من بين أكثر الانتقادات إثارةً للملل التأكيد الدائم على أن المجتمعات العربية لا تقرأ، هذا بعد أن تسرد بطبيعة الحال الأرقام والإحصائيات التي تتناول الفرق بيننا وبين المجتمعات الأخرى، باتت هذه الفكرة مملة لأنها لا تحتاج إلى تأكيد أساساً؛ أظنّ أن المشكلة ليست في ضعف معدلات الصفحات المقروءة للإنسان العربي نسبةً إلى غيره فقط، بل الأزمة في المعنى الذاتي الذي تدار به قراءة هذا النص أو ذلك الكتاب.إنها أزمة آليات قراءة قبل أن تكون أزمة قراءة بحتة. منذ انهيار النظرية الشيوعية على المستوى الواقعي والنظريات الشمولية تفقد عصبها وتتلاشى محفزات إنتاجها، تداخلت الغايات مع الوسائل في ظروف إنتاج النص، أخذ الأسلوب قيمة النظرية، امتزج الأسلوب بالنظرية، صار النص الفلسفي لا يحرك المجتمع من خلال صياغته، وإنما تتحرك به الذات من خلال الترحال داخله، والفناء بشعرية النص الفلسفي والغوص بتأويلاته وآفاقه، تحركت أدوات الفعالية بين الذات والموضوع، بين القارئ والنص، بين الخيال والحكاية، تآلف ما كان مختلفاً، بتلاشي النظرية الشاملة ثبت التحالف الضمني بين الفكرة الصلبة والأسلوب الجميل، صار النص بمربعاته يطرح نظرياتٍ متعددة إلى ما لا نهاية، إن النص يخلق النظرية من خلال القراءة التأويلية، ولا يطرحها من خلال الأسلوب المدرسي. "فيكتور لوبيز" يطرح جاذبية الأدب للفلسفة الحديث بنفس مستوى جاذبية العلم للفلسفة في القرن ال16، النص الفلسفي يطرح مربعاتٍ نصية يمكنها أن تنمو وتزدهر من خلال القراءات التأويلية المتعددة. لم يعد مبدأ «نفي النص» على اعتبار مرجعيته النظرية مجدياً؛ القراءات الثرية التي طرحت لنتاج كارل ماركس من قبل فلاسفة القرن الماضي لم تكن بهدف الدعاية للنظرية الماركسية، بل كانت قراءة داخل النص الماركسي لا النظرية الماركسية بمعناها الشمولي، إنها ليست عودةً لأشباح ماركس بالمعنى السياسي، وإنما لما يفتحه نص ماركس من كوى تبين مآزق الإنسان في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، لهذا كانت قراءات: دريدا، هابرماس، جيل دلوز، لآثار ماركس أو أشباحه بداية لتحرير أي نص من مرجعيته المدرسية. من هنا تمت إعادة قراءة "هيراقليطس" مجدداً منذ بعث نيتشه له، وهو الفيلسوف اليوناني القديم، تجدد أدوات القراءة للنصوص هو الذي جعل من فيلسوفٍ مثل هيراقليطس يكون أكثر حداثةً وتجدداً من نصوص فلاسفةٍ معاصرين، إن القراءة هي التي تخلق النص وتبعث فيه الحياة من جديد. لا يمكن نفي أي نص أو إهماله بناءً على انتمائه المدرسي لهذه المدرسة أو تلك. إن انتهاء وهج الفلسفات الوجودية التي لقيت رواجاً في القرن ال20 لا يعني موت نصوصها الفلسفية، لأن قراءة تلك النصوص يعيدها لفلك الفلسفة الحديثة، كما أحيا مفهوم "التقويض" لدى هيدغر فلسفات الحداثة البعدية. إن انتهاء وهج المدرسة لا يدمّر وهج النص ولا يلغيه، بل ولا ينقص منه. لا نشكو من تراجع معدلات القراءة، وإنما من فقرٍ في المعنى الذاتي الذي يمكن أن تكسبه القراءة، إن القراءة مفهوم مترابط يتصل بالفرد تؤثر كل الأفكار والأمراض والمعتقدات والهواجس التي يحملها الإنسان على مستوى إجادته للقراءة، يمكن للقراءة أن تصنع من خلال الاحتكاك بالنص نصاً إضافياً، كما فعل جيل دلوز وهو الفيلسوف المهم حيث خصص أبحاثاً عديدة لقراءة نصوص غيره، كما قرأ فوكو وكانط وديفيد هيوم بقيت تلك القراءات نصوصاً فلسفيةً إضافية تجاوز النصوص التي قرئت بالمعنى الذي تقدمه وتضيفه للحقل الفلسفي. إن العلاقة بين الذات والنص حين تصل حد الفناء بالكتاب، والغرق بالمعنى، والدهشة بشهب التأويل فإنها تصنع وهجاً علمياً مختلفاً، فالقراءة أكبر من التمتمة بالمطابقة أو الصراخ بالنفي. [email protected]