينة هذه الأيام أثقل من أوهام هؤلاء الشباب، وبعد جولة في الأروقة السياسية للمدينة تُتوج بجلسة معهم في مقهاهم، ينتابك شعور بالانفرج. فأنت على الشرفة المطلة على جبل الأشرفية المنحدر بهدوء ليؤلف مع جبال صغيرة أخرى وادياً تنعقد عنده أحياء شعبية يسكنها أردنيون فقراء من أصل فلسطيني. ولعل في الطرفة التي قارن فيها النائب الأردني ممدوح العبادي بين حالي جيله وجيل «بوكس أند كافيه» بعضاً من مفارقات عمان المستجدة، وذلك عندما أشار بيده من على شرفة المقهى نفسه إلى منطقة الأشرفية قائلاً «إن لهذا الجبل بالنسبة لهؤلاء الشباب بعداً مشهدياً وفنياً، أما بالنسبة إلى جيلي فيبعث على ذكريات لا تخلو من قساوة العيش وخشونته». شهد منزل رنا الصباغ الجديد في عمان، على المنعطف السادس بين الدوارين الرابع والخامس، وليمة سياسية ازدحمت فيها هذه المرة المؤشرات الداخلية. سمعنا من ياسر أبو هلالة كلاماً يؤشر إلى انشغاله بضائقة مدينته الجنوبية معان. ياسر مراسل الجزيرة المتنقل بين عدد من الثورات العربية والذي غطى حروباً ونزاعات مختلفة، استفاض في الكلام عن شقاء معان، وهو حين فعل ذلك استيقظت في وجهه ملامح لم يسبق أن أيقظتها ضائقاته الكثيرة خارج حدود الأردن، فالرجل الدمث توجه إلينا، وكان من بيننا رئيس مجلس الأعيان الأردني طاهر المصري وعضو المجلس صلاح بشير وآخرون من أحزاب يسارية وأصدقاء صحافيون، بصوت يقارب النزق، شارحاً ما آلت إليه أوضاع المدينة بفعل عزلها عن منطقة العقبة السياحية وبفعل خصخصة معامل الدولة من دون رقابة ومن دون احتساب النتائج الاجتماعية والاقتصادية لهذه العملية. لم ينجح كثيرون في نقل الحديث إلى القضايا الأردنية غير الداخلية. سأل الخطيب عن لبنان مثلاً، لكن الوضع الداخلي الأردني عاد وتقدم من جديد. فصلاح البشير، وزير الخارجية السابق، وهو رجل قانون، مأخوذ بالتعديلات الدستورية المقترحة على مجلس النواب والتي تجرى مناقشتها هذه الأيام، والخلاف بين الضيوف على المحكمة الدستورية المقترح إنشاؤها ضمن هذه التعديلات تقدم في الجلسة على الخلاف على مستقبل النظام في سورية. لكن انشغال الأردن بنفسه لا يبدو حقيقياً، أو على الأقل لن يكون ثابتة المرحلة المقبلة، إذ إن مشاكل الإقليم أثقل على المملكة من مشاكلها الداخلية، فإنجاز التعديلات الدستورية وسن قانون جديد للانتخاب يوسع قاعدة مشاركة الغرب أردنيين بالسلطة، سيعاودان إنتاج المخاوف الإقليمية. هذا من جهة ثم إن سورية المضطربة في الجوار ستنضم إلى باقة الدول المضطربة التي تحاصر المملكة، أي العراق وفلسطين والآن سورية. ومثلما كان العراق شأناً داخلياً أردنياً عبر الجسر «الجهادي» الذي أنشأه أبو مصعب الزرقاوي ومساعدوه الأردنيون، وفلسطين أيضاً بفعل الأصول الفلسطينية لأكثر من نصف المواطنين، فإن المملكة تتخوّف أيضاً من تحول سورية شأناً داخلياً أردنياً عبر جماعة الإخوان المسلمين واسعة النفوذ في كلا البلدين. وقد يشعر الزائر بأن انشغال الأردن بنفسه هو نوع من طرد الهموم الكبرى عبر استحضار هموم صغرى، فالنظام غير مهدد حتى الآن بما تتولى الإصلاحات إصلاحه، وباستثناء قانون الانتخاب الذي لم يشرع الأردن بنقاشه، لا يبدو أن ثمة شيئاً جوهرياً يجرى تعديله. نعم، يشعر الزائر بأن الأردن يعالج نفسه من ضغوط احتمالات الخطر الإقليمي الثالث بعد فلسطين والعراق، فأنت الذي قصدته بهدف الوقوف على كيفية مراقبته سورية، فإذا به يراقب نفسه هذه المرة، وبدل الحديث عن المواقف من الانتفاضة السورية يشتعل النقاش عن حلول العائلة كنواة للمجتمع بدل الفرد، في التعديلات الدستورية. وللاستثناء الأردني، إذا اعتبرنا أن الثورات هي القاعدة اليوم في معظم دول المنطقة، هو ليس استثناء من استحقاقات الربيع، وجه آخر، ذاك أن موضوعة المملكة في السنوات العشر الأخيرة كانت «السلفية الجهادية» وما شكلته هذه الظاهرة في الأردن من مركز جذب وتفكير وتأمل. ويبدو أن الثورات العربية التي اقتنصت الجاذبية من هذه الجماعة، اقتنصتها أيضاً من «السلفية الجهادية الأردنية»، من دون أن تدفع المملكة أكلاف الثورة. ف «الحراك الأردني» اختبر مبكراً دلالة انخراط «الجهاديين» في مشهده، فكانت تظاهرتهم في الزرقاء بمثابة تعثر أول ل «الحراك» تمكنت السلطة من استثماره على نحو متقن. نزل السلفيون الجهاديون إلى ساحة التظاهر وبأيديهم سيوف انهالوا بها على رجال الأمن، فكشفوا من جهة سوء تفاهم كبير بينهم وبين «الربيع العربي»، ومن جهة ثانية أثاروا شكوكاً حول جدوى الحراك ومكنوا السلطة من استثمار سلبياته. وإذا كان معيار نجاح الثورات وتصاعد فاعلياتها هو مستوى الصدام بين المحتجين وبين أجهزة السلطة، فإن هذا المعيار يُفسر إلى حد بعيد اقتصار الحراك الأردني على تظاهرات حزبية في عمان وعلى تحركات في مدن الجنوب محكومة بالسقف «الهاشمي» للسلطة. فمؤشرات القمع والفساد في كل من مصر وتونس، ناهيك عن ليبيا وسورية واليمن، ليست نفسها على الإطلاق في الأردن، والقاعدة الاجتماعية للنظام أوسع على نحو لا يقارن مع قواعد حكم تلك الدول. يعترف بهذه الحقيقة أشرس المعارضين في الأردن، ويدرك هؤلاء أن هذه الحقيقة تُصعب مهمة دفع التحرك إلى مستويات أعلى. وعلى رغم ذلك كله المملكة قلقة، لكنه قلق قديم ومقيم في صلب التجربة. والقلق هو المادة التي تعيد صوغ قوة النظام... وعقلانيته.